الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكتب لكم من الجنوب ( 5 )

علي فضيل العربي

2022 / 11 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


ما زلت أخاطبكم من الجنوب . لأخبركم ، هذه المرة ، بأنّني مازلت ، و عشيرتي ، على قيد الحركة . مازلنا نبصر بأعيننا العمشاء ، كل صباح شروق الشمس ، و نشهد طلوع النهار بمزيد من الجوع . نحاول التحايل على الموت بشبه رمق من الحياة ، نحول أن نبتعد عن مدن الموت بشتى الوسائل . مازلنا نحلم بأنّ اعمارنا مازالت فيها مساحات صالحة للحياة .
عندما غادرتم بلادنا مكرهين ، اعتقدنا أنّنا أحرار . سنشبع من خبز أرضنا و فاكهة بساتينها المثمرة ، و سنرتوي من ينابيعها و أنهارها و آبارها . لكنّ أحلامنا اختطفها أيادي الاستبداد ، و تاهت في ظلمات لا أول لها و لا آخر . كنّا ضحايا للاحتلال ، ثم وقعنا ضحايا للاستبداد . أتعلمون لماذا ؟ لأنّكم خرجتم من الحقول ، و لمّا تخرجوا من بعض العقول التي تسوسنا بالمطرقة و السندان .
لقد نفد الغذاء و بقاياه منذ شهر تقريبا ، و نفد الدواء ، المنتهي الصلاحيّة ، منذ ثلاثة شهور ، أي بعد أربعة أشهر من حربكم القذرة بين الروس و أوكرانيّا . لم يبق لنا شيء نأكله . قضمنا كلّ شيء ، حتى البذور التي زرعنها في انتظار غيث السماء ، أعدنا نبشها حبّة حبّة ، و ابتلعناها ، و انتقلنا إلى سدّ الأرماق بكلّ ما هو متحرّك من حيوانات و حشرات و زواحف ، و قد يدفعنا نيرون الجوع إلى أكل أجساد بعضنا البعض . لا تأخذكم الدهشة و لا يدهشكم العجب ، إن اضطررنا إلى أكل لحومنا الجافة . تأكدوا أنّنا سائرون نحو الانقراض ، كما انقرضت سلالات سالفة و أجناس من الكائنات . أليس الإرهاب و الجوع و الأمراض ، من أنجع وسائل الانقراض ؟ يومها لن تجدوا لنا رائحة في الوجود . وحدها العظام تبقى شاهدة على موتنا .
و ها نحن اليوم ، قد فقدنا أمل وصول شحنات من القمح أو الذرة أو الشعير ، بعدما احتجزت الأيدي الغليظة والقلوب السوداء بواخرها في عرض البحر الأسود ، مُنعت من مغادرة مياه البحر نحونا . و ليكن في علمكم ، يا سادتي في الشمال ، أنّه كلّما تأخّر عنّا الغذاء مترا ، تقدّم الموت منّا مائة متر أو يزيد . و كلّما نفق الدواء ساعة ، اشتدّت علينا غارات الموت كالنار في الهشيم .
إنّنا ، يا سادتي الكرام ، نتوسّل إليكم ، أن تخمدوا نيران هذه الحرب المجنونة . فالحرب كائن غير إنساني . شيطانة رجيمة ، لا تلد سوى الموت و الخراب و الأيتام و الثكالى . كما نتوسل إليكم ن باسم أطفال كييف و خاركيف و دينيبرو دونيتسك و أوديسا و زاباروجيا ، و أطفال فلسطين و اليمن و مخيّمات اللاجئين في سوريا و بنغلادش و الصومال ، و في بقعة من كوكبنا الأرضي ، ولد فيها طفل ، و لم يجد حليبا و لا كساء و لا أمنا ، نتوسل إليكم أن تغلقوا مصانع الأسلحة و الطائرات الحربيّة و الصواريخ و القنابل النووية و الجرثومية و الهيدروجينيّة . و أن تحوّلوها إلى معامل لحليب الأطفال ، و غذائهم و كسوتهم و ألعابهم . دعوا الأطفال يبتسمون ، و يلعبون في حدائق الأمن و السلام . دعوهم يخرجون إلى الساحات ليطعموا أسراب الحمام .
يا سادتي الكرام ، في الشمال ..
قبل ساعة من كتابتي إليكم هذا الخطاب . مات عندنا ، و في عشيرتنا فقط ، عشرة أطفال ؛ ستّة بنات و أربعة بنين ، لا تزيد أعمارهم عن اثني عشر شهرا . افترسهم القحط . أجل ، ماتوا من عذاب الجوع . دفناهم عريا ، إلاّ بعض أوراق الشجر الحيّ ، التي سترت سوآتهم . لم نجد لهم اكفانا . وسدناهم الثرى من تحتهم و من فوقهم . آه ، لقد ماتوا موتا بشعا . أتعلمون لماذا قضوا جوعى و عراة و حفاة ؟ لأنّهم ليسوا منكم . و أنتم منشغلون بالحرب و تفاصيلها . تلك الحرب التي لن تجنوا منها إلا الرماد و رائحة الجثث المحروقة ، و نقع الدبابات و القنابل .
أرأيتم ، يا سادتي الكرام ، هل سمعتم بهم . هل بلّغتكم وكالات الأنباء عن هلاكهم الفظيع ؟ طبعا ، كلاّ . لم تسمعوا لهم ظلّ خبر . أتعلمون لماذا ، لم تبلغ مأساتهم أسماعكم ( الموقرة ) ؟ بكل بساطة ، و دون فلسفة أفلاطونيّة ، لأنّ التفلسف في البديهيّات ضرب من الجنون النيروني ، و مضيعة للزمن . و أسألكم ، أتعلمون لماذا ؟ . لأنّكم عقولكم مفقودة ، و قلوبكم موءودة و آذانكم غارقة في أوحال الحرب .
بكت الأمهات بدموع حمراء ، و أعولت بحناجر منهكة ، و ناحت بأصوات مبحوحة ، ذابلة ، فاقعة اللون ، صفراء ، على مواليدها . و لم تجد من تشكو إليه مصