الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم طعم الكرز (Taste of Cherry - 1997) للمخرج عباس كيارستمي

طارق حربي

2022 / 10 / 31
الادب والفن


رجل يائس يبحث عَمَّنْ يُواريه الثرى بعد انتحاره!
يبحث السيد بديع الأربعيني اليائس ذو الوجه المنذهل، بطل فيلم طعم الكرز لعباس كيارستمي (2016 - 1940) الفائز بجائزة السعفة الذهبية عام 1997، عَمَّنْ يُهيل التراب عليه بعدما ينتحر! فراح يجوب بسيارته القديمة في شوارع المدينة، ليلتقي وجه اليائس من جدوى الحياة، بوجوه العمال الفقراء البائسين في مسطر البناء، وحسُبهم أنه ما جاء إلّا باحثاً عن عمال لبناء داره أو ترميمها، لا عَمَّنْ يُهيل التراب على جثته بعد التأكد من وفاته! بعد قليل يلتقط من قارعة الطريق جندياً كردياً ويحمله بسيارته إلى الجبال في ظاهر المدينة، ويريه حفرة قرب شجرة كرز، ثم يساومه بمبلغ 200000 تومان، ما يساوي أضعافاً مضاعفة عن مرتبه الشهري في الجيش! مقابل حضوره في صباح اليوم التالي قرب الشجرة، ليتأكد من وفاته قبلما يُهيل عليه التراب! لكن الجندي يرفض المساومة ويردُّ عليه بأنه لا يحب المشاكل، ولا يُهيل التراب على إنسان مهما كان الثمن! ثم يهرب من السيارة بعد حوار طويل بلا جدوى، مُطلقاً ساقيه للريح في أول فرصة سنحت له! هروب الجندي التراجيكوميدي في المنحدر الجبلي، تأويل لهروبه من وجه الموت من نفس الحرب اللعينة، التي عانينا منها في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وما تزال تصبغ أحلامنا بسوادها ووحولها وأشلاء الجنود المتطايرة! وكان الكثير من العراقيين في الجهة الثانية فكروا في الانتحار مثل السيد بديع في إيران، أو جربوه لكن فشلوا، أو انتحروا فعلاً بعدما طال أمد الحرب العبثية ثماني سنوات! يمضي الشريط البصري الأخاذ ببطء لكن بسلاسة، مثل سيارة بطل الفيلم القديمة المنسابة في الطرق الملتوية المتربة والموحشة في سفوح الجبال، الخالية إلّا من ساحات تدريب الجنود، استعداداً لخوض حرب ما لا شك أنها ترمز إلى الحرب العراقية الإيرانية. ومن العمال الأفغان اللاجئين العاملين في الحقول ومقالع الحصى والتراب. لمشهد سيارات حَمل التراب وهي تفرغه في المنعطف الجبلي ما يحيل إلى طقس الدفن المهيب في مقبرة وادي السلام. في مشهد عاصفة التراب التي تغطي وجه البطل غير الآبه بتحذير العامل الأفغاني له، بضرورة إخلاء المكان لأنه موقع عمل، ألف تأويل لعبثية الموت والخلاص من هذا العالم، بعدما تساوى لدي السيد بديع معنى الحياة والموت، ولم يعد للوجود خلال سنوات الحرب الطويلة أي معنى. ثمة في الفيلم إشارتان واضحتان إلى الحرب العراقية الإيرانية، سيَّما وأن الفيلم مُنتج بعدما وضعتْ أوزارها بعقد من السنوات 1997. الأولى عندما يقول رجل الأمن الأفغاني بأنه أحد المليونين إلى الثلاثة ملايين نازح أفغاني إلى إيران هرباً من الحرب، في ذلك البلد المطحون بالصراعات والحروب ثم حكم الأحزاب الدينية، فيردُّ عليه السيد بديع بأنه هنا حرب أيضاً ، فيقول الأفغاني بأن حرب إيران تخص الإيرانيين وحدهم. أما الإشارة الثانية فهي التي يقول فيها مخرج الفيلم نفسه في نهايته لضابط يدرب جنوده في سفح الجبل - قل لرجالك أن يجلسوا قرب الشجرة ليرتاحوا .. التصوير انتهى! في إشارة واضحة إلى نهاية الحرب المشؤومة. عامل بناء شاب عصبي المزاج يرفض المساعدة قائلاً للسيد بديع إبتعد عن المكان وإلّا سأحطم وجهك! وجندي تحت التدريب خائف يهرب من وجه الموت. وطالب دراسات دينية أفغاني ينصح السيد بديع بما نصح به الدين، مستنداً بذلك إلى آيات قرآنية. وعجوز يعمل في متحف التاريخ الطبيعي (قسم التحنيط) يقبل بالمهمة، مقابل مبلغ يعالج به ابنه المصاب بفقر الدم، ويُقسم على أنه سيُهيل التراب على السيد بديع حتى لو قطعوا رقبته! ثلاث رمزيات يطرحها الفيلم ببساطة شديدة هي أخت البساطة في السينما الإيرانية. ويُلاحظ في معظم أفلام كيارستمي وهو من رواد الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، التقشف نفسه في بِناء المشاهد الدرامية والحوارات القصيرة واللقطات الطويلة، وكأنه يترك للكاميرا أوسع مساحة لحرية التعبير وسبر أغوار أبطاله، بأقل ما يمكن من الموسيقى التصويرية، حيث لم نسمع في هذا الفيلم سوى أصوات العمال ومحرك سيارة بطل الفيلم و انهيال التراب في الخلاء الموحش، وفي نهاية الفيلم صوت الريح والرعد المنذر بالمطر، وقطعة موسيقية من الجاز الأمريكي للويس أرمسترونغ، توحي بالفرح والسعادة والأمل بالحياة. طعم الكرز فيلم مصنوع بعناية وصبر طويل. تتناغم حمولته المأساوية مع جماليات أسلوبية في بناء المشهد السينمائي، إلى درجة طغيان بساطته على كل تقنيات الحداثة، في صناعة شريط بصري تأملي للمخرج الذي كانت بداياته رساماً، فلوَّنَهُ بلون التراب الكابي في معظم أجزائه، ليصنع تحفة سينمائية تُدين الحروب العبثية، وتنتصر للإنسان على يأسه المُطبق تحت حِرابها!
رابط الفيلم
https://www.youtube.com/watch?v=lNVA6LusW5M








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل