الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 11 / 1
الادب والفن


رواية للفتيان








الزرقاء
رائية ديدان








طلال حسن


شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ مناة إلهة
2 ـ ودّ إله الحب
3 ـ ذؤابة ملك ثمود
4 ـ أسود الراعي
5 ـ عميرة زوجة الراعي
6 ـ زرقاء ابنة الراعي
7 ـ الكاهن العجوز
8 ـ قدار الفارس
9 ـ لحيان قوم زرقاء
10 ـ الحجر مدينة لحيان
11 ـ الوزير العجوز وزير الملك ذؤابة
12 ـ القائد قائد جند ذؤابة







" 1 "
ــــــــــــــــــ
وضعتْ الإلهةُ " مناة " ، لمساتِها الأخيرةَ على مخلوقتِها الجديدةِ الشابةِ ، وتراجعتْ قليلاً ، وراحتْ تتأملها ، ثم قالتْ بنبرةِ رضا : الآنَ اكتملتْ .
ونظرتْ الفتاةُ الشابةُ ، بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، إلى الإلهةِ " مناة " ، لكنها لم تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ ، ربما لأنها ترى العالمَ لأولِ مرةٍ .
وابتسمتْ الإلهةُ " مناة " لها ، وهي تتأملها ، وقالتْ : أنتِ أجمل فتاة خلقتُها حتى الآن ، بشرة بيضاء ، وعينان زرقاوان ، وشعر كأنهُ الذهب ، و ..أنتِ جديرة أن تكوني أميرةً ، ابنةَ ملكٍ عظيمٍ ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : سأسميكِ .. زرقاء .
وتمتمتِ الفتاةُ مندهشةً : زرقاء !
واتسعتْ ابتسامةُ الإلهةِ " مناة " ، وقالتْ كأنما تبررُ ما أطلقتهُ عليها من اسمٍ : عيناكِ زرقاوان ..
وتمتمتْ زرقاءُ : أشكركِ .
وأطرقتْ الإلهةُ " مناة " لحظةً ، ثم قالتْ : غداً ستولدين على الأرضِ ، لن تولدي لملكٍ ، ولن تكوني أميرةً ، وإنما ستولدين لراعي أغنامٍ .
ونظرتْ زرقاءُ إليها ، وتمتمتْ : أغنام !
وابتسمتْ الإلهةُ " مناة " ، وقالتْ : الأغنامُ .. ، آه .. لن أحدثكِ عنها ، سترينَها على الأرضِ ، حين تولدين ، وستحبينها ، وخاصةً صغارها .. الحملان .
وصمتتْ الإلهةُ " مناة " ، ثم تنهدتْ وقالتْ : إنني متعبة ، الآلهةُ أيضاً يتعبون ، وخاصةً بعد الخلقِ ، وعليّ أن أذهبَ إلى جناحي ، وأخلدَ إلى الراحةِ .
ولاذت الفتاة زرقاء بالصمتِ ، فسارت الإلهةُ " مناة " مبتعدةً ، لكنها تباطأت في سيرِها ، حين رأتْ الإلهَ الشابَ الوسيمَ " ودّ " مقبلاً ، وبادرَها بالقولِ : أيتها الخالقةُ العظيمةُ ، جئتُ أحييكِ .
وحدقتْ الإلهةُ " مناة " فيه مبتسمةً ، وقالتْ متسائلةً : جئتَ تحييني فقط ، أم .. ؟
وتابعَ الإلهُ " ودّ " ، كأنما لم يسمعْ تساؤلها : تناهى إليّ ، لا أدري من أينَ ، أنكِ خلقتِ فتاةً جديدةً ، جميلةً ، لها عينان زرقاوان ، وبشرة بيضاء ، و ..
وقاطعته الإلهةُ " مناة " قائلةً : أيها الإله ودّ ..
وتابعَ الإلهُ " ودّ " للمرةِ الثانيةِ : أسميتها .. زرقاء .
واستأنفتْ الإلهةُ " مناة " سيرَها ، وهي تقولُ : انتبهْ ، يا ودّ ، إنها طفلة ، ستولدُ غداً على الأرضِ .
ونظرَ الإلهُ " ودّ " إلى زرقاء ، وقد اختفتِ الإلهةُ " مناة " ، وقالَ : ولمَ العجلة ؟
ونظرتْ زرقاءُ إليه مذهولةً ، فتقدمَ منها ، وحدقَ فيها مندهشاً ، وقالَ : أنتِ زرقاء .
وهزتِ الزرقاءُ شعرَها الذهبَ ، وقالتْ بصوتِها الهادىء : نعم ، زرقاء ، هكذا أسمتني خالقتي ..
فقالَ الإلهُ " ودّ " : الإلهةُ مناة ، إنها خالقةُ الجمالِ .
وراحَ الإلهُ " ودّ " يتأملها ، وهو يدورُ حولها ببطءٍ ، ثم توقفَ في مواجهتها ، وقالَ : من المؤسفِ ، يا زرقاءُ ، أنكِ مجردُ إنسانةٍ .
وحدقتْ زرقاءُ فيه مندهشةً ، وتمتمت : إنسانة !
وهزّ الإله " ودّ " رأسَهُ ، وقالَ : نعم ، إنسانة ..
وصمتَ لحظةً ، ثم قال : نحن آلهة ، نقيمُ هنا في السماءِ ، وأنتِ وأمثالكِ من الناسِ ، لا تعيشون معنا في السماءِ ، وإنما تعيشون على الأرضِ ، و ..
وانتظرتْ زرقاءُ ، أن يكملَ الإلهُ " ودّ " كلامَه ، لكنه ظلّ صامتاً ، فقالتْ : و ..
فقال الإلهُ " ودّ " : الآلهة خالدون ، أي يعيشون إلى الأبدِ ، أما الإنسانُ ، وأنتِ إنسان ، فليسَ خالداً ، أي أنه لا يبقى على الأرضِ إلا فترةً محدودةً ، ثم يرحلُ ، أي .. يموتُ .. ويفنى .
وحدقتْ زرقاء فيه مذهولةً ، ثم تساءلتْ : يموت !
فقالَ الإلهُ " ودّ " : أي .. تنتهي حياتُه .. فلا يتحركُ .. أو يتنفسُ .. أو .. ثم يُدفنُ في باطنِ الأرضِ ، التي عاشَ عليها مدةً محددةً من الزمنِ .
ولاذتْ زرقاءُ بالصمتِ حزينةً ، فمدّ الإلهُ " ودّ " يديهِ ، واحتوى يديَها ، وقالَ لها : زرقاء ..
فتطلعتْ إليهِ ، وقالتْ : نعم .
فتابعَ الإلهُ " ودّ " قائلاً : ابقي معي هنا في السماءِ ، سأجعلكِ إلهةً ، وستبقين مثلنا نحنُ الآلهةُ ، خالدةً إلى الأبدِ ، ولن يمسّ الموتُ شعرةً منكِ .
وهزتْ زرقاءُ رأسَها ، وقالتْ : أبي وأمي ينتظراني على الأرضِ ، سأولدُ غداً .
ولاذَ الإلهُ " ودّ " بالصمتِ ، ثم نظرَ إلى زرقاءَ ، وقالَ : أنا إله ، يا زرقاءُ ، وأنا أرى ما ستكونين عليه ، عندما ستولدين وتعيشين على الأرضِ .
وتطلعتْ الزرقاءُ إليه صامتةً ، فتابعَ قائلاً : زرقاء .. ستكونين متنبئة ، أي أنكِ ستعرفين ، مثلُ الآلهةِ ، ما سيحدثُ في القادمِ من الأيامِ ..
وصمتَ الإلهُ " ودّ " لحظةً ، ثم واصلَ كلامَهُ قائلاً : لكن قومَكِ لن يصدقوا ما تتنبئين به ، رغمَ أنه يتعلقُ بحياتهم ومصيرهم في الحياةِ .
وصمتَ الإلهُ " ودّ " ثانيةً ، ثم قالَ : وسيكون بإمكانكِ أن تريْ عن بعد ، لا يستطيع غيرك أن يراه ، مهما حاول ، سترين عن بُعدِ ثلاثة أيام .
وضغطَ الإلهُ " ودّ " بيديهِ على يديها ، وهو يحدقُ في عينيها الزرقاوين ، وقالَ بصوتٍ يشوبه الحزنُ : هذا هو قدركِ ، يا الزرقاء .
وتركَ الإلهُ " ودّ " يديها ، ثم استدارَ ، ومضى ببطءٍ مبتعداً عنها ، وهو يتمتمُ بصوتٍ لم تسمعْهُ الزرقاءُ : يا للأسفِ ، مثلها مكانه الخلودُ .
وقبلَ أن يخرجَ ، التفتَ إليها ، وراحَ يحدقُ فيها ، وقدْ علتهُ إماراتُ الحزنِ والتأثرِ ، وقالَ في نفسِهِ : لقد اختارتْ مصيرَها بنفسِها ، ويا لهُ من مصيرٍ ، لكني لن أتخلى عنها مهما كان الثمنُ .










" 2 "
ـــــــــــــــــــ
انحدرت الشمسُ نحو الغروبِ ، وبدا للراعي أسود ، الذي وخطَ الشيبُ رأـسَهُ ، أن قرصَها المتعبَ ، وقد احمرّ وجههُ ، اقتربَ من قمةِ الجبلِ ، وأنهُ سيتوارى وراءَهُ بعدَ قليلٍ ، وتخيمُ عتمةُ الليلِ وبردِهِ .
فتحاملَ على نفسهِ ، ونهضَ بشيءٍ من الصعوبةِ ، من تحتِ الشجرةِ ، التي كان يجلسُ في ظلها ، ونظرَ إلى أغنامِه ، التي انتشرتْ في سفحِ الجبلِ ، وقد توقفتْ عن تناولِ طعامِها من الحشيشِ ، بعد أن امتلأتْ بطونُها مما أكلته طولَ النهارِ ، كما امتلأتْ ضروعُ إناثها بالحليبِ الدسمِ ، ثم التفتَ إلى كلبهِ ، وصاحَ : قطمير .
وهبّ قطميرُ من مكانهِ ، وردّ نابحاً : عو عو .
وكأنه يقول له : إنني هنا ، يا سيدي ، مرني بما تشاءُ ، وسترى ما يرضيكَ .
وأمرهُ الراعي قائلاً : لقد حانَ وقتُ العودةِ إلى القريةِ ، اجمعِ الأغنامَ ، ولنتهيأ للعودةِ .
وعلى الفورِ ، انطلقّ الكلبُ قطمير ، وهو ينبحُ ، وجمعَ الأغنامَ من سفحِ الجبلِ ، وقادَها نحو الراعي أسود ، الذي هدّه التعبُ ، وسرعان ما انتظمتْ مسيرةُ العودةِ نحو القريةِ ، الراعي أسود في المقدمةِ ، والأغنامُ تسيرُ وراءَه ، وحولها يركضُ نابحاً الكلبُ قطمير .
ولامسَ قرصُ الشمسِ المتعبِ ، قمةَ الجبلِ التي تشمخُ متحديةً في أعالي السماءِ ، والراعي المتعبُ يواصلُ السيرَ أمامَ أغنامَهُ ، وتراءتْ لهُ زوجتهُ عميرة ، المسكينةَ إنها حاملُ ، رغمَ إنها لم تعدْ تلكَ الفتاة الشابة القوية ، التي عرفَها منذ سنينَ لأولِ مرةٍ .
ليتها تلدُ له ولداً ، هذا ما تمناه ، فهو يهرمُ بسرعةٍ ، لا يدري لماذا ، وبدأتْ قواهُ تخورُ ، رغمَ أنه لم يتجاوزْ الخمسين بعدُ ، وزوجته نفسُها لم تعدْ صغيرةً ، وربما هذا حملها الأخيرُ .
لقد حملتْ زوجتُهُ أكثرَ من مرةٍ ، ولمْ تلدْ غيرَ الذكورِ ، لكن أولادَها يذبلون وينطفئون ، قبلَ بلوغِهم السنةَ الأولى من العمرِ ، وهذهِ المرةَ ، يأملُ أن يعيشَ مولودُهُ ، لعله يساعدُهُ في هذه الحياةِ الصعبةِ ، خاصةً وأنهُ يسيرُ حثيثاً نحو الشيخوخةِ والعجزِ .
ووصلَ الراعي أسود كوخَهُ ، المنعزلَ بعضَ الشيء عن أكواخِ القريةِ ، وقرصُ الشمسِ يتهاوى مضرجاً بالحمرةِ وراءَ قمةِ الجبلِ ، فدفعَ أغنامهُ ، بمساعدةِ كلبِه قطمير ، إلى الحظيرةِ ، وأغلقَ عليهم بابَها .
واتجهَ الراعي إلى كوخهِ ، وكلبهُ " قطمير " يهرولُ وراءَهُ ، وهو يبصبصُ بذيلهِ ، ربما ممنياً نفسَه ولو بقليلٍ من الطعامِ ، مهما كانَ نوعُهُ ، والراعي نفسُه جائع ، وهذا ما تعرفهُ زوجتهُ ، ولابدّ أنها الآنَ قد أعدتْ له طعاماً ساخناً يرمّ عظامَهُ ، ويدفئِها .
وعلى مقربةٍ من بابِ الكوخِ ، توقفَ أسودُ ، وقلبهُ يخفقُ بحنانٍ ، هذا صوتُ طفلٍ حديثِ الولادةِ ، يبكي بصوتٍ مستغيثٍ ، ترى لماذا يبكي الأطفالُ هكذا ، حينَ يأتون إلى الدنيا ؟ من يدري ، ربما يعرفون أنهمْ سيواجهون ما لم يواجهوه في جناتِ أرحامِ أمهاتِهمْ .
وانطلقَ الراعي أسود راكضاً ، وقد نسي جوعَهُ ، ودفعَ بابَ الكوخِ ، واندفعَ إلى الداخلِ ، وعلى بقايا ضوءِ النهارِ الغاربِ ، المتسللِ من كوةٍ صغيرةٍ ، رأى زوجتهُ ذابلةً في فراشِها ، وفي حضنِها وليد صغير يبكي .
ومالَ عليها فرحاً ، متسائلاً : ولد ؟
ورفعتْ عينيها إليه ، ولم يرتحْ لنظرتِها المنكسرةِ ، فقالَ بصوتٍ محبطٍ : بنت !
وهزتْ زوجتهُ عميرة رأسَها مترددةً ، كأنها تعتذرُ منهُ ، فاعتدلَ منقبضاً ، لكنه قالَ : لا عليكِ ، سواء كان ولداً أو بنتاً ، فإن أياً منهما لن يعيشَ أكثرَ من سنةٍ واحدةٍ .
وتمتمتْ زوجتهُ قائلةً بشيءٍ من الثقةِ : ستعيشُ .
ورمقها الراعي بنظرةٍ سريعةٍ ، لكنه لم يردّ ، وتابعتْ زوجته عميرة قائلةً ، وهي تتأمل الطفلةَ بعينين أموميتين محبتين : انظرْ كم هي جميلة .
لم ينظر الراعي إلى الطفلةِ ، وتمتمَ كأنما يتمتمُ لنفسِه : كنتُ أتمنى أن يكونَ لي ابن ، وليس بنت ، لعله يكبرُ ، ويساعدني في رعي أغنامي .
وتهاوى جالساً على حشيةٍ ، قبالةَ فراشِ زوجتهِ ، والطفلةُ في حضنِها ، وقالَ بصوتٍ منهكٍ متداعي : آه .. تعبتُ .. تعبتُ .
ونظرتْ إليهِ زوجتهُ عميرة ، وقالتْ كأنما تواسيهِ : انظرْ إليها .. انظرْ ..
لم ينظر الراعي إليها ، لكنها تابعتْ قائلةً : انظرْ .. إنها بيضاء .. وعيناها زرقاوان .. وشعرُها ..
وصمتتْ الزوجةُ عميرة ، ولاذَ الراعي بالصمتِ ، فنظرتْ إليهِ ، وقالتْ متسائلةً : ماذا تريدُ أن نسميها ؟
ونظرَ الراعي إليها صامتاً ، فتابعتْ الزوجة قائلةً : ابنتك الجميلةُ هذه ، ماذا تسميها ؟
ومرة أخرى ، لم يرفعِ الراعي عينيه إليها ، ولم يردّ بكلمةٍ واحدةٍ ، فقالتْ زوجتُه : هذه الطفلة الجميلة ، التي لم أرَ طفلة في شكلها وجمالها ، هديةٌ من السماءِ ..هدية من الإلهةِ العظيمةِ " مناة " ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم تابعتْ قائلةً : لقد جاءتني الإلهة " مناة " في المنامِ ، وقالتْ لي ، سأهديكِ طفلةً جميلةً ، لا شبيهة لها ، أسميها .. زرقاء .
ونظرَ الراعي إليها مذهولاً ، لكنه لم يتفوه بكلمةٍ واحدةٍ ، فقالتِ الزوجةُ عميرة بصوتٍ عميقٍ كأنه آتٍ من السماءِ : ابنتنا .. اسمها .. يا زوجي .. زرقاء .




















" 3 "
ــــــــــــــــــ
على العكسِ مما توقعه الراعي أسود ، وكما تمنتْ زوجتهُ عميرة ، عاشت الطفلة " زرقاء " ، ونمتْ وترعرعتْ بل وتجاوزَ عمرُها السنة ، وهو العمر الذي لم يبلغْهُ إخوتها الذين سبقوها .
ومنذُ وقتٍ مبكرٍ ، وربما قبلَ بلوغها الخامسةَ من العمرِ ، لاحظَ الزوجان أسود وعميرة ، أن ابنتهما الصغيرةَ " زرقاء " ، تختلفُ عن الفتياتِ اللاتي في عمرِها ، ليس في عينيها الزرقاوين وبشرتها الناصعة البياض وشعرها الذهب فقط ، وإنما أيضاً في أمورٍ أخرى أذهلتهما ، وجعلتهما يقفان أمامَها حائرين .
وكم خافا أن يلاحظَ الآخرون ، ما لاحظاه هما أنفسهما على ابنتهما ، في حياتِها اليومية ، سواءَ في البيتِ أو خارجِهِ ، ومن جهتهما فقد حرصا على أن لا يتحدثا بما رأياه أو لمساه ، مما يبدرُ عن ابنتهما " زرقاء " .
ويبدو أن ما لاحظاه ، لم يقفْ عند حدٍ معقولٍ ، فذاتَ يومٍ ، فقدَ الراعي أسود ، حملاً كان يحبُهُ كثيراً ، ربما لأنه كان أجملَ من غيره بكثير ، وقد بحثَ عنهُ في كلّ مكانٍ ، لكن دون جدوى .
وفوجىء بابنتهِ " زرقاء " ، تتقدمُ منه ، وتقفُ أمامهُ ، وتخاطبهُ قائلةً : بابا ..
ودهشَ الراعي أسود لنبرةِ صوتِها ، فحدقَ فيها ملياً ، وقالَ : نعم ، يا بنيتي .
وتابعتِ الطفلةُ " زرقاء " قائلةً : حملكَ الجميلُ ..
وصمتت الطفلةُ " زرقاء " ، فتساءلَ الراعي أسود : حملي ! ما لهُ ، يا بنيتي ؟
فردت الطفلةُ " زرقاء " قائلةً : أعرفُ أينَ هو الآنَ ، وأعرفُ من أخذهُ .
واتسعتْ عينا الراعي أسود ، وقالَ : لكني بحثتُ عنه في كلّ مكانٍ ، ولم أجدْ له أثراً .
ولاذتْ الطفلةُ " زرقاء " بالصمتِ لحظةً ، ثم قالتْ : أنا أعرفُ أين هو ، وأعرفُ أيضاً أنكَ ستجدهُ .
ومدّ الراعي أسود يديهِ ، وأطبقَ بهما على ذراعي ابنتهِ الطفلة " زرقاء " ، وقالَ : أين هو ، يا بنيتي ؟ دليني على مكانهِ ، إن كنتِ تعرفين حقاً .
فردّتِ الطفلةُ " زرقاء " قائلة : عند الكاهنِ .
وحدقَ الراعي أسود فيها ، وقالَ : ماذا تقولين ، يا بنيتي زرقاء ؟ الكاهنُ رجل أمين .
ونظرتِ الطفلةُ بعيداً ، إلى بيتِ الكاهنِ ، الذي لا يراه أبوها ، وقالتْ : ها هو ، يا أبي ، حملكُ الجميلُ ، إنني أراهُ مربوطاً إلى نخلةٍ ، في حديقةِ الكاهنِ .
وعلى الرغمِ من ترددهِ ، وربما لحبهِ الشديدِ لحملهِ الجميلِ ، ذهبَ إلى بيتِ الكاهنِ ، وتوقفَ أمامَ البابِ حائراً ، ماذا سيقولُ للكاهنِ ؟ يا للحرجِ .
وهمّ أن يستديرَ ، ويقفلَ عائداً إلى بيتهِ ، وإذا البابُ يُفتحُ ، ويطلُ منه الكاهنُ العجوزُ نفسهُ ، وحدقَ فيه الكاهنُ ، وقالَ : مرحباً ، يا بنيّ ، تفضلْ .
ووقفَ الراعي أسود حائراً ، ماذا يمكنُ أن يقولَ له ؟ هل يقولُ ، إن ابنتهُ الطفلةَ زرقاء ، التي لم تتجاوزْ الخامسةَ من عمرِها ، تقولُ ، إن حملهُ عند الكاهنِ ؟
وهنا ارتفعَ من داخلِ حديقةِ البيتِ صوتُ حملٍ يمأمىء ، بصوتٍ يعرفهُ جيداً : مآآآآآع .
واتسعتْ عينا الراعي أسود ، وبدونِ إرادةٍ منه ، أشارَ إلى مصدرِ الصوتِ ، وقالَ : هذا الحملُ .. لي .
فحدقَ الكاهنُ العجوزُ فيه ، وقالَ : لكنكَ حتى لم ترهُ بعد ، يا أسود .
فقالَ الراعي أسود : إنني أعرفُ صوتَه جيداً .
ولاذَ الكاهنُ العجوزُ بالصمتِ لحظةً ، ثم قالَ : الحقيقةُ ، أن رجلاً ورعاً رآه في الطريقِ ، ولم يعرفْ من هو صاحبهُ ، فجاء به إليّ ..
ثمّ تنحى قليلاً ، وقال : تفضلْ خذهُ ، مادامَ حملكَ .
وأخذَ الراعي أسود الحملَ ، وعادَ به فرحاً إلى الكوخِ ، ورأتهُ طفلتهُ " زرقاء " ، فنظرتْ إليه مبتسمةً ، وقالتْ : نعم ، هذا هو الحملُ ، الذي رأيتُه مربوطاً في حديقةِ بيتِ الكاهنِ العجوزِ ، يا بابا .
وتبادلَ الراعي أسود ، النظراتِ الحائرةَ القلقةَ ، مع زوجتهِ عميرة ، لكن واحداً منهما ، لم ينبسْ بكلمةٍ واحدةٍ ، حولَ هذا الموضوعِ الغريبِ المذهلِ .
وفيما بعد ، وربما لحبهِ المتزايدِ لابنتهِ " زرقاء " ، راحَ الراعي أسود ، يأخذُها معهُ ، عندما يرعى غنمهُ عند سفحِ الجبلِ ، ومعهما طبعاً الكلبُ قطمير .
وذاتَ يومٍ ، عند حوالي منتصفِ النهارِ ، والراعي أسود يجلسُ تحتَ الشجرةِ ، توقفتْ ابنتهُ " زرقاء " ، وأطرقتْ رأسَها ، ثم نظرتْ إلى البعيدِ ، وصاحتْ : بابا ..
واعتدلَ أبوها أسود في جلستهِ ، وردّ عليها قائلاً : نعم بنيتي ، أنا هنا معكِ ، تحتَ الشجرةِ .
فقالتِ الطفلةُ " زرقاء " كأنها تستغيثُ : الذئبُ ..
ونهضَ الراعي أسود ، وأسرعَ إليها ، وقالَ : لا تخافي ، يا بنيتي ، ليس هناكَ ذئب .
ونظرتِ الطفلةُ " زرقاء " إلى البعيدِ ، وقالتْ بصوتٍ خائفٍ : الذئبُ قادم ، يا أبي .
ومدّ الراعي أسود يدهُ ، وأمسكَ بيدِ الطفلةِ " زرقاء " ، وأخذها معه بهدوءٍ ، وأجلسها إلى جانبهِ تحتَ الشجرةِ الضخمةِ ، وهو يقولُ : لنجلسْ هنا ، ونرتحْ ، لا تخافي يا بنيتي ، أنا معكِ ، ومعنا كلبنُا الشجاعُ قطمير .
وتجاوزَ النهارُ منتصفهُ ، واقتربَ العصرُ ، وفجأة هبّ الكلبُ قطمير من مكانهِ ، وراحَ ينبحُ بصوتٍ متصاعدٍ متوجسٍ : عو عو عو ..
ورفعَ الراعي أسود رأسهُ متسائلاً : ما الأمر ؟
فردتِ الطفلةُ " زرقاء " قائلةً : الذئبُ قادم ، يا بابا .
وهبّ الراعي أسود من مكانهِ ، ورأى كلبهُ قطمير ، ينبحُ بجنونٍ : عو عو عو .
وسرعانَ ما انتفضّ ، وانطلقَ كالسهمِ ، يسبقهُ نباحهُ الغاضبُ " عو عو عو " ، وانقضَ على ذئبٍ ، حاولَ أن يختطفَ أحدَ الحملانِ ، واشتبكَ معه في معركةٍ داميةٍ ، فما كان من الراعي إلا أن هجمَ على الذئبِ ، وانهالَ عليهِ بعصاه الغليظة ، وأجبرهُ على الهربِ .
وجمعَ الراعي أسود ، وابنته الطفلةُ " زرقاء " الأغنامَ ، التي تبعثرتْ خوفاً من الذئبِ ، وحملَ الكلبَ المدمى ، وقفلوا عائدين إلى الكوخِ ، وهناك روى الراعي أسود لزوجتهِ عميرة ما جرى ، فتنهدتْ ، وقالتْ : آه إلهتي مناة ، أية طفلةٍ أعطيتني .






" 4 "
ـــــــــــــــــــــــ
أوتْ زرقاء إلى فراشِها مبكرةً ، وحاولتْ أن تنامَ ، لعلها ترتاحُ مما جرى اليومَ ، عندَ سفحِ الجبلِ ، وأقبلتْ عليها أمُها عميرة ، وقالتْ لها : زرقاء ، حبيبتي ، يبدو أنّ ما جرى اليومَ قد أتعبكِ .
ونظرتْ " زرقاء " إلى أمِها ، وقالتْ بصوتٍ مرتعشٍ : إنني أشعرُ بالبردِ ، يا ماما ، دثريني .
ودثرتها أمُها جيداً ، ثم مدتْ يدَها ، وتحسستْ جبهتَها ، ثم قالتْ مترددةً : بنيتي ، حرارتكِ مرتفعة بعضَ الشيء ، سأعدّ لك قليلاً من البيبون .
فأغمضتْ " زرقاء " عينيها الزرقاوين المتعبتين ، وقالتْ بصوتٍ واهنٍ : لا أريدُ أن أشربَ البيبون ، سأنامُ وأرتاحُ ، ولابدّ أن أكونَ أفضلَ غداً .
وجاءَ الغدُ ، لكنّ " زرقاء " لم تصرْ أفضلَ ، بل ارتفعتْ حرارتُها أكثر مما كانتْ عليه مساءَ البارحةِ ، وعندما رآها أبوها ، قالَ لها : لا داعي لأن تأتي اليومَ معي ، ابقي في فراشكِ حتى تتعافي .
ورغمَ كرهها الشديدِ للبيبون ، أعدتْ لها أمها عميرة شيئاً منه ، وقدمته لها في قدحٍ ، يتصاعدُ منه البخارُ ، وقالتْ : بنيتي ، اشربيه كله ، وستشفين .
وأمسكت " زرقاء " بقدح البيبون ، وقالتْ : كله !
فردتْ أمها عميرة قائلة : نعم ، كله .
ورفعتْ الكوبَ إلى فمِها ، وتجرعتْ بصعوبةٍ كلّ ما فيه من بيبون ، وأعادته إلى أمها ، وقالتْ بصوتٍ مرتعشٍ : آه من البيبون .
ونظرتْ أمُها عميرة إلى قعرِ القدحِ ، وتأكدتْ أن ابنتها " زرقاء " ، قد شربتْ البيبون كله ، فنظرت إليها ، وقالت وهي تغالب ابتسامتها : ستشفين ، يا بنيتي ، بأسرعَ مما تتصورين ، وتغدو حرارتك عاديةً .
وأغمضتْ " زرقاء " عينيها الزرقاوين المتعبتين ، وانتظرتْ بفارغِ الصبرِ أن تشفى ـ بأسرعَ مما تتصورُ ، وقالتْ لأمها عند منتصفِ النهارِ : ماما ، لم يشفني البيبون بأسرعَ مما أتصور .
فردتْ عليها أمها قائلة :صبراً ، يا بنيتي ، لن ينتهي هذا اليومُ إلا وأنتِ معافاة .
ولاذتْ " زرقاء " بالصمتِ ، وقد أطرقتْ رأسَها ، ثم رفعتْ عينيها الزرقاوين ، وقد التمعَ فيهما بريقٌ غريبٌ ، وخاطبتْ أمها قائلةً : ماما ..
وخفقَ قلبُ الأمِ عميرة ، فهي لم ترتحْ للنبرةِ الغامضةِ ، التي تتداخلُ وصوتُ ابنتِها ، فاقتربتْ منها ، وقالتْ : بنيتي ، أنتِ متعبةٌ ، ليتكِ تنامين .
وبدلَ أن تغمضَ " زرقاء " عينيها ، وتخلدَ إلى النومِ ، تابعتْ قائلةً بصوتٍ عميق : جدتي ..
وازدادَ خفقانُ قلبِ الأمِ ، ونظرتْ إليها متوجسةً ، وتساءلتْ خائفةً : ما لها ؟
فردتْ " زرقاء " بصوتٍ هادىء : ستأتي .
وهدأتْ الأمُ عميرة بعضَ الشيء ، وتنهدتْ وقالتْ : جدتكِ امرأةٌ عجوزٌ ، مريضةٌ ، فكيفَ تأتي ؟ أنتِ واهمةٌ ، نامي ، يا عزيزتي ، نامي .
ويبدو أن " زرقاء " نامتْ ، بعد أن خرجتْ أمُها من غرفتها ، لا لأن أمها قالتْ لها نامي ، وإنما لأنها كانتْ متعبةً من الحمى ، وكانتْ بحاجةٍ إلى النومِ .
وقبيلَ المساءِ ، جاءَ الراعي أسود من سفحِ الجبلِ ، بعد أن بقي هناكَ طولَ النهارِ ، فأدخلَ أغنامهُ المتعبةُ الشبعانةُ إلى الحظيرةِ ، وتركَ الكلبَ قطمير على مقربةٍ منها ، ثمّ دخلَ هو إلى البيتِ .
واستقبلتهُ زوجتهُ عميرة ، وقد أعدتْ له طعامَ العشاءِ ، وقبلَ أن يمدّ يدهُ إلى الطعامِ ، بادرَها قائلاً : يبدو أن " زرقاء " نائمةٌ الآنَ .
فقالتْ عميرة : نامتْ قبلَ قليلٍ .
وصمتتْ حزينةً متجهمةً ، فرمقَها الراعي أسود بنظرةٍ خاطفةٍ ، وقالَ لها متوجساً ، وهو يتناولُ طعامهُ : أرجو أن تكونَ زرقاء بخيرٍ .
فردتْ زوجته عميرة قائلةً : اطمئنْ ، إنها بخيرٍ ..
وصمتتْ لحظةً ، ونظرَ أسود إليها ، فقالتْ : قالتْ ما أثارَ خوفيَ وقلقي ..
وتساءلَ أسود : ماذا قالتْ ؟
فردتْ عميرة قائلةً : قالتْ ستأتي جدتي ..
وتساءلَ أسود مندهشاً : أمكِ !
فأجابت عميرة : نعم ، أمي .
ونهضَ أسود ، واتجهَ إلى الخارجِ ليغتسلَ ، وهو يقولُ : لا عليكِ ، أنها محمومةٌ ، تهذي .
لكن " زرقاء " ، ورغمَ أنها كانتْ محمومةً ، لم تكنْ تهذي ، فبعدَ يومٍ واحدٍ ، وعند حوالي منتصفِ النهارِ ، طُرق البابُ ، ونظرتْ الأمُ عميرة إلى " زرقاء " وكأنها تتساءل ، فنهضتْ " زرقاء " من الفراشِ ، وقالتْ : ابقي أنتِ ، يا ماما ، أنا سأفتحُ البابَ .
وأسرعتْ " زرقاء " ، وفتحتْ البابَ ، وسمعتها أمُها عميرة ، وهي عند بابِ الغرفةِ ، تصيحُ فرحةً : جدتي ! أهلاً ومرحباً بكِ ، تفضلي إلى الداخلِ .
ورغمَ ذهولِ الأمِ عميرة ، أسرعتْ إلى الجدةِ ، وراحتْ تمطرها بالقبلاتِ ، وهي ترحبُ بها قائلةً : أمي ، أهلا بكِ ، لم أصدقْ زرقاء ، حين قالتْ أنكِ ستأتين ، فأنتِ على ما أعرفُ مريضةً .
فقالتْ الجدةُ ، وهي تلتفتُ إلى " زرقاء " : علمتُ أولَ أمس ، أن حبيبتي زرقاء مريضةً ، فنهضتُ من فراشي ، ولعنتُ المرضَ ، وجئتُ لأطمئنَ عليها .
وعانقتها " زرقاء " بشدةٍ ، وقالتْ : جدتي ، أنا بخير ، أصبتُ بنزلةِ بردٍ ، وسرعان ما شفيتُ ، وها أنا ، كما تقولُ ماما ، كالحصانِ .
وأمسكتْ الجدةُ يد " زرقاء " ، وسارتْ بها نحو الغرفةِ ، وهي تقولُ : تعاليْ ، يا بنيتي ، نجلسْ هناك ، ونتبادلُ الحديثَ ، إنني مشتاقةٌ إليكِ .
ودخلا الغرفةَ ، فتراجعتْ الأمُ عميرة ، وقالتْ : ابقيا في الغرفةِ ، ريثما أعدّ الطعامَ .
وجلستْ الجدةُ متعبةً على الحشيةَ ، وأجلستْ " زرقاء " إلى جانبها ، وقالتْ لها : زرقاء ، حبيبتي ، سمعتُ الكثيرَ من الأقاويل حولكِ ، صارحيني ، أريدُ أن أعرفَ الحقيقةَ منكِ ، وليسَ من أحدٍ غيركِ .
وارتمتْ " زرقاء " على صدرِ جدتها ، وقالتْ : في باطني ما ينبئني بما سيحدثُ ، حتى بعد ثلاثةِ أيامٍ ، كما أنني أرى حتى ما يبعدُ عنّا ثلاثة أيامٍ .
ولاذتْ الجدةُ بالصمتِ لحظةً ، ثم قالتْ : إنني أصدقك ، لكن لا تخبري أحداً بما ترين .
قالتْ " زرقاء " : جدتي ..
فقاطعتها الجدةُ قائلةً : إنني أخافُ عليكِ .

" 5 "
ــــــــــــــــــــــ
واظبتْ " زرقاء " على الخروجِ مع أبيها ، لرعي الأغنامِ عند سفوحِ الجبلِ ، يرافقهما طبعاً كلبُهم الشجاعُ قطمير ، بعد أن تعافى من الجروحِ ، التي أصابه بها ، ذلك الذئبُ الذي هاجمَهم قبلَ أيامٍ .
ومع مرورِ الأيامِ والأشهرِ والسنينَ ، ونمو " زرقاء " السريعِ ، وتفتحها كما لو كانتْ شجرةَ تفاحٍ ، بدأ أبوها الراعي أسود ، ينتابه القلقُ بسبِ عينيها الزرقاوين ، وبشرتِها الناصعةِ البياض ، وشعرها الذهب .
وما زادَ من قلقهِ ، وتوجسهِ ، ما راحَ يُشاع عنها ، من قدراتٍ خارقةٍ ، في التنبؤ ، والرؤيةِ عن بعدٍ ، ولعلّ الأكاذيبَ والمبالغاتِ ، فاقمتْ تلك الإشاعاتِ ، حتى تحولتْ " زرقاء " إلى ما يشبهُ الأسطورة .
وحاولَ أسود في البدايةِ ، أن يقنعَ زوجتهُ عميرة ، بأن تبقي " زرقاء " في البيتِ ، وتشجعُها على عدمِ الخروجِ ، بلْ وطلبَ منها ، أن لا ترافقه حتى عندَ رعي الأغنام عندَ سفحِ الجبلِ .
ولعل عميرة اقتنعتْ ببعضِ ما قالهُ زوجها أسود ، لكن " زرقاء " لم ترضخْ لوساوسِ أمِها وأبيها ، خاصةً وأنها ترى أن أباها يشيخُ يوماً بعد يومِ ، وتتراجعُ قواهُ ولياقته البدنيةُ ، حتى أنه كانَ يقضي معظمَ وقتهِ متمدداً تحتَ الشجرةِ ، إلى أن يحينَ وقتُ العودةِ إلى البيتِ .
وكادَ ذاتَ يومٍ ، أن يشتبكَ مع فارسٍ متوسطِ العمرِ ، لأنهُ ـ في رأيهِ ـ تعرضَ لابنتهِ " زرقاء " ، وأرادَ أن يتحرشَ بها .
والحقيقة أن هذا الفارسَ ، المتوسطَ العمرِ ـ وهذا ما روته " زرقاء " لأمها ـ مرّ بهما ، وهو على صهوةِ حصانهِ ، وكانا يجلسان جنباً إلى جنبٍ تحتَ الشجرةِ ، فتوقفَ ، وقالَ محيياً : طابَ يومكما .
وحدجهُ الراعي أسود بنظرةٍ صارمةٍ ، ولم يردّ على تحيتهِ ، لكنّ " زرقاء " نظرتْ إليه ، وردتْ قائلةً " بصوتٍ هادىء : طابَ يومكَ .
وبدا أنّ الفارسَ تجاهلَ الراعي أسود ، وحدقَ في " زرقاء " ملياً ، ثم قالَ بصوتٍ هادىء : أيتها الصبيةُ ، إنني عطشان ، وأريدُ منكِ قليلاً من الماءِ .
والتفتتْ " زرقاء " إلى أبيها ، فقالَ لها : ماؤنا قليلٌ ، وقد لا يكفينا حتى المساء .
ومالتْ " زرقاء " على أبيها ، وقالتْ له : الرجلُ عطشان ، يا أبتي ، والماءُ يكفينا ويزيدُ ، سأعطيهِ ما يطفىء عطشهُ .
ولم تنتظرْ " زرقاء " ردّ أبيها ، فاستدارتْ وملأتْ القدحَ ماءً ، وقدمتهُ للفارسِ ، وقالتْ لهُ : تفضلْ .
وأخذَ الفارسُ الكوبَ ، وشربَ ما فيهِ من الماءِ ، وهو ينظرُ إلى " زرقاء " ، ثم أعادهُ لها ، وقالَ : أشكركِ ، إنهُ ماءُ عذبٌ مثلكِ .
وأخذتْ " زرقاء " القدحَ الفارغَ ، وانتظرتْ أن يمضي مبتعداً مواصلاً طريقهُ ، لكنهُ بدلَ ذلك ، مالَ عليها ، وقالَ : ما اسمكِ ، يا حلوة .
ونهضَ الراعي أسود ، وعصاهُ الغليظةُ في يدهِ ، وقالَ للفارسِ : امضِ ، هذا لا يعنيكَ .
ونظرَ الفارسُ إليهِ بهدوءٍ ، وقالَ مبتسماً : لا تغضبْ هكذا ، يا عمْ ، إنما سألتها عن اسمِها .
فتقدمَ الراعي أسود منهُ ، وهو يشدّ قبضتهُ بقوةٍ على العصا ، وقالَ بشيء من الانفعالِ : هذا لا يعنيكَ ، أردتَ ماءً ، فأعطيناكَ ما أردتَ ، والآنَ امضِ .
ولكزَ الفارسُ حصانهُ ، وسارَ به مبتعداً ، وهو يقولُ : ها أنا ذاهبٌ ، وشكراً على الماءِ ، ولتحفظْ الآلهةُ العظيمةُ ابنتكَ النادرةَ الجمالِ .
وعلى أثرِ تلكَ الحادثةِ ، وربما بتأثيرِ أبيها ، نصحتها أمها أن تجنبَ أباها مثل هذهِ المواقفَ ، وتبقى معها في البيتِ ، ولو إلى حينٍ .
وبالفعلِ توقفتْ " زرقاء " عن الخروجِ مع أبيها ، والذهابِ إلى سفحِ الجبلِ لرعي الأغنام ، رغمَ أنها كانتْ تريدُ أن تمدّ يدَ المساعدةِ لهُ ، فقد كان يبدو عليه التعبُ الشديدُ ، وخاصةً عندما يعودُ مساءً مع أغنامهِ ، بعد نهارٍ طويلٍ شاقٍ عند سفحِ الجبلِ .
حتى كان يومٌ ، أفاقَ فيهَ الراعي أسود كعادتهِ ، قبيلَ شروقِ الشمسِ ، وكعادتهِ راحَ يتناولُ طعامهُ ، لكنهُ لاحظَ أن ابنته " زرقاء " تتطلعُ إليهِ ، والقلقُ بادٍ عليها ، فخاطبها قائلاً : أراكِ مقطبةً ، يا بنيتي ، أرجو أن لا يكون هناك ما يقلقكِ .
فقالتْ " زرقاء " بصوتٍ مرتعشٍ : ليتَ الثلجَ يتساقطُ الآن ، ويسدّ كلّ الطرقِ .
وطفتْ فوقَ شفتي الأب أسود ابتسامةٌ قلقةٌ ، وقالَ : ماذا تقولين ، يا بنيتي ؟ نحن في أواخرِ الربيعِ .
وقبلَ أن ينتهي الراعي أسود من كلامهِ ، سارعتْ " زرقاء " إلى القولِ : حسن ، ليت السماءَ تمطرُ ، وتغرقُ الطرقاتِ بالمياهِ .
وتلفتَ الراعي أسود حولهُ ، وقالَ : ما الأمرُ ، يا بنيتي ؟ إن السماءَ صاحيةٌ ، ليس فيها غيمة واحدة ، فكيف تريدينها أن تمطرَ ..
ونهضَ الراعي أسود من مكانهِ ، وهمّ أن يتوجهَ إلى الخارجِ ، ويمضي بغنمهِ إلى سفحِ الجبلِ ، فهبتْ " زرقاء " إلى أبيها ، وتشبثتْ به قائلةً : بابا ، ابقَ معنا هذا اليوم في البيتِ .
وحدقَ الراعي أسود فيها مندهشاً ، وقالَ لها بشيءٍ من الانفعالِ : قولي أيضاً ، أنك ستذهبين لرعي الأغنام ، عند سفحِ الجبلِ ، بدلاً مني .
واقتربت أمها عميرة منها ، وأمسكتْ يدها ، وسحبتها برفقٍ ، وقالتْ : بنيتي ، دعي أباكِ وشأنه .
وقالت " زرقاء " ، وهي تغالبُ بكاءها : ماما ..
ولم ينتظرْ الراعي أسود ، ما ستقوله ابنته " زرقاء " ، ففتحَ البابَ ، ومضى إلى الخارجِ ، فأخذت الأمُ عميرة ابنتها " زرقاء " بين يديها ، وقالتْ لها : بنيتي ، أخبريني ، ما الأمر ؟
وردتْ " زرقاء " بصوتٍ تغرقهُ الدموعُ : ماما .. رأيتُ في المنامِ ..
وقاطعتها أمها عميرة قائلة : في المنامِ ؟ بنيتي ، هذه أضغاثُ أحلامٍ ، لا تلتفتي إليها .
ولاذتْ " زرقاء " بالصمتِ لحظةً ، وهي تنظرُ إلى البعيدِ ، من خلالِ دموعِها ، التي تغرقُ عينيها الزرقاوين ، وقالتُ : ماما .. سيرتجُ الجبلُ .. ويُغرقُ كلّ ما حوله بالصخورِ .





" 6 "
ــــــــــــــــــــ
عند مساءِ اليومِ التالي ، والشمسُ تتوارى متعبةً ، وراءَ قمةِ الجبلِ المجنونِ ، طُرق بابُ البيتِ ، وأشارتْ " زرقاء " لأمها ، وقالتْ بصوتٍ مازالتْ تبللهُ الدموعُ : ماما ، ابقي في مكانكِ ، أنا سأفتحُ البابَ .
وفتحتْ " زرقاء " البابَ ، وإذا الجدة تقفُ مستندةً على عكازِها ، تكادُ تتهاوى على الأرضِ ، والإرهاقُ الشديدُ بادٍ عليها ، فمدتْ " زرقاء " يديها إلى جدتها ، واحتضنتها بقوةٍ ، وقادتها إلى الداخلِ ، وهي تقولُ : جدتي ! يا للآلهةِ ، تعالي إلى الداخلِ ، وارتاحي من عناءِ هذا الطريقِ ، لابدّ أنكِ متعبةٌ جداً .
وأقبلتْ الأمُ عميرة ، وشفتاها المتيبستان ترتعشان من التأثرِ والانفعالِ ، وأخذتْ الجدةَ بين ذراعيها ، وراحتْ تقبلها ، وهي تبكي : أمي ، لقد كُسرَ ظهري ، فقدتُ عمود بيتي ، ماتَ أسود .
وقبلتها الجدةُ مراتٍ ومراتٍ ، وقد اختلطتْ دموعُهما ، وقالتْ لها : لا تبكي ، يا ابنتي ، وإن كان ما فقدته ليس قليلاً ، لكن هذه إرادةُ الآلهةِ ، ولا رادّ لإرادتها .
واقتربتْ " زرقاء " من أمها ، وحاولتْ أن تخففَ عنها قائلةً : كفى ، يا ماما ، كفى ، جدتي متعبة ، وعلينا أن نوفرَ لها الراحةَ .
وخاطبتْ الأمُ عميرة الجدةَ ، وهي تحاولُ أن تتملصَ برفقٍ من بين يدي " زرقاء " قائلةً : حاولتْ زرقاء أن تمنعه من الخروجِ ، ذلك اليومِ ، لرعي الأغنامِ عندَ سفحِ الجبلِ ، لكن دون جدوى .
وربتتْ الجدةُ بيدها الشائخةِ المرتعشة على كتفِ الأمِ عميرة ، وقالتُ لها بصوتها المتهدجِ : بنيتي ، إرادةُ الآلهةِ فوق كلّ شيء ، وهذهِ إرادتها .
وتابعتْ الأمُ عميرة قائلةً ، من بينِ دموعها : وعند حوالي منتصفِ النهارِ ، جنّ الجبلُ ، وارتجّ غاضباً ، وأمطرَ حجارته وصخوره على من حولهِ ، وطمرَ من بين من طمره ، زوجي أسود وجميعَ أغنامه .
وتقدمتْ " زرقاء " وأخذتْ بيدِ الجدةِ ، وخاطبتْ أمها قائلة " ماما ، كفى ، جدتي متعبةٌ جداً ، فلنأخذها إلى الغرفةِ ، وندعها ترتاحُ قليلاً .
وبعدَ العشاءِ ، وقد ارتاحتِ الجدةُ بعضَ الشيء ، جلسنَ ثلاثتهن حولَ موقدِ النارِ ، الجدةُ والأمُ عميرة و " زرقاء " ، يتبادلنَ الحديثَ .
ونظرتْ الجدةُ إلى الأمِ عميرة ، وقالتْ : ابنتي ..
وردت الأمُ عميرة ، بصوتٍ مازالتْ تبللهُ الدموعُ : نعم ، يا أمي .
وتابعتْ الجدةُ قائلةً بصوتِها الشائخِ المرتعشِ : لقد رحلَ الإنسانُ الطيبُ أسود ، ولم يعدْ هناك ما يربطكِ بهذا المكان ، لا أنتِ ولا ابنتكِ العزيزة .. زرقاء .
وصمتتْ لحظةً ، ثم تابعتْ ثانيةً قائلةً : تعاليا معي ، إلي بيتٍ تعرفينه في قريتنا ، وقد عشتِ فيه طفولتكِ ، وما تركهُ لنا أبوكِ الراحلُ ، يكفينا جميعاً العمر كلهُ ، وستعيشان فيه معي معززتين مكرمتين .
ورمقتْ " زرقاء " أمها بنظرةٍ خاطفةٍ ، لكنها لم تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ ، رغم أنها لم تكنْ من رأيي جدتها ، وشعرت " زرقاء " بشيء من الارتياح ، حين سمعت أمها تقول لجدتها : كلا ، يا أمي ، لن نتركَ بيتنا في هذه القريةِ ، إنها قريتنا .
وقالتْ الجدةُ : لكن من كان يربطكِ بها رحلَ .
فردتْ الأمُ عميرة قائلة : أسود لم يرحلْ ، إنه موجودٌ تحت صخورِ الجبلِ ، ولا يمكن أن نتخلى عنه ، ونبتعد عن المكانِ ، الذي هو موجودٌ فيه .
ومالتْ " زرقاء " على أمها ، وطبعتْ على خدها قبلةً حارةً ، ثم نظرتْ إلى جدتها ، وعيناها تغرقان بالدموعِ ، دون أن تتفوه كلمةً واحدةً .

وفي اليومِ التالي ، عند الضحى ، جاءتْ طفلةٌ ربما في التاسعةِ من عمرها ، وهمستْ " لزرقاء " بصوتٍ خافتٍ : زرقاء..
ورمقتْ " زرقاء " أمها بنظرةٍ سريعةٍ ، ثم همستْ للطفلة : نعم .
فقالتْ الطفلةُ بصوتٍ خافتٍ : الكاهنُ يريدكِ ..
وأشارتْ " زرقاء " إلى نفسها ، وقالتْ : يريدني !
فقالتْ الطفلةُ : الآنَ .
ونظرتْ " زرقاء إلى أمها ، فأشارتْ لها الأمُ بيدها ، أن اذهبي ، فأخذتْ " زرقاء " بيدِ الطفلةِ ، وسارتْ بها إلى الخارجِ ، وهي تقولُ : هيا نذهبُ إلى الكاهنِ .
واستقبلها الكاهنُ العجوزُ في الحديقةِ ، ويبدو أنه كان ينتظرها هناك ، وقالَ لها مرحباً : أهلا زرقاء .
وردتْ " زرقاء " قائلةً : أهلاً بكَ سيدي .
والتفتَ الراهبُ العجوزُ إلى الطفلةِ الصغيرةِ ، وقالَ لها : اذهبي أنتِ ، أشكركِ .
وسارَ الكاهنُ بخطواتهِ القصيرةِ المهزوزةِ ، وهو يقولُ : لنجلسْ في الغرفةِ ، يا بنيتي .
وجلسَ الكاهنُ العجوزُ في مكانهِ ، وجلستْ " زرقاء " قبالتهُ ، وقالتْ : سيدي ، أرسلتَ في طلبي ، مرني ، إنني رهنَ إشارتكِ .
وحدقَ الكاهنُ فيها بعينيه الشائختين ، وقالَ : كان في ودي ، أن أزوركِ أنتِ وأمكِ الطيبةَ في بيتكما ، لكن كما تعرفين ، إنني أكادُ لا أقوى على المشي .
وحاولتْ " زرقاء " أن تبتسمَ له ، وقالتْ : لتقوّكَ الآلهةُ ، وتطيلْ في عمركَ .
وتابعَ الكاهنُ العجوزُ قائلاً : لقد أعطيتُ عمري ، وكلّ عافيتي ، لخدمةِ الآلهة في المعبدِ ، لكن المسؤولين غضبوا مني في النهايةِ ، وقالوا لي ، لقد شختَ ، اذهبْ وعشْ بقيةَ عمركَ في قريتكَ ، بعيداً عن المعبدِ .
وصمتَ الكاهنُ العجوزُ ، وأطرقَ رأسهُ ، ثمّ تمتمَ قائلاً كأنما يتمتمُ لنفسه : قلتُ لهم مرةً ، وأنا أتحدثُ عن الإلهةِ " مناة " التي في المعبدِ ، إنّ الإلهةَ ليستْ في المعبدِ ، وإنما في أعماقي .
وصمتَ الراهبُ العجوزُ ، وهو مازالَ مطرقاً رأسهُ ، وطالَ إطراقهُ حتى ظنتْ " زرقاء " أنه ربما أغفى ، فمالتْ عليه ، وهمستْ له قائلةً : سيدي ..
ورفعَ الكاهنُ العجوزُ رأسهُ ، وابتسمَ " لزرقاء " ، وكأنه يعتذرُ منها ، وقالَ : عفواً ، أردتُ أن أقولَ لكِ ، وقد رحلَ أبوكِ الطيبُ أسود ، أنكِ لستِ وحيدةً ، أنتِ ابنتنا جميعاً ، أنتِ ابنةُ هذه القريةِ ، وسنضعكِ أنتِ وأمكِ الطيبةَ ، في عيوننا .
ونهضتْ " زرقاء " ، وقالتْ : أشكركَ ، يا سيدي .

" 7 "
ـــــــــــــــــــــ
مع نهوضِ الشمسِ صباحاً ، نهضتْ الأمُ عميرة ، وتسللتْ بهدوءٍ من الغرفةِ ، خشيةَ أن تفيقَ الجدةُ ، وعلى أثرِها نهضتْ " زرقاء " ، وتبعتها إلى الخارجِ ، وراحتا معاً تعدانِ طعامَ الفطورِ .
ومالتْ الأمُ عميرة ، وهي تعملُ ، على " زرقاء " ، وهمست لها بصوتٍ خافتٍ : زرقاء ..
وردتْ " زرقاء " بصوتٍ خافتٍ ، دون أن تتوقفَ عن العملِ : نعم ، ماما .
وتابعتْ الأمُ عميرة قائلةً ، بنفسِ الصوتِ الخافتِ : جدتكِ ستعودُ إلى بيتها بعد غدٍ .
ورمقتْ " زرقاء " أمها بنظرةٍ سريعةٍ ، وقالتْ : ليتها تبقى عندنا بعضَ الوقتِ .
وقالتْ الأمُ عميرة : أنتِ تعرفين جدتكِ ، قررتْ أن تذهبَ ، وستذهبَ .
وابتسمت " زرقاء " ، وقالتْ : رافقتها السلامةُ .
وابتسمتْ الأمُ بدورها ، ورمقتْ " زرقاء " بنظرةٍ سريعةٍ ، وقالتْ : إنها عنيدةٌ .
ونظرتْ " زرقاء " إلى أمها ، وأشارتْ إلى نفسها ، فقالتْ الأمُ عميرة : مثلكِ طبعاً ، هذا رأيي ، ويشاركني فيه أبوكِ أسود ..
وتوقفتْ الأمُ ، فنظرتْ إليها " زرقاء " ، وقالتْ : ماما ..
وتابعتْ الأمُ عميرة عملها ، وقالتْ بصوتٍ تخنقهُ الدموعُ : لن ندعها تذهبْ وحدها ، سنرافقها أنا وأنتِ ، ونبقى عندها بضعةَ أيامٍ ، ثمّ نعودُ إلى البيتِ .
وتوقفتَ الأمُ عميرة عن العملِ ، ومسحتْ الدموعَ من عينيها ، وأخذتْ أحدَ أطباقِ الطعامِ ، الذي أعدته مع " زرقاء " ، واتجهتْ به إلى الغرفةِ ، وهي تقولُ : لابدّ أن جدتك أفاقتْ الآنَ ، هيا نفطر .
وبعد الإفطارِ ، وقفتْ " زرقاء " تنظفُ الأطباقَ مع أمها ، وتتبادلان الحديثَ عما ستعدانه للغداءِ ، وصمتتْ " زرقاء " لحظةً ، ثم قالتْ " ماما ..
ونظرتْ أمها عميرة إليها ، وقد انتبهتْ لنبرةِ صوتها الحزينةِ ، فتابعتْ " زرقاء " قائلةً : قد نبقى عند جدتي عدةَ أيامٍ ، سأذهبُ الآن بعضَ الوقتِ ، ثمّ أعودُ .
وأدركتْ الأمُ عميرة ، ما تعنيه ابنتها " زرقاء " ، فقالتْ : اذهبي ، ولا تتأخري .
واستدارتْ " زرقاء " ، وقالتْ : نعم ماما .
ثم مضتْ متجهةً إلى الخارجِ ، وأكملتْ الأمُ عميرة تنظيفَ بقيةِ الأطباقِ ، وعيناها تسحان الدموعَ ، ثم توقفتْ ، ومسحتْ عينيها ، ودخلتْ الغرفةَ .
وخرجتْ " زرقاء " من البيتِ ، وسارتْ في نفسِ الطريقِ ، الذي كانتْ تسلكهُ مع أبيها ، حين كانا يخرجان بالأغنامِ صباحَ كلّ يومٍ ، إلى سفحِ الجبلِ ، لترعى هناك طولَ اليومِ حتى تشبعَ .
وخلالَ سيرها الحزين ، كانَ يتراءى لها أبوها ، وما كان يدورُ بينهما من أحاديثٍ مختلفةٍ ، عن أمها ، وجدتها الطيبةِ ، والكاهنِ العجوزِ ، وأهلِ القريةِ ، بل وحتى عن الكلبِ قطمير والأغنامِ .
وأفاقتْ من أيامها الماضيةِ ، حين وصلتْ الشجرةَ الضخمةَ ، التي كان أبوها ، في الفترةِ الأخيرةِ ، يتمددُ متعباً تحتها ، والغريبُ أن الجبلَ المجنونَ ، الذي طمرَ بصخورهِ الضخمة ، كلّ ما حولهُ ، توقفَ عند هذه الشجرةِ ، وكأنه أرادَ أن يُبقي " لزرقاء " ، شيئاً مما يذكرها بأبيها الراعي الطيبِ .
وتناهى إلى " زرقاء " ، وقعُ حوافرِ حصانٍ ، يقبلُ خبباً نحوها ، لكنها لم تلتفتْ إليه ، حتى توقفَ على مقربةٍ منها ، وجاءها صوتُ صاحبهِ ، يحييها قائلاً : طاب صباحكِ ، يا زرقاء .
يا زرقاء ! إنه يعرفُ اسمها ، ترى من يكونُ صاحبُ الحصانِ هذا ؟ ورفعتْ عينيها الزرقاوين الجميلتين إليه ، وتذكرته على الفورِ ، إنه الفارسُ الذي طلبَ منها شيئاً من الماءِ ، فردتْ قائلةً : طابَ صباحكَ .
ورمقته بنظرةٍ سريعةٍ ، وقالتْ : يبدو لي أنكَ لا تمرّ الآنَ صدفةً في هذا المكانِ .
وابتسمَ الفارسُ ، وقالَ مؤكداً : أنتِ محقةٌ ، يا زرقاء ، إنّ مروري ليس صدفةً عابرةً .
وترجلَ عن الحصانِ ، واقتربَ منها ، وقالَ : الحقيقةُ أردتُ أن أراكِ ، ومضيتُ إلى بيتكِ ، فقالتْ لي أمكِ ، أنكِ هنا ، فجئتُ إليكِ .
ولاذتْ " زرقاء " بالصمتِ ، فتطلعَ الفارسُ إلى الصخورِ ، التي أسقطها الجبلُ المجنونُ ، وقالَ : علمتُ بما جرى لأبيكِ ، صحيحٌ أنه كان غاضباً مني ، لكني أعرف إنه إنسانٌ طيبٌ ، ويخافُ عليكِ .
ودمعتْ عينا " زرقاء " ، وقالتْ : إنه هنا ، تحتَ هذه الصخورِ ، هو وأغنامهُ التي كان يحبها .
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : والآن ماذا تريدُ مني ؟
ونظرَ الفارسُ إليها ، وقالَ بصوتهِ الهادىء : سألتُ عنكِ بعد أن أعطيتني كوباً من الماءِ ، وعرفتُ اسمكِ ، كما عرفتَ أنكِ ترينَ في قلبكِ ، وترينَ على البعدِ أيضاً ، ما لا يراهُ الآخرون .
وهزتْ " زرقاء " رأسها ، وقالتْ : هذا صحيحٌ .
وقال الفارسُ : لابدّ أنكِ ، يا زرقاء ، تحبين أهلكِ ومدينتكِ ، وتفعلينَ أيّ شيءٍ من أجلهما .
فقالتْ " زرقاء " : إنني أحبهما فعلاً ، وأدعو الآلهةَ أنْ تحفظهما من كلّ مكروهٍ .
وقال الفارسُ : هذا لا يكفي ، يا زرقاء ، أنتِ ترينَ بقلبكِ كما ترينَ من بعيدٍ ، وعليكِ أنْ تضعي هذا في خدمةِ أهلكِ ومدينتكِ .
ولاذتْ " زرقاء " بالصمتِ حائرةً ، فتابعَ الفارسُ قائلاً : أعداؤنا قبيلةُ ثمود يتربصون بنا ، وربما سينقضون علينا في أيةِ لحظةٍ ، فإذا رأيتِ بقلبكِ ، أو من بعيدٍ ، ما يبيتونه ، تعالي إلى المدينةِ ، وأخبريني بذلكَ .
وقالتْ " زرقاء " : لكني لا أعرفُ أحداً في المدينةِ .
فقال الفارسُ : اتصلي بكاهنِ المعبدِ ، وهو من أنصارنا ، وسيأخذكِ إليّ ، أنا .. الأمير قدار .
فردتْ " زرقاء " : الأمير قدار ، لك ما تريدُ .
وأمسك الفارسُ حصانهُ ، واعتلاهُ بقفزةٍ واحدةٍ ، وقبلَ أن ينطلقَ به ، قالَ " لزرقاء " : أستودعكِ الآلهةَ ، أنتظرُ أخباراً منكِ ، إلى اللقاء .
فردتْ " زرقاء " ، وهي تتابعه بعينيها الزرقاوين الجميلتين : رافقتكَ السلامةُ .


" 8 "
ــــــــــــــــــ
تركتْ الأم عميرة وابنتها " زرقاء " بيتهما ، في اليومِ التالي ، وانتقلتا للسكنِ مع الجدةِ في قريتها ، لبضعةِ أيامٍ ، لعل هذا يخففُ الحزن عن " زرقاء " وأمها .
لكن هذه أل " بضعةُ أيامٍ " ، امتدتْ وامتدتْ إلى غير حدودٍ ، فقد مرضتْ الجدةُ ، ولم يكنْ لها من يعتني بها ، فاضطرتا للبقاءِ إلى جانبها ، حتى تشفى .
وخلالَ هذهِ الأيامِ ، التي بقيتْ " زرقاء " فيها إلى جانبِ جدتها ، بدأ يتململ ما يشبه البركانُ في باطنها ، وتراءى لها الأميرُ قدار أكثرَ من مرةٍ ، ينظرُ إليها منتظراً فوقَ حصانهِ ، ماذا يجري ؟
وتطورَ الأمرُ إلى دمدمةٍ ، آتيةٍ من بعيدٍ ، كأنها دمدمةُ عاصفةٍ ، تنذرُ بالهبوبِ والشرِ المستطيرِ ، وصارتْ تفزّ من النومِ ، أكثرَ من مرةٍ في الليلةِ الواحدةِ ، ويتراءى لها وكأن الأميرَ قدار ، على حصانهِ الفتيّ ، يهتفُ بها من بعيدٍ : زرقاء .. أفيقي .
وتفيقُ " زرقاء " ، وقد أفاقتْ هواجسُها وقلقها ومخاوفها ، والدمدمةُ تتفاقمُ في باطنها ، وتتحولُ إلى جندٍ .. وخيولٍ .. وأسلحةٍ .. من جهةٍ ، ومن الجهةِ الأخرى ، رقصٍ .. وغناءٍ .. وولائم ، ماذا يجري ؟
ومع الأيامِ ، بدأتْ تتوضحُ صورُ الجندِ والخيولِ والأسلحةِ ، إنهمْ الأعداءُ يتهيأون من وراءِ الحدودِ ، للانقضاضِ على المدينةِ ، في غفلةٍ من أميرِها المغمورِ بالرقصِ والغناءِ والولائم .
وتراءى لها الأميرُ قدار ، واقتربَ منها هذه المرةَ على حصانه ، وقالَ لها : زرقاء ، تعالي إلى المدينةِ ، واتصلي بالكاهنِ في المعبدِ ، ليوصلكٍ لي .
وفي الليلِ ، أسرّتْ " زرقاء " لأمها بصوتٍ خافتٍ : ماما ، عليّ أن أذهبَ إلى المدينةِ .
واتسعتْ عينا الأم قلقاً ، وتمتمتْ : المدينة !
وردتْ " زرقاء " قائلةً : لابدّ أن أذهبَ ، يا ماما .
وتابعتْ الأمُ قائلةً : المدينةُ ليستْ قريةً صغيرةً ، يا بنيتي ، وأنتِ لم تذهبي إلى المدينة’ من قبل .
وقالتْ " زرقاء " بصوتٍ يوحي بالخطورةِ : الأمرُ غايةٌ في الأهميةِ ، يا ماما .
وتساءلتْ الأمُ مذهولةً : ما الأمرُ ؟
وحدقتْ " زرقاء " في أمها ، وقالتْ : الأمرُ يتعلقُ بالأميرِ قدار ، الذي حدثتك عنهُ .
وهزتْ الأم رأسها ، وقالتْ : أنتِ مجنونةٌ ، يا زرقاء ، أخشى أن يكلفكِ هذا غالياً .
ورغمَ هذا ، اتفقتِ الأمُ عميرة ، مع جارٍ للجدةِ متوسط العمرِ ، كان يذهبُ للتسوقِ من المدينةِ بين حينٍ وآخرَ ، أن يأخذَ " زرقاء معه ، ويوصلها حيثُ تريدُ .
وأخذَ الرجلُ " زرقاء " ، أردفها خلفهُ على حصانهِ ، ومضى بها إلى المدينةِ ، التي لم تكنْ تبعدُ كثيراً عن القريةِ ، ووصلا إلى المدينةِ حوالي منتصفِ النهارِ ، وقالَ " لزرقاء " : هذهِ هي المدينةُ ، يا بنيتي ، أين تريدينَ أن أوصلكِ ؟
وردتْ " زرقاء " ، وهي تتلفتُ مبهورةً بما تراهُ من المدينةِ : أريدُ أن توصلني إلى المعبدِ .
وضحكَ الرجلُ ، وقالَ مازحاً : ما كانَ لك أن تقطعي كلّ هذهِ المسافةَ لتصلي في المعبدِ .
وابتسمتْ " زرقاء " لكنها لم تردّ عليه ، فتابعَ قائلاً ، وهو يتجهُ بحصانهِ نحو المعبدِ : الآلهةُ ليسوا موجودين في المعبدِ فقط ، إنهم موجودون في كلّ مكانٍ .
ووصلَ الرجلُ بحصانه ، و " زرقاء " وراءهُ ، إلى المعبدِ ، وتوقفَ أمامَ بوابته الضخمةِ ، وقالَ " لزرقاء " : بنيتي ، هذا هو المعبدُ .
وترجلتْ " زرقاء " عن الحصانِ ، ورفعتْ عينيها الزرقاوين الجميلتين إلى الرجلِ ، وقالتْ له : شكراً جزيلاً ، يا عم .
وتطلعَ الرجلُ إلى عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالَ لها بصوتٍ مفعمٍ بالرجاءِ : زرقاء ..
وردتْ " زرقاء " قائلةً : نعم ، يا عم .
فقالَ الرجلُ ، وهو مازالَ يتطلعُ إلى عينيها الزرقاوين الجميلتين : ادعي الآلهةَ العظيمة الطيبةَ ، أن تهبني ابنةً في جمالكِ .
وابتسمتْ " زرقاء " ، وقالتْ : سأدعو لك ، يا عم .
واستدارتْ " زرقاء " ، ومضتْ مسرعةً إلى داخلِ المعبدِ ، فصاحَ الرجلُ ، وهو على حصانهِ : لا تنسي ، يا بنيتي ، زرقاء .
ولوحتْ له " زرقاء " ، دون أن تتوقفَ ، وردتْ عليه قائلةً : لن أنسَ ، اذهبْ ، رافقتكَ السلامة .
ودخلتْ " زرقاء " المعبدَ ، والتقتْ في الممر بكاهنٍ ، ربما في حوالي الخمسين من العمر ، فاقتربتْ منه قليلاً ، وحيته قائلةً : طابَ يومُكَ ، يا سيدي .
وتوقفَ الكاهنُ ، وردّ قائلاً ، وهو يتمعنُ في عينيها الزرقاوين : طابَ يومكِ ، يا ابنتي ..
وصمتَ لحظةً ، وقالَ وهو مازالَ يتمعنُ في عينيها الزرقاوين : أنتِ .. زرقاء .
وابتسمتْ " زرقاء " مترددةً ، وقد توردَ خداها ، وقالتْ : نعم ، يا سيدي ، أنا زرقاء .
وبدتْ مسحةٌ من الحزنِ على الكاهنِ ، وقال : عرفتكِ من عينيكِ الزرقاوين الغريبتين ..
ومالَ عليها ، وقالَ بصوتٍ خافتٍ : لقد حدثني عنكِ الأميرُ .. قدار ، يا ابنتي ، وقالَ إنكِ قد تأتين إليّ ، ربما في يومٍ قريبٍ .
وبشيءٍ من الحماسِ ، قالتْ زرقاء : وها أنا قد أتيتُ ، خذني إليه ، يا سيدي .
وتلفتَ الكاهنُ حولهُ بحذرٍ ، ثم قالَ لها بصوتٍ خافتٍ : الأميرُ قدار في السجنِ الآنَ ..
وشهقتْ " زرقاء " متمتمةً : في السجنِ !
فتابعَ الكاهنُ قائلاً بنفسِ الصوتِ الخافتِ : الملكُ أمرَ بالقبضِ عليهِ ، وزجهِ في السجنِ مع بعضِ أتباعهِ ، وهربَ البعضُ الآخرَ منهم إلى الغابةِ .
وتساءلتْ " زرقاء " حائرةً : لماذا ؟
وأخذَ الكاهنُ بيدها ، ومشى بها إلى داخلِ المعبدِ ، وهو يقولُ : سأوضحُ لكِ هذا فيما بعد ..
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ ، وهو مازال يمشي " بزرقاء " : ابقي هنا مع الكاهناتِ ، الأيامُ حبلى ، ولا أحدَ يدري ماذا قد يحدثُ ، في الأيامِ القادمةِ .




" 9 "
ـــــــــــــــــــ
رحبتْ الكاهناتُ " بزرقاء " ، وكنّ خمس كاهناتٍ يتوزعنَ في عدةِ غرفٍ صغيرةٍ ، ورعينها وكأنها واحدةٌ منهنّ ، لكنهنّ في معظمِ الأحيانَ ، كنّ منشغلاتٍ عنها ، في إدارةِ شؤون المعبدِ .
ويبدو أنّ أصغرهنّ عمراً ، وربما كانتْ في حوالي العشرين من العمرِ ، قد ظنتِ أن زرقاء ستدخلُ الديرَ ، وتصيرَ كاهنةً مثلهنّ ، فتعاطفتْ معها ، وصارتْ أقربهنّ إليها ، ترعاها ، وتتبادلُ الحديث معها ، وتقدمُ لها أفضلَ ما في مطبخِ المعبدِ من طعامٍ .
وذاتَ مرةٍ ، قالتْ لها مبتسمةً : الكاهنُ يرتاحُ إليكِ ، وسيرعاكَ حتى لتنسي العالمَ الذي جئتِ منهُ ، إنهُ إنسانٌ رقيقٌ ، وطيبٌ للغايةِ .
لم تقلْ " زرقاء " لأيّ من الكاهناتِ ، ولا حتى للكاهنةِ الصغيرةِ ، التي تنامُ معها في الغرفةِ نفسها ، بأنها لم تأتِ إلى المعبدِ ، لتكونَ كاهنةً فيه ، وأن وجودها معهنّ ربما لن يطولَ كثيراً ، فهي تعرفُ الآنَ أنّ هذا سرٌ ، ولابد أن الكاهنَ لا يريدها أن تتحدثَ به إلى أقربِ الناسَ إليها ، وهذا ما حرصتْ عليه ، ففيه خطرٌ على حياةِ الأميرِ قدار نفسِه .
وظلتْ " زرقاء " وحدها يومين ، تذرعُ غرفتها طولاً وعرضاً ، وقلما تتبادلُ الحديثَ إلا مع الكاهنةِ الصغيرةِ ، التي تشاركها غرفتها ، ولتي لا تلتقي بها على الأغلبِ ، إلا عندما تأويان إلى فراشيهما للنومِ .
وفي اليومِ الثالثِ ، قبيلَ منتصفِ النهارِ ، جاءتها الكاهنةُ الصغيرةُ ، وهمستْ لها : زرقاء ..
ونظرتْ زرقاء إليها ، وقد شعرتْ بأهميةِ ما تريدُ أن تقوله لها ، وردتْ قائلةً : نعم .
فتابعتْ الكاهنةُ الصغيرةُ قائلةً بصوتٍ خافتٍ : الكاهنُ يريدُ أن يراكِ الآنَ .
وتساءلتْ " زرقاء " : أينَ ؟
فردتْ الكاهنةُ الصغيرةُ قائلةً : تعالي ، سآخذكِ إليه .
وخرجتا من الغرفةِ ، ومضتا عبرَ ممراتِ المعبدِ ، حتى وصلتا غرفةَ الكاهنِ ، فتوقفتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، وقالتْ : هذه غرفةُ الكاهنِ ، اطرقي البابَ ، وادخلي .
واستدارتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، ومضتْ مبتعدةً ، وتقدمتْ " زرقاء " من بابِ الغرفةِ ، وطرقته برفقٍ ، وسرعانَ ما جاءها صوتُ الكاهنِ من الداخلِ : ادخلي .
ودخلتْ " زرقاء " مترددةً ، وإذا الكاهنُ يقفُ وسطَ الغرفةِ ، وبدا أنه ينتظرُها بفارغِ الصبرِ ، فحيتهُ قائلةً : طابَ مساؤكَ ، يا سيدي .
وردّ الكاهنُ قائلاً : أهلاً بكِ زرقاء ..
وأشارَ إلى مقعدٍ قريبٍ ، وقالَ : تفضلي اجلسي هنا .
وجلستْ " زرقاء " حيثُ أشارَ الكاهنُ ، الذي بادرها قائلاً : أرجو أنكِ مرتاحةً هنا في المعبدِ .
فردتْ " زرقاء " قائلةً : أشكركَ ، الكاهناتُ جميعهن يهتممن بي ، ويرعينني ، ويسهرنَ على راحتي ، وخاصةً الكاهنةُ الصغيرةُ .
وابتسمتْ " زرقاء " ، وأضافتْ قائلةً : يبدو أنهن جميعاً ، يعتقدن أنني دخلتُ المعبدَ لأكون كاهنةً .
وابتسمَ الكاهنُ بدورهِ ، وقالَ : أن تكوني كاهنةً في معبدنا ، هذا كسبٌ كبيرٌ لنا .
وسكتَ لحظةً ، نظرَ خلالها إلى " زرقاء " ، ثم قالَ : اتصلتُ بالأميرِ قدار في السجنِ ، بواسطة أحد أصدقائنا ، وأعلمتهُ بوصولكِ إليّ ، وطلبَ مني أن أخبركَ ، بأنهُ يريدكِ أن تراقبي الوضعَ في قلبكِ ، والرؤيةَ عن بعدٍ ، وأنتِ هنا معنا في المعبدِ .
وصمتَ الكاهنُ ثانية ، ثم رمقها بنظرةٍ سريعةٍ ، وقالَ : الأميرُ قدار حدثني ، عندما كنّا نلتقي ، عن قدراتك الخارقةَ ، إنه يشيدُ بكِ دائماً .
وقبلَ أن تخرجَ " زرقاء " ، وتعودَ إلى غرفتها ، التي تقيم فيها مع الكاهنةُ الصغيرةُ ، قالَ لها الكاهنُ ، وهو يشدّ على يدها : تعالي إليَ ، كلما تراءى لك ما هو مهمٌ عن تحركاتِ الأعداءِ ، وأردتِ أن أوصلهُ إلى الأميرِ قدار ، اذهبي الآنَ ولتحمكِ الآلهةُ .
وظلتْ " زرقاء " تتواصلُ سرّاً مع الفارسِ قدار ، عن طريقِ الكاهنِ ، وراحتْ توصلُ إليه كلّ ما تراه في باطنها ، من استعداداتٍ ، يقومُ بها أعداؤهم الثموديون في مدينتهم ، مما يدلُ على قربِ انقضاضهمْ المفاجىء على المدينةِ ، والفتكِ بسكانها الآمنين ، بينما ينشغلُ ملكهم وأعوانه باللهو والحفلاتِ والولائم الباذخةِ .
وذاتَ يومٍ ، وقد علمتْ " زرقاء " ، من الكاهنةِ الصغيرةِ ، أنّ الكاهنَ في غرفتهِ ، قصدتهُ عند الضحى ، وطرقتْ عليه البابِ برفقٍ ، ويبدو أنه عرفَ طرقتها ، فقد جاءها صوتهُ على الفورِ : ادخلي .
ودخلتْ " زرقاء " ، فبادرها الكاهنُ قائلاً ، وهو يحدقُ فيها : خيراً يا زرقاء .
وتقدمتْ " زرقاء " من حيثُ يجلسُ ، وقالتْ : أرجو أن لا أشغلكَ عن مهامكَ .
فنهضَ الكاهنُ ، وقالَ لها : أنتِ يا زرقاء ، وما ترينه في قلبكِ هذه الأيامُ ، هو أهمّ مهامي .
ومالتْ " زرقاء " نحوه ، وقالتْ بنبرةٍ توحي بالخطورةِ : يبدو يا سيدي ، أنّ أعداءنا الثموديين ، قد أوشكوا أن يفرغوا من استعداداتهم للانقضاضِ علينا ، والفتكِ بالأهالي الآمنين في بيوتهم .
ولاذَ الكاهنُ بالصمتِ لحظةً ، وقد اربدّ وجههُ ، ثم قالَ : أيعقلُ أن كلّ هذا يغيبُ عن الملكِ ؟
وهزتْ " زرقاء " رأسها ، وقالتْ : من يدري ، لعل انشغالاته باللهو والحفلات والولائمِ مع من يحيطُ به ، وضعَ غشاوةً على عينيهِ ، وجعلته لا يرى ما يحيقُ به وبالمدينةِ والناسِ الآمنين من أخطارٍ .
ونظرَ الكاهنُ بعيداً ، ثمّ قالَ : وربما أيضاً حرصُ الأعداءِ على أن لا يتسربَ إلى الملكِ وأعوانهِ اللاهين ، أي شيءٍ مما يشيرُ إلى نشاطاتهم واستعداداتهم لبدءِ الحربِ ، والهجومِ على مدينتنا .
ولاذتْ " زرقاء " بالصمتِ مفكرةً ، ثم رفعتْ رأسها ، ونظرتْ إليه ، وقالتْ : سيدي ..
وردّ الكاهنُ قائلاً : نعم ، يا زرقاء ، قولي ما عندكِ .
وتابعتْ زرقاء قائلةً : ماذا لو علمتُ باقترابِ الهجومِ ، أو بدئه من قِبلِ الأعداءِ ؟
وحدقَ الكاهنُ فيها متحيراً ، فقالتْ " زرقاء " مندفعةً : لا مناصَ ، سأذهبُ إلى الملكِ ، حتى لو كان الليلُ قد انتصفَ ، وأصارحهُ بالحقيقةِ .




" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
فزتْ " زرقاء من النومِ مرتعبةً ، وقد غمرَ وجهها العرقُ ، وما إن اعتدلتْ في فراشها ، حتى أفاقتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، واعتدلتْ هي الأخرى ، وأسرعتْ إلى " زرقاء " ، وقالتْ لها : زرقاء ، ما الأمرُ ؟ أراكِ مرعوبةً ، والعرقُ ينزّ من وجهكِ .
ونهضتْ " زرقاء " من الفراشِ ، واتجهتْ إلى البابِ ، وهي تقولُ : يجبُ أن أرى الكاهنَ .
ولحقتْ بها الكاهنةُ الصغيرةُ ، وقالتْ لها : الكاهنُ مستغرقٌ في النومِ الآنَ ، ولا يجبُ أن نوقظهُ .
والتفتتْ " زرقاء " إليها ، وقالتْ : لديّ مهمةٌ مصيريةٌ في القصرِ ، ولابدّ أن أنجزها الليلةَ .
وتمتمتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، وقد اتسعتْ عيناها ذهولاً : ماذا ؟ القصر ! هذا ..
وقاطعتها " زرقاء " ، وهي تفتحُ البابَ ، وتحاولُ الاندفاعَ إلى الخارجِ : ابتعدي عن طريقي ، دعيني أذهبْ ، وأنجزْ المهمةَ ، ابتعدي ، الوقتُ يمرّ .
وأفلتتْ " زرقاء " ، ومضتْ مسرعةً ، فلحقتْ بها الكاهنةُ الصغيرةُ ، وحاولتْ أن تمسكَ بها ، وهي تقولُ بصوتٍ خافتٍ : زرقاء ، توقفي ، لا تكوني مجنونةً ، نحنُ في منتصفِ الليلِ .
وحثتْ " زرقاء " خطاها ، وهي تردّ عليها قائلةً : تعالي ، أغلقي بابَ المعبدِ ورائي ، لابدّ أن أذهبَ إلى القصرِ ، مهما كلفَ الأمرُ .
وحتى بعدَ أن فتحتْ " زرقاء " بابَ المعبدِ ، حاولتِ الكاهنةُ الصغيرةُ أن تثنيها عن الخروجِ ، لكنها قالتْ لها دون أن تلتفتَ إليها : أغلقي البابَ ، وعودي أنتِ إلى فراشكِ ، ولا تخبري أحداً بما أقدمتُ عليهِ .
وأغلقتْ الكاهنةُ بابَ المعبدِ ، بعد أن ابتعدتْ " زرقاء " في الظلامِ ، الذي يخففُ منه ضوءُ القمرِ الشاحبِ ، وعادتْ إلى الغرفةِ ، واندستْ في فراشها ، ولم تستغرقْ في النومِ إلا في ساعةٍ متأخرةٍ من الليلِ .
ووصلتْ " زرقاء " إلى القصرِ ، الذي كانتِ المشاعلُ والقناديلُ تحوّلُ ليلهُ إلى نهارٍ ، وأصواتُ الآلاتِ الموسيقيةِ والأغاني التي تصدرُ عنه ، تُسمعُ من بعيدٍ ، وعند البابِ ، استوقفها حارسان ، ونهرها أحدهما قائلاً : ابتعدي ، ممنوعٌ الدخولُ إلى القصرِ .
فردتْ " زرقاء " عليه قائلةً : لابدّ أن أقابلَ الملكَ لأمر في غايةِ الأهميةِ .
وحدقَ فيها الثاني ، وقالَ للأولُ : الأفضلً أن تستدعي أحدَ الضباطِ ، وليتحملْ هو المسؤوليةَ .
وهزّ الأولُ رأسهُ ، وقالَ : رأيٌ صائبٌ ، سأدخلُ إلى القصرِ ، وأخبرُ أحدَ الضباطِ بالأمرِ .
وأسرعَ الحارسُ الأولُ إلى الداخلِ ، وسرعانَ ما عادَ ، ومعهُ ضابطُ شابُ ، وأشارَ إلى " زرقاء " ، وقالَ : هذه هي الفتاةُ ، يا سيدي .
واقتربَ الضابطُ من " زرقاء " ، وحدقَ فيها ملياً ، ثم قالَ لها : لا أحدَ يقابلُ الملكَ ، وخاصةً في وقتٍ كهذا ، إلا لأمر في غايةِ الأهميةِ .
فرمقتهُ " زرقاء " بنظرةٍ خاطفةٍ ، وقالتْ له بصوتٍ متهدجٍ : لو لم يكنْ الأمرُ في غايةِ الأهميةٍ ، يا سيدي ، لما أتيتُ في هذا الوقتِ من الليلِ .
وتساءلَ الضابطُ : وما هو هذا الأمرُ الهامُ ؟
وردتْ " زرقاء " قائلةً : الأمرُ سريّ ، ولن أفضي به إلا للملكِ نفسهِ ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم نظرتْ إلى الضابطِ ، وقالتْ : أخشى لو اضطررتُ للإفضاءِ به إليكَ الآنَ ، أن ينزلَ بك الملكُ العقابَ الذي تستحقهُ .
وصمتَ الضابطُ لحظةً ، ثم سارَ إلى الداخلِ ، وهو يقولُ : الأمرُ خطيرٌ في الحالتين ، تعالي معي .
وقادَ الضابطُ " زرقاء " ، عبْرَ ممراتِ القصرِ المضاءةِ ، إلى قاعةٍ واسعةٍ جميلةٍ ، تعجّ بالضيوفِ والجواري والخادماتِ ، وهمسَ " لزرقاء " قائلاً : توقفي هنا ، سأستأذنُ الملك ، ولنرَ ماذا يقررُ .
وشقّ الضابطُ طريقهُ بصعوبةٍ ، بين الجارياتِ والخادماتِ والضيوفِ المترنحين ، حتى وصلَ الملكَ ، الذي تحيطُ به باقةٌ من الجواري ، ورفعَ الملكُ رأسهُ المترنحَ إلى " زرقاء " ، وهو يصغي إلى ما يقوله له الضابطُ ، ثم رفعَ يدهُ ، وأشارَ لها ، أن تعاليْ .
وعلى الفور ، مضتْ " زرقاء " في هذا الخضمِ الغريبَ المترنحِ ، حتى وصلتْ إلى الملكِ ، وتوقفتْ أمامهُ مضطربةً مبهورةً ، وقالتْ : مولاي ..
وحدقَ الملكُ ، وهو لا يكادُ يقفُ على قدميهَ ، متأملاً عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وبشرتها البيضاءَ الصافيةَ ، وشعرها الذهبَ ، ثم قالَ : أنتِ جميلةٌ ، جميلةٌ جداً ، ولابدّ أنّ اسمكِ جميلٌ مثلكِ ..
وقبلَ أن تتفوهَ " زرقاء " بكلمةٍ ، سألها : ما اسمكِ ؟
لم تجبْ " زرقاء " على سؤالهِ ، وإنما قالتْ بصوتٍ متهدجٍ : المدينةُ في خطرٍ ، يا مولاي ..
وضحكَ الملكُ ، وهو يتأملها بعينيهِ المخمورتين ، ويقولُ : دعكِ من المدينةِ ، يا جميلتي ، فالخطرُ الحقيقيُ هو في عينيكِ الزرقاوين الجميلتين جداً ..
وتغاضتْ " زرقاء " عما يقولهُ الملكُ ، وهو يترنحُ في مكانهِ ، وتابعتْ قائلةً : الأعداءُ المدججونَ بالسلاحِ والحقدِ يتربصون بنا ..
واستمرَ الملكُ في ضحكهِ ، وهو يقولُ : إذا غسلتها الجواري جيداً ، وبدلنَ ملابسها ، بملابس جديدةً موشاةً بالذهبِ والأحجارِ الكريمةِ ..
وقاطعتهُ " زرقاء " بشيءٍ من الانفعالِ قائلةً : كفى ، لقد أتمّ الأعداءُ استعداداتهم ، وسيهجمون على المدينةِ وأهلها عاجلاً وليس آجلاً ..
وصمتَ الملكُ لحظةً ، ثم حدقَ في " زرقاء " ، وقالَ : اسمعي ، يا بنت ، ليس لنا أعداءٌ ، وهؤلاءِ جيراننا لم نؤذهم ، ولن يؤذوننا ، نعم ، نحن جيران .
واندفعتْ الدموعُ إلى عيني " زرقاء " ، وأغرقتْ صوتها وهي تردّ على الملكِ قائلةً : مولاي ، إنني أراهمْ ، هؤلاء الجيران ، في قلبي ، يزحفون ..
وقاطعها الملك : آه .. أنتِ ..
وصاحتْ " زرقاء " من بين دموعها : نعم .. أنا .. زرقاء .. أيها الملك ..
ونظرَ الملكُ إلى الضابطِ غاضباً ، وقالَ وهو يترنحُ : لو لم أكن منتشياً ، أيها اللعين ، لعلقتكَ أنتَ وهذه المجنونةُ على شجرةٍ من أشجارِ حديقةِ القصرِ .
وصمتَ لحظةً ، ثم صاحَ بالضابطِ : خذها ، واطردها من القصرِ ، قبلَ أن أقطعَ رأسَها .



" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
افتقدَ الكاهنُ " زرقاء " ، وأرادَ أن يراها ، ويقف على ما رأته في قلبها ، فأرسلَ إلى الكاهنةِ الصغيرةِ ، التي تشاركها في غرفةٍ واحدةٍ .
وانتابَ القلقُ الكاهنةَ الصغيرةَ ، خشيةَ أن يكونَ الكاهنُ ، قد عرفَ بخروجِ " زرقاء " ليلاً من المعبدِ ، وذهابها إلى القصرِ ، دون علمٍ منهُ .
ودخلتْ عليه مرتبكةً ، بعد أن طرقتِ البابَ ، وتمتمتْ قائلةً : طابَ صباحكَ ، يا سيدي .
وحدقَ الكاهنْ فيها ، وارتعبتْ في داخلها ، لابدّ أنهْ عرفَ ، وسيحملني مسؤولية ذلك ، لكنهْ ردّ قائلاً : طابَ صباحكِ ، أخبريني ..
وقبلَ أن تتفوهَ الكاهنةُ الصغيرةُ بكلمةٍ ، تابعَ الكاهنُ قائلاً : لم أرَ زرقاء اليوم .
واتسعتْ عينا الكاهنةِ الصغيرةِ ، وتأتأتْ قائلةً : سيدي .. إنها في فراشها .. شبهُ مريضةٍ ..
وتوقفتْ عن الكلامِ لحظةً ، ثم انهارتْ قائلةً : ربما أصابها بردٌ ، حين خرجتْ البارحةَ من المعبدِ ليلاً ، لقد .. لقد ذهبتْ إلى القصرِ ، قالتْ إنها ستخبركَ بالأمرِ ، وعادتْ من القصرِ بعدَ ساعاتٍ ، وهي شبهُ مريضةٍ ، ولم تنمْ حتى الصباح .
ونهضَ الكاهنُ من مكانهِ ، وقالَ للكاهنةِ الصغيرةِ : تعاليْ معي ، أريدُ أن أراها .
وخرجَ الكاهنُ من الغرفةِ مسرعاً ، والكاهنةُ الصغيرةُ تهرولُ في أثرهِ ، وتوقفَ على مقربةٍ من غرفةِ " زرقاء " ، والتفتَ إلى الكاهنةِ الصغيرةِ ، وقالَ لها : ادخلي ، واعلميها بقدومي .
ودخلتْ الكاهنةُ الصغيرةُ إلى الغرفةِ ، وسرعان ما عادتْ ، وقالتْ للكاهنِ : سيدي ، تفضلْ ادخلْ ، إنها مستيقظةٌ ، تنتظركَ .
ودخلَ الكاهنُ ، ودخلتْ الكاهنةُ الصغيرةُ وراءهُ ، وإذا " زرقاء " تقفُ قربَ السريرِ ، شاحبةً ، مرتعبةً ، شبهُ مريضةٍ كما قالتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، ورفعتْ عينيها الزرقاوين إليه ، وقالتْ : مرحباً .. سيدي .
والتفتَ الكاهنُ إلى الكاهنةِ الصغيرةِ ، وقالَ لها : اذهبي ، وانتظري في الخارجِ .
وعلى الفور ، ودون أن تتفوه بأيةِ كلمةٍ ، خرجتْ الكاهنةُ الصغيرةُ ، وأغلقتْ البابَ وراءها ، ونظرَ الكاهنُ إلى " زرقاء " ، فأطرقتْ رأسها ، وقالتْ : عفواً سيدي ، لأني خرجتُ من الديرِ ليلةَ البارحةِ دون علمكَ .
وبدلَ أن يؤنبها الكاهنُ ، أو يعاتبها على الأقلِ ، قالَ لها : لابدّ أن الأمرَ كان مفاجئاً ومستعجلاً .
وهزتْ " زرقاء " رأسها ، وقالتْ : نعم ، يا سيدي ، تزاحمتْ عليّ الرؤى ، وأردتُ أن أنقلها إلى الملكِ مباشرةً ، لكن ..
وصمتتْ " زرقاء " مختنقةً بدموعها ، فقالَ الكاهنُ : لا مكانَ لرؤاكِ في ليالي الأميرِ .
وتابعتْ " زرقاء " قائلةً : ليته لم يصدقني فقط ، لقد طردني ، وهددني بالشنقِ فوقَ شجرةٍ من أشجارِ حديقةِ قصرهِ ، أنا والضابطُ الذي أدخلني عليهِ .
وصمتتْ " زرقاء " ثانيةً ، وقد ازدادَ انفعالها ، وقالتْ : الأمرُ خطيرٌ للغايةِ ، يا مولاي ، ما العمل ؟
فأطرقَ الكاهنُ رأسهُ متأثراً ، وقالَ بصوتٍ متهدجٍ : لا أدري ، ولكن لابدّ أن نفعلَ شيئاً ، سأتصلُ بالأميرِ قدار ، وسنرى ما يشيرُ به علينا .
وخرجَ الكاهنُ من الغرفةِ ، وقالَ للكاهنةِ الصغيرةِ ، التي كانت تقفُ على مقربةٍ من البابِ : ابقي إلى جانبها ، ولا تتركيها وحدها في الغرفةِ أبداً .
فأحنت الكاهنةُ الصغيرةُ رأسها ، وقالتْ : أمركِ ، يا سيدي ، لن أتركها لحظةً واحدةً .
ودخلتْ الكاهنةُ الصغيرةُ إلى الغرفةِ ، وإذا " زرقاء " جاثية أمام السريرِ ، فأسرعتْ إليها ، وقالتْ : ما الأمرُ ، يا عزيزتي زرقاء ، ما الأمرُ ؟
وهزتْ " زرقاء " رأسها ، دون أن ترفعَ عينيها الزرقاوين ، وقالتْ بصوتٍ منهارٍ مبللٍ بالدموعِ : الويلُ قادمٌ .. الويلُ قادمٌ .. الويلُ قادمٌ .
وقبيلَ المساءِ ، من ذلك اليومِ ، جاءَ الضابطُ الشابُ ، الذي عرّضَ نفسهُ للخطرِ ، وقدّمَ " زرقاء " إلى الملكِ نفسهِ ، والتقى بها أمامَ الكاهنِ ، وقالَ لها : تعالي معي ، حدثتُ القائدَ عنكِ ، ويريدُ أن يراكِ .
ولم تردّ " زرقاء " مباشرةً ، وإنما رفعتْ عينيها إلى الكاهنِ ، وكأنها تنتظرُ رأيهُ ، فقالَ لها : اذهبي ، يا ابنتي ، ولتكنْ الآلهةُ معكِ .
وذهبتْ " زرقاء " مع الضابطِ الشابِ ، الذي قدمها إلى القائدِ ، وكان رجلاً قد تجاوزَ منتصفَ العمرِ بقليلٍ ، وقالَ له : سيدي ، هذه هي الفتاةُ زرقاء ، التي حدثتكَ عنها ، وعن قدراتها الخارقةِ .
وحدقَ القائدُ في " زرقاء " ، وقالَ : أنتِ زرقاء ..
وردتْ " زرقاء " قائلةً : نعم .
وتابعَ القائدُ قائلاً : ترين بقلبك ..
وقالتْ " زرقاء " بصوتٍ هادىءٍ : وأرى بعيني أيضاً على بعد ثلاثةِ أيامٍ .
ونهضَ القائدُ من مكانهِ ، وقالَ " لزرقاء " : تناهتْ إلينا أخبارٌ غير مؤكدةٍ ، عن الثموديين ، يُقالُ أنهمْ يستعدون سراً لمهاجمتنا في وقتٍ قريبٍ ..
وصمتَ القائدُ ، فقالتْ " زرقاء " : رأيتُ هذا بقلبي ، وقلبي لا يكذبُ ، نحنُ في خطرٍ ..
وتساءلَ القائدُ : ماذا رأيتِ ؟
وردتْ " زرقاء " قائلةً : رأيتُ أعداءنا الثموديين يبدؤون الزحفَ نحونا .
وقالَ القائدُ : أريدُ أن ترينهم ليسَ فقط بقلبكِ ، وإنما أيضاً بعينيكِ الزرقاوين .
فقالتْ " زرقاء " : أنا لا أرى بعيني هاتين ، إلا على بُعد ثلاثةِ أيامٍ فقط .
ونظرَ القائدُ إلى الضابطِ الشابِ ، وقالَ له : خذها سراً من الغدِ ، إلى التلِ المرتفعِ خارجَ المدينةِ ، ودعها تنظرُ من هناك ، إلى الجهةِ التي قد يأتي منها الأعداءُ ، لعلّ في ما تقوله بعضَ الحقيقةِ .
فأحنى الضابطُ الشابُ رأسهُ ، وقالَ : أمرُ سيدي .
ونظر القائد بعيداً ، وتمتم قائلاً : قد يغضب الملك مني ، لكني سأخبره في الوقت المناسب .




" 12 "
ـــــــــــــــــــــ
زحفَ الثموديون بجيشِهم الجرارِ ، المدربِ ، المدججِ بأحدثِ وأقوى الأسلحةِ ، في سريةٍ تامةٍ ، يقودهمْ الملكُ ذؤابة ، نحو مدينةِ الحجرِ ، التي يسكنها الديدانيون ، قومُ " زرقاء " والفارس قدار .
وإلى جانبي الملكِ ذؤابة ، في مقدمةِ الجيشِ ، كان كبارُ القادةِ ، على خيولهم المطهمةِ ، من بينهم قائدهُ المحنكِ ، ووزيرهِ العجوزِ ، الذي كان العامةُ يطلقون عليه اسمَ " الثعلب العجوز " .
وفي اليومِ الأولِ من زحفهمْ ، قطعوا المسافةَ المقررةَ لليومِ الواحدِ ، من بينِ خمسة أيامٍ ، يستغرقها الزحفُ من مدينة الثموديين إلى مدينةِ الديدانيون .
وخطةُ مسيرةِ هذا الزحفِ ، التي تستغرقُ خمسةَ أيامٍ ، بين المدينتين ، رسمها الوزيرُ العجوزُ ، رغمَ أن الجيشَ يتمكنُ من قطعها في أربعةِ أيامٍ ، والهدف منها ، أن يكونُ الجندُ مرتاحين ، عندما تحينُ ساعةَ المواجهةِ بين الجيشين ، هذا إذا لم تتحققْ المفاجأة ، التي خططَ لها الوزيرُ العجوزُ ، بمساعدةِ القائدِ المحنكِ .
وفي اليومِ التالي من بدءِ الزحفِ ، قطعوا المسافةَ المقررةَ تقريباً ، وقد تعمدوا ـ بتخطيطٍ من الوزيرِ العجوزِ أيضاً ـ أن يتوقفوا قبلَ نهايةِ المسافةِ المقررةِ ، وسطَ غابةٍ كثيفةِ الأشجارِ .
وفي الساعاتِ الأولى ، من تلكَ الليلةَ ، اجتمعَ مع الملكِ في خيمتهِ ، القائدُ المحنكُ ، وكذلك الوزيرُ العجوزُ ، أو الثعلبُ العجوزُ ، كما يُسميه العامةُ ، يتدارسون خططَ الأيامِ التاليةِ للزحفِ على الديدانيين .
وبادرَ الملكُ ذؤابة ، وزيرهُ العجوزَ ، فقالَ : نحنُ إلى الآن ، عملنا بما تشيرُ لنا أن نعملهُ ، حتى أننا توقفنا وسطَ هذه الغابةِ ، قبلَ أن نقطعَ المسافةَ المقررةَ لليومِ الثاني ، والآن ماذا ترى أن نعملَ ؟
ورفعَ الوزيرُ العجوزُ إلى الملكِ ، عينيه المتقدتين ، رغمَ تقدمه في العمرِ ، وقالَ : الجزءُ الأهمُ من المسيرةِ ، والذي سيقررُ مصيرَ خطتنا ، سيبدأ منذ الغدِ .
وقاطعهُ الملكُ قائلاً : مهما كان الأمرُ ، يا وزيري ، فنحن منتصرون في معركتنا هذهِ .
وسارعَ القائدُ المحنكُ إلى تأييدِ الملكِ ، فقالَ : هذا أكيدٌ ، يا مولاي ، وقد أعددنا جيشنا لهذا النصرِ .
ولاذ الوزيرُ بالصمتِ ، حتى انتهى الملكُ من كلامهِ ، وكذلك القائدُ المحنكُ ، فرفعَ عينيه إلى الملكِ ، وتابعَ قائلاً : أنتَ محقٌ ، يا مولاي ، لكني أواصلُ التخطيطَ ، تحتَ إشرافكمْ طبعاً ، لتخطيطُ أسهلُ ، لا يكلفُ جيشنا المنتصرَ ، أية خسارةٍ تذكر .
وحدقَ الملكُ ذؤابة فيه ، وقالَ : حسناً ، يا وزيري ، هذا ما أتمناه ، تكلمْ ، إنني أسمعكَ .
وقال القائدُ المحنكُ : ليتهم لا يعرفون بزحفنا نحوهمْ ، حتى اليوم الرابع ..
وقاطعهُ الوزيرُ العجوزُ قائلاً : بل إنني أخططُ ، لأن لا يعرفون بزحفنا ، حتى اللحظاتِ الأخيرةَ .
وابتسمَ الملكُ ، وقالَ : ستكونُ هذه معجزةٌ من الآلهةِ ، أوضح ْخطتكِ ، يا وزيري العجوز .
ونظرَ الوزيرُ العجوزُ إلى الملكِ ، وقالَ : يمكنني أن أؤكدَ ، يا مولاي ، أن الدودانيين لم يرونا حتى الآن ، لكني أخشى أنهم سيروننا منذُ الغدِ ..
وصمتَ الوزيرُ العجوزُ ، وتساءلَ القائدُ المحنكُ مندهشاً : ولماذا منذُ الغدِ ؟
فردّ الوزيرُ العجوزُ قائلاً بصوتٍ يوحي بالخطورةِ : لأن لديهم الرائيةَ .. زرقاء .
وتساءلَ الملكُ : تلكَ الرائيةُ التي حدثتني عنها ؟
وهزّ الوزيرُ العجوزُ رأسه ، وردّ قائلاً : نعم ، يا مولاي ، هي نفسها ، إنها عدونا الأولُ ، ويمكنها أن ترانا ، ونحن على بعد ثلاثة أيامٍ ، أي سترانا غداً ، وتخبرُ قومها بالزحفِ ، وبذلك تحرمنا من مفاجأتهم .
وبدأ الانفعالُ يتملكُ القائدَ المحنكَ ، وانفجرَ قائلاً : اقترحتُ عليكَ ، منذُ أن حدثتنا عنها ، أن نقومَ بتصفيتها ، والتخلصِ منها ، لكنكَ لم توافقْ .
ونظرَ الوزيرُ العجوزُ إليه ، وقالَ بهدوءٍ : لو قمنا بتصفيتها ، لربما وقعَ القاتلُ في أيديهم ، وتحتَ التعذيبِ ، سيعترفُ بأننا وراءَ هذهِ العملية ، وسيعرفون على الأغلبِ ، هدفنا منها .
وتساءلَ القائدُ : والآن ، ما العمل ؟
وحدقَ الملكُ فيه ، وقالَ : أشرْ علينا .. أنتَ العجوزُ .
وابتسمَ الوزيرُ العجوزُ ، فقدْ أدركَ ما يشيرُ إليه الملكُ ، وقالَ بنبرةِ المازحِ : هنا نحتاج إلى المكر ، مكر .. الثعلبِ العجوزِ .
وقالَ الملكُ مجارياً الوزيرً العجوزَ : أمكرْ .
فقالَ الوزيرُ العجوزُ : نحنُ الآن في الغابةِ ، يا مولاي ، وإذا زحفتْ الغابةُ ، هل سيصدقُ أحدٌ ، أن الأغصانَ الخضراءَ ، مدججةٌ بالسلاح ؟ِ
وهزّ الملكُ رأسهُ ، وقالَ : تعني .. !
وتابعَ الوزيرُ العجوزُ مبتسماً : نعم ، يا مولاي ، جندٌ من الأشجارِ الخضراء ..
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ : كلّ جندي من جندنا ، يقطعُ غصناً كثيفَ الأوراقِ ، من أشجارِ هذه الغابةِ ، ويتخفى وراءهُ ، وفي يدهِ سلاحهُ القاتلُ ، ويزحفُ مع الجندِ الآخرين نحو .. ، ولن تبقى لحيان ..
ونهضَ الملكُ منتشياً ، وخاطبَ القائدَ قائلاً : هذه الغابةُ الزاحفةُ ، إنها خطةُ المنتصرِ ، مرْ الجندَ جميعاً ، أن ينهضوا غداً مع الفجرِ ، وليقطعْ كلّ منهم غصناً من أغصانِ أشجارِ هذه الغابة ، ويتخفى وراءهُ ، ولنبدأ الزحفَ على مدينةِ الحجر ، ولتبقَ ثمودُ ، وتنمحي الحجر وأهلها إلى الأبدِ .
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ : ولتمتْ .. زرقاء .
وتمتمَ الملكُ ذؤابة من بينِ أسنانه : آه ستقعُ زرقاء بين يديّ عاجلاً أو آجلاً ، ولن تبقى زرقاء .
وطوالَ ساعاتٍ وساعاتٍ ، من صباحِ اليومِ التالي ، انهمكَ جندُ ثمود ، بإشرافِ القائدِ المحنكِ نفسه ، في قطعِ الكثيرِ من الأغصانِ الكثيفةِ الأوراقِ ، والتخفي بأسلحتهم وراءها ، وحوالي منتصف النهارِ ، زحفتْ الغابةُ المدججةُ بالسلاحِ ، نحو مدينةِ الديدانيين .







" 13 "
ـــــــــــــــــــــ
في الأيامِ الثلاثةِ التاليةِ ، ولأكثرَ من مرةٍ في اليومِ الواحدِ ، كان الضابطُ الشابُ ، يذهبُ إلى المعبدِ ، ويأخذُ " زرقاء " إلى التلِ المرتفعِ ، القريبِ من مدينةِ الحجرِ ، ومن هناك تقفُ " زرقاء " ، تراقبُ الآفاقَ البعيدةَ بعينيها الزرقاوين الثاقبتين ، ويخاطبُها الضابطُ الشابُ قائلاً : ها .. أخبريني .. الملكُ ينتظرُ .
وترمقهُ " زرقاء " بنظرةٍ سريعةٍ ، وتعودُ للنظرِ إلى الآفاقِ البعيدةِ ، وتقولُ : لا شيء حتى الآن .
ويقولُ لها الضابطُ الشابُ : انظري جيداً ، لعلكِ ترين بعضَ ثمود مقبلين .
فتنظرُ " زرقاء " إليه ، وتقولُ : إنني أراهم بقلبي ، إنهم قادمون ، وسأراهم قريباً بعينيّ .
وعند المساءِ ، من كِلا اليومين ، كان الضابطُ الشابُ ، يقبلُ على الملكِ ، ويقفُ أمامهُ محبطاً ، ويقولُ : لم ترَ زرقاء أحداً من ثمود اليومَ ، يا مولاي .
ويحدقُ فيه الملكُ غاضباً ، ويقولُ له : ولن ترى أحداً منهم ، لا اليومَ ولا في المستقبلِ .
ورغمَ ترددهِ ، وخوفهِ من الملكِ ، يقولُ الضابطُ الشابُ : لكنها تراهم .. بقلبها .
فردّ الملكُ قائلاً بشيءٍ من الانفعالِ : قلبي يقولُ لي ، إن قلبها اللعين يكذبُ .
وفي اليومِ الرابعِ ، عند حوالي الضحى ، فوجىء الضابطُ الشابُ ، " بزرقاء " تصيحُ بصوتٍ متهدجٍ ، : تعال .. انظرْ ..
وأسرعَ الضابطُ الشابُ إليها ، وهو يقولُ بشيءٍ من الانفعالِ : ماذا ؟ ماذا أنظر ؟
وأشارتْ بيدها إلى الأفقِ البعيدِ ، وهي تكادُ تتقافزُ : انظرْ ، انظرْ هنا ، وسترى كلّ شيءٍ .
ونظرَ الضابطُ الشابُ ، ولم يرَ شيئاً ، فقالَ لها : لا أرى شيئاً ، أنتِ زرقاء ، وليس أنا .
والتفتتْ " زرقاء " إليه ، وقالتْ : ليتَ الملكَ هنا ، ليعرفَ أخيراً أنني .. زرقاء .
وبدا الحماسُ على الضابطِ الشابِ ، وقالَ : سأذهبُ إلى الملكِ ، وأخبرهُ ، إذا كنتِ واثقةٌ من الأمرِ .
وبنفسِ الحماسِ ، قالتْ له " زرقاء " : اذهبْ ، وسأكونُ عندَ حسنِ ظنكَ .
وذهبَ الضابطُ الشابُ على حصانهِ مسرعاً ، ودخلَ على الملكِ ، وانحنى له ، وقالَ لاهثاً : مولاي ..
وحدقَ الملكُ فيه ، وقالَ : خيراً .
وتابعَ الضابطُ الشابُ قائلاً : ترجو زرقاء ، أن تأتي إلى التلّ ، وترى ما رأتْ .
ونهضَ الملكُ ، وقالَ : أرجو أن لا يكونَ ما رأته ، كان بقلبها أيضاً .
فردّ الضابطُ الشابُ قائلاً : لا يا مولاي ، ما رأته قبلَ قليلٍ ، كان بعينيها وليس بقلبها فقطْ .
ومضى الملكُ إلى الخارجِ ، والضابطُ الشابُ يهرولُ وراءه ، وهو يقولُ : لن أصدقَ هذه الزرقاء ، حتى أرى بعيني اللتين لم تكذبا عليّ في يومٍ من الأيامِ ، ما تدعي أنها رأته بقلبها وعينيها .
ووصلَ الملكُ إلى التلِ ، وترجلَ عن حصانه ، وراحَ يصعدُ التلّ المرتفعَ لاهثاً ، وهو يقولُ ، والضابطُ الشابُ يصعدُ في أثرهِ : هذه الزرقاء ، إن لم تصدقْ هذه المرةَ ، سأريها ما لم تره في عمرها اللعين كلهِ .
وتقدمَ الملكُ من زرقاء ، عندما بلغَ أعلى التلِ ، وقالَ لها بصوتٍ متقطعٍ : زرقاء ..
والتفتتْ زرقاء إليه مضطربةً ، وقالتْ : مولاي ..
وقالَ الملكُ ، وصوتهُ مازال يتقطعُ : حدثيني بشكلٍ واضحٍ عما رأيتِ بعينيكِ .
ونظرتْ " زرقاء " إلى البعيدِ ، وقالتْ مترددةً : رأيتُ وأرى غابةً من الأشجارِ ، تزحفُ نحونا ..
واتسعتْ عينا الملكِ غضباً ، وقالَ : غابة !
وتابعتْ " زرقاء " قائلةً : لابدّ أن جندَ ثمود يتخفون وراءها ، وهم مدججون بالسلاحِ .
والتفتَ الملكُ إلى الضابطِ الشابِ ، وقالَ له غاضباً : جئتَ بي إلى هنا ، لتحدثني مجنونةٌ عن غابةٍ من غاباتِ ثمود ، تزحفُ إلينا بكاملِ أشجارها ، الويلُ لك ..
وقبلَ أن يتفوهَ الضابطُ الشابُ بكلمةٍ واحدةٍ ، استدارَ الملكُ غاضباً ، ومضى ينحدرُ عن التلِ ، ولحقَ به الضابطُ الشابُ ، وهو يرددُ : مولاي .. مولاي .
وتابعَ الملكُ قائلاً ، دون أن يتوقفَ : إنها مخبولةٌ ، وقد عرفتُ أنها مخبولةٌ ، منذ البدايةِ ، غابةٌ من الأشجارِ ؟ يا للجنون .
وهبطَ الملكُ التلَ ، وهو يلهث ، ثم امتطى حصانهُ ، وقبلَ أن يمضي مبتعداً ، اقتربَ منه الضابطُ الشابُ منهاراً ، وقالَ له : مولاي ، أرجوكَ ، اسمعني ..
وقاطعهُ الملكُ بغضبٍ قائلاً : خذ هذهِ المجنونةَ إلى المعبدِ ، وقلْ للكاهنِ أن يبقيها هناكَ العمرَ كلهُ ، وإلا قتلتها ، وخلصتُ الناسَ من جنونها .
ولكزَ الملكُ حصانهُ بقوةٍ ، فانطلقَ به نحو مدينةِ الحجر ، وعادَ الضابطُ الشابُ إلى " زرقاء " ، وأطبقَ على ذراعها ، وقالَ لها : تعالي ..
وحاولتْ " زرقاء " أن تتملصَ منهُ ، وراحتْ تشيرُ إلى الأفقِ البعيدِ ، وهي تقولُ : مهلاً ، إنهمْ ثمود ، أعداؤنا ، يزحفون نحونا ، متخفين وراء الأشجارِ ..
وسحبها الضابطُ الشابُ بقوةٍ ، وهو يقولُ غاضباً : أيتها المجنونة ، هيا إلى المعبدِ ، وإلا قتلتك أنا نفسي ، لقد حطمتِ مستقبلي ، وسودتِ لي حياتي .
وأخذها الضابطُ الشابُ عنوةً إلى المعبدِ ، وطوالَ الطريقِ ، حاولتْ " زرقاء " أن تقنعهُ بأن غابةَ ثمود تزحفُ نحوهم ، دون جدوى .
وفي المعبدِ ، دفعَ الضابطُ الشابُ " زرقاء " إلى الكاهن ، وقالَ له بغضبٍ : الملكُ أرسلَ لك هذه الزرقاء ، ويقولُ لك ، أن تبقيها عندكَ في المعبدِ ، حتى نهايةِ عمرِها ، وإلا قتلها شرّ قتلةٍ .
ولم ينتظرْ الضابطُ الشابُ ردّ الكاهنِ ، وإنما استدارَ بسرعةٍ ، ومضى إلى الخارجِ ، وجثتْ " زرقاء " منهارةً على الأرضِ ، وانحنى الكاهنُ عليها ، وخاطبها بصوتٍ مفعمٍ بالتعاطفِ ، قائلاً : زرقاء ..
ورفعتْ " زرقاء " عينيها الزرقاوين إليه ، وقالتْ بصوتٍ تغرقهُ الدموعُ : لقد رأيتهمْ ، إنهمْ جندُ ثمود ، يزحفون متخفين وراءَ الأشجارِ ..
ولاذَ الكاهنُ بالصمتِ ، فتابعتْ " زرقاء " بصوتٍ باكٍ : لقد انتهتْ ديدان .. انتهتْ ديدان .




" 14 "
ــــــــــــــــــــــ
ساعةً بعدَ ساعةٍ ، مرت الأيامُ الثلاثةُ ، قضّاها ملكُ الحجر بمزيدٍ من اللهوّ والجواري والولائمِ الباذخةِ ، وكأنهُ يريدُ أن يغطيَ على نبوءةِ " زرقاء " ، القاتمةِ المليئةِ بالحرائقِ والدماءِ .
ومن جهتها ، قضتها " زرقاء " ، ومعها كاهنُ المعبدِ ، ساعةً بعد ساعةٍ ، وهما يتقلبان معاً ، على ألسنةِ لهبِ الرؤى ، التي تتدفقُ من بركانِ أعماقِ " زرقاء " ، ومما تراهُ من غابةِ ثمود ، التي تقتربُ شيئاً فشيئاً ، وبدون إبطاءٍ أو توقفٍ ، من الحجر .
وفي مساءِ اليومِ الثالثِ ، والشمسُ المدماةُ تقتربُ من حافةِ الأفقِ ، رأى ملكُ الحجر ، من فوقِ السورِ ، بعينيه اللتين زالتْ عنهما غشاوةُ الملاهي والجواري والولائمِ الباذخةِ ، غابةً من الأشجارِ تحيطُ بمدينتهِ الحجر ، ورأى الجندَ المدججين بالسلاحِ يقفون وراءها ، كما وصفتهم له " زرقاء " ، قبلَ ثلاثةِ أيامٍ .
واقتربَ ملكُ ثمود من البوابةَ ، يحيطُ به جندهُ المدججون بالسلاحِ ، يتقدمهُ القائدُ والوزيرُ العجوزُ ، وصاحَ بملكِ حجر : أيها الملك ..
وأطلّ ملكُ الحجر عليهِ ، وحوله يقفُ القائدُ وبعضُ الجندِ ، من بينهم الضابطُ الشابُ ، وردّ قائلاً : يا ملك ثمود ، تمنيتُ لو أنكَ جئتَ ضيفاً .
وردّ ملكُ ثمود بصوتٍ جافٍ قائلاً : دعكَ من هذا ، يا ملك حجر ، أريدُ منك .. زرقاء .
وتمتمَ ملكُ جحر مذهولاً : زرقاء !
وتابعَ ملكُ ثمود قائلاً : سلموني هذه الزرقاء ..
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ : وقد أخففُ عنكَ ما سأوقعهُ بكم من ويلاتٍ وعذابٍ .
لم يردّ ملكُ الحجر عليهِ ، وإنما التفتَ إلى الضابطِ الشابَ ، وقالَ له : أنتَ تعرفُ أينَ زرقاء ..
وبدا التأثرُ على الضابطِ الشابِ ، وقالَ : مولاي ..
وأدركَ ملكُ الحجر ما فهمهُ الضابطُ الشابُ ، فقاطعهُ قائلاً : زرقاء ابنتنا ، لن نفرطَ فيها ، حتى لو كان هذا الملكُ الغادرُ ، صادقاً في وعودهِ ..
وصمتَ لحظةً ، وقد هدأ الضابطُ الشابُ ، وقالَ : اذهبْ إليها ، وقلْ لها إنها في خطرٍ ، أسرعْ ..
وذهبَ الضابطُ الشابُ مسرعاً إلى المعبدِ ، للقاءِ " بزرقاء " ، وتحذيرها من ملكِ ثمود ، لعلها تستطيعُ أن تنجو بنفسِها من هذا الخطرِ الداهمِ .
ومن تحتِ السورِ ، صاحَ ملكُ ثمود بصوتهِ الجافِ : يا ملك الحجر ، طلبتُ منكَ زرقاء ، ووعدتكَ أن أخففَ عنكَ ، لكنكَ لم تردّ عليّ .
واستدارَ ملكُ الحجر ، ومضى مع قائدهِ وجندهِ بعيداً عن السورِ ، دون أن يلتفتَ إليهِ ، أو يردّ عليهِ بكلمةٍ واحدةِ ، وانفجرَ ملكُ ثمود غضباً ، وصاحَ : الويلُ لك ، والويلُ للحجر وأهلها ، الويلُ لكم جميعاً .
والتفتَ ملكُ ثمود إلى قائدِ جندهِ ، وقالَ لهُ بحضورِ وزيرهِ " الثعلب العجوز " : أيها القائدُ ، هذهِ المدينةُ ، التي عصاني ملكُها ، انقضوا عليها ، واستبيحوها ثلاثةَ أيامٍ ، ولا ترحموا كائناً من كانَ فيها .
وانقضَ جندُ ثمود ، المدججون بالسلاحِ ، على مدينةِ الحجر ، ولم يرحموا أحداً فيها ، وعلمَ القائدُ أن " زرقاء " الرائية التي أرادها الملكُ ، موجودة في معبدِ المدينةِ ، فاقتحمَ المعبدَ مع عددٍ من جندهِ ، وأخذَ زرقاء ، بعدَ أن قتلوا الكاهنَ والكاهناتِ ، وحطموا كلَ شيءٍ فيه .
وقادَ القائدُ " زرقاء " إلى الملكِ ، ودفعها أمامهُ ، وقالَ : مولاي ، هذه هي زرقاء ، حيةً كما أردتها .
وحدقَ ملكُ ثمود فيها ، ثم قالَ : أنتِ .. زرقاء .
فتطلعتْ " زرقاء " بعينيها الزرقاوين إليه ، وردتْ قائلةً ، دون أن يرفّ لها جفنٌ : نعم ، أنا .. زرقاء .
ورفت على شفتيه الجافتين ، ابتسامةٌ ساخرةٌ ، وقالَ : يُقال أنكِ ترين بقلبكِ ما تراه عيناكِ بعد ثلاثة أيامٍ ..
وهزتْ " زرقاء " رأسها ، وقالتْ : هذا صحيح .
وتابعَ الملكُ قائلاً : وأنكِ ترين بعينيكِ الزرقاوين هاتين على مسافةِ ثلاثة أيامٍ .
وقالتْ " زرقاء " : نعم ، فأنا رائية .
واختفتْ ابتسامةُ الملكِ ، عن شفتيه الجافتين ، وقالَ : وعلى هذا ، كانَ من الممكنِ أن ترينا ، ونحنُ على بعدِ ثلاثة أيامٍ من مدينتكم .. الحجر .
والتمعت عينا " زرقاء " الزرقاوان ، وقالتْ : بل رأيتكم ، رأيتُ جندكم المدججين بالسلاحِ ، يتخفون وراءَ أغصانِ الأشجارِ ، التي يحملونها بأيديهم ، وقد أخبرتُ الملكَ بذلكَ ، ليتهيأ لمقاومتكم ، والدفاعِ عن المدينةِ ، لكنهُ للأسفِ لم يصدقني ، وقالَ إنني مجنونةٌ .
وابتسمَ الملكُ ابتسامتهُ الساخرةَ المسمومةَ ، وقالَ : أنتِ مجنونةٌ فعلاً ، وإلا لهربتِ من المصيرِ الأسودِ ، الذي لحقَ بملككم ، ومدينتكم الحجر ، وبكلِ ما فيها .
وحدقتْ " زرقاء " فيه ، وقالتْ : ما كانَ لي أن أهربَ ، ولم أهربْ ، فأنا واحدةٌ من ديدان .
وانطفأتْ ابتسامةُ الملكِ ثانيةً ، وهو يحدقُ فيها مغتاظاً ، ثمّ خاطبها قائلاً : إذا كنتِ رائيةً حقاً ، وأنكِ تتنبئين بالمستقبلِ ، أخبريني عن مستقبلي .
وحدقتْ " زرقاء " فيه ملياً ، ثم قالتْ : كلّ حيّ في هذا العالمِ سيموت عاجلاً أو آجلاً ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : وأنتَ ستموت .. عاجلاً .
ولاذ الملكُ بالصمتِ لحظةً ، والغيظُ يتأكله ثمّ قالَ متسائلاً : وكيف سأموتُ ، في رأيكِ ؟
وحدقتْ زرقاء فيه ملياً مرةً ثانيةً ، وقالتْ بصوتِ المتنبئةِ : أنتَ أمتّ قومي في مدينةِ الحجر بغابةِ الأشجارِ ، وأنتَ أيضاً ستميتكَ الغابةُ .
ومرةً أخرى صمتتْ ، وهذه المرةِ صمتتْ طويلاً بعض الشيءِ ، ثم قالتْ ، وهي تحدقُ في الملكِ : الأميرُ قدار هربَ من السجنِ ، هو ومن معه ، والتحقَ به الكثيرُ من الشبابِ ، الذين نجو من المذبحةِ ، ولن يهدأ له بالٌ ، حتى ينالَ منكَ ، انتصاراً لحقِ مدينتهِ وأهلها المغدورين ، هكذا ستموتُ ، يا ذؤابة .
ومن بينِ أسنانهِ المجنونةِ بالغضبِ ، قالَ الملكُ : هذا حلمٌ تتمنين أن يتحقق ، لكنه لن يتحقق ، وما سأحققه صباحَ الغد ، هو .. سآمرُ أن تشدّ يديك إلى جملٍ ، وتشدَ رجليك إلى جملٍ آخرَ ، وسألكزُ الجملين بنفسي ، وأنتِ تعرفين ماذا سيحدثُ .
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ : خذوها الآنَ ، ولتبقَ حتى الغد في السجنِ .


" 15 "
ــــــــــــــــــــــــ
في اليومِ التالي ، ومنذُ الصباحِ الباكرِ ، وقد أشرقتِ الشمسُ على مدينةِ الحجر ، التي غدتْ خراباً ، غصتْ الساحةُ على سعتها ، بأعدادٍ كبيرةٍ من جنودِ ثمود ، المدججين بالغضبِ والسلاحِ .
وقبلَ أن يأتي ملكُ ثمود ذؤابة ، ويجلسُ على المنصةِ ، التي أعدتْ لهُ وللمقربين منهِ ، جاءوا بجملين ضخمين هائجين ، ووضعوهما وسطَ الساحةِ ، التي سينفذُ فيها الحكمُ ، الذي قررهُ الملكُ على " زرقاء " .
وجاءَ الملكُ ذؤابة ، ومعه وزيرهُ العجوزُ ، وقائدُ جندهِ المحنكِ ، يحيطُ بهم عددٌ كبيرٌ من الحرسِ المدججين بالسلاحِ ، وجلسَ الملكُ على المقعدِ المخصصِ لهُ ، عابساً مقطبَ الجبينِ ، وجلسَ الوزيرُ العجوزُ عن يمينهِ ، وعن يسارهِ جلسَ القائدُ المحنكُ .
وارتفعَ هياجُ الجندِ ، حالَ مجيء الملكِ ، وراحوا يهللون ويهتفون : عاشَ الملكُ ذؤابة ..
ـ الموتُ لأعداءِ ثمود
ـ الموتُ للساحرةِ .. زرقاء
ومع هياجِ الجندِ ، الذين مسّتهم الدماءُ ، التي سفكوها على أرضِ الحجر ، بدا وكأنّ الطبيعةَ تشاركهمْ هياجهمْ المجنون ، فقد اربدتِ الآفاقُ ، رغمَ أن السماءَ كانتْ صافيةً تماماً ، ولا تنذرُ بأي سوءٍ .
وهبتْ موجةٌ من الريحِ ، محملةً ببعضِ الغبارِ ، ولامستْ وجهَ الملكِ ذؤابة ، وحانتْ منه نظرةٌ ، ووقعتْ عيناه الغاضبتان على الآفاقِ المربدةِ ، وقالَ بصوتٍ متضايقٍ : يبدو أن هناكَ عاصفةً .
ونظرَ الوزيرُ العجوزُ ، حيثُ ينظرُ الملكٌ ، وقالَ : حتى لو كان هناكَ عاصفةٌ ، يا مولاي ، فإنها لن تهبَ ، وتصلَ إلينا ، قبلَ منتصفِ النهارِ .
وتململَ الملكُ ذؤابة فوقَ كرسيهِ ، والوزيرُ العجوزُ والقائدُ المحنكُ ، يتابعانه بنظراتهم القلقةِ المتوجسةِ ، وقالَ كأنما يحدثُ نفسهُ : مهما يكنْ ، إنني لستُ مرتاحاً من هذه الآفاقِ المربدةِ ، وأخشى أنها تنذرُ بشرٍ مستطيرٍ ، آه من هذه الساحرةِ اللعينةِ زرقاء .
واعتدلَ الوزيرُ العجوزُ وقالَ ، مولاي ، يمكننا إذا أردتَ ، أن نرجىءَ الإعدامَ إلى الغدِ ، أو إلى أي يومٍ آخرَ ، إن الزرقاء بين أيدينا ، في السجنِ .
وعبّسَ الملكُ ذؤابة ، ولم يردّ ، فرفعَ القائدُ رأسهُ إليهِ ، وقالَ متردداً : فلننفذْ فيها حكمكمْ العادلَ ، داخلَ مبنى السجنِ ، يا مولاي ، إذا أردتَ .
ونظرَ الملكُ بغضبٍ ، إلى الآفاقِ التي تزدادُ اربداداً ، وقالَ من بين أسنانهِ : كلا ، لا أريدُ تأجيلَ الإعدامِ ، ولا تنفيذهُ في السجنِ ، ولا أريدُ أن تبقى الزرقاء حيةً هذا اليوم ، فلتُعدمْ هنا ، في هذه الساحةِ ، الآن .
ونهضَ القائدُ ، وقالَ : كما تشاءُ ، يا مولاي .
وتقدمَ قليلاً ، ورفعَ يدهُ عالياً ، وعلى الفور ، راحَ الصخبُ والصياحُ يتلاشيانِ ، حتى سادَ الصمتُ تماماً ، ولم يعدْ يُسمعُ سوى دمدمةِ العاصفةِ ، التي راحتْ تقتربُ ، وتقتربُ معها دواماتُ الغبارِ الغريبةِ .
ونظرَ القائدُ إلى أحدِ الضباطِ ، وخاطبهُ قائلاً بصوتٍ مرتفعٍ آمرٍ : جيئوا بالساحرةِ زرقاء ، وليبدأ تنفيذُ الإعدامِ فيها ، فوراً .
وعلى الفور ، مضى الضابطُ إلى الداخلِ ، وسرعانَ ما عادَ ، ومعهُ ثلةٌ من الجندِ المدججين بالسلاحِ ، يحيطون " بزرقاء " ، وما إن رآها جندُ ثمود الهائجون ، حتى ازدادوا هياجاً ، وراحوا يصرخون : الموتُ للزرقاء .. الموتُ للزرقاء .. الموتُ للزرقاء .
ومع ازديادِ صراخهمْ وهياجهمْ ، ازدادَ عويلُ العاصفةِ ، واشتدتْ دواماتُ الرمالِ الغريبةِ ، وراحتْ تزحفُ بسرعةٍ نحو الساحةِ ، وكلّ ما فيها من الجندِ والملكِ والقائدِ والوزيرِ العجوزِ .
وهبّ الملكُ من مكانهِ كالمجنونِ ، وراحَ يصرخُ بأعلى صوتهِ ، كأنما يريدُ أن يغطيَ على العاصفةِ ودواماتِها اللولبيةِ : ابدؤوا .. لا أريدُ أن أرى الزرقاء حيةً بعدَ اليمِ ، هيا .. ابدؤوا .. ابدؤوا ..
وعلى عجلٍ ، بدأ الجندُ المكلفون بإعدامِ " زرقاء " ، بربطِ يديها بأحدِ الجملين الهائجين ، وربطِ رجليها بالجملِ الآخر ، وما أن انتهوا ، والعاصفةُ تكادُ تعولُ فوقهمْ ، حتى صاحَ الملكُ بصوتهِ المجنونِ : الكزوا الجملين .. الكزوهما .. الموتُ .. للزرقاء ..
وأعولتْ العاصفةُ بصوتٍ مرتفعٍ جداً ، وانقضتْ الدواماتِ الرمليةِ الغريبةِ ، ولفتِ الجميعَ برمالها الكثيفةِ ، وفي الوقتِ نفسهِ ، ضجت السماءُ بالرعودِ والبروقِ ، وزلزلتْ الأرضُ بمن فيها و ..
وفجأةً هدأ كلُّ شيءٍ ..
لا عاصفةٌ ..
ولا دواماتٌ ..
ولا رعودٌ ..
ولا بروقٌ ..
ورفعَ الملكُ رأسهُ إلى الأعلى .. السماءُ زرقاءٌ صافيةٌ .. كعيني زرقاء .. و ..
ثمّ نظرَ ، ومعه الوزيرُ العجوزُ ، والقائدُ المحنكُ ، والجنودُ المدججونَ بالسلاحِ ، في أماكنهمْ ، يحيطونَ بالساحةِ ، والحرسُ المكلفونَ بإعدامِ " زرقاء " يقفونَ مذهولينَ ، و ..
يا للآلهةِ ، أينَ الجملينِ الضخمينِ الهائجينِ ، اللذينِ أحضرا ليمزقا " زرقاء ، ويبعثرونِ رفاتها في كلّ مكانٍ ، كما أمرهمْ بذلكَ الملكُ ذؤابة ؟ بل أينَ الزرقاء نفسها ؟ أينَ اختفتْ ؟ وكيفَ ؟
وراحَ الملكُ ذؤابة يدورُ حولَ نفسهِ كالمجنونِ ، وهو يقولُ كما لو كانَ يكلمُ نفسهُ : ماذا يجري ؟ أخبروني .. ماذا يجري ؟ ماذا يجري ؟
وهمسَ الوزيرُ العجوزُ للقائدِ : من الأفضلِ أن نأخذَ الملكَ ، ونذهبُ به إلى القصرِ .
وهزّ القائدُ رأسهُ ، وقالَ بصوتٍ خافتٍ : نعم ، هذا أفضلُ ، هيا فلنأخذْ جلالةَ الملكِ .
وأمسكَ الوزيرُ العجوزُ ، بإحدى يدي الملكِ ، وأمسكَ القائدُ باليدِ الأخرى ، وقاداه برفقٍ بعيداً عن المنصةِ ، واتجها به نحو القصرِ وقالَ الوزيرُ العجوزُ : بقاؤك هنا ، يا مولاي ، فيه خطرٌ عليكَ .
وقالَ القائدُ : نعم ، يا مولاي ، من الأفضلِ أن لا نبقى هنا ، ونلجأ إلى القصرِ ، حتى ينجلي الموقفُ .
ماذا جرى ؟
هذا ما لا يعرفه أحدٌ بالضبط .
قالَ البعضُ ، أن أحدَ الآلهةِ ، هبطَ من السماءِ ، وانتشلها من بين الجميعِ ، وصعدَ بها إلى السماءِ .
وقال البعضُ الآخرُ ، أن الأميرَ قدار ، وبعضُ فرسانهِ ، جاءوا وأخذوها معهم إلى الغابةِ .
وقالَ آخرون ، إن الجملين الهائجين ، ربما كانا ماردين ، يأتمران بأمر الساحرةِ " زرقاء " ، فأخذاها ، وهربا بها إلى أعماقِ الصحراءِ .
ومهما يكنْ ، فإن " زرقاء " ، هربتْ من الظلمِ ، واختفتْ ، ومن يدري ، فقد تعودُ يوماً ما ، ويعودُ معها الأميرُ الشابُ قدار ، ويعيدا مدينةَ الحجر إلى أهلها ، ويعيشونَ فيها بسلامٍ وأمانٍ وعدل .



3 / 11 / 21 20








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في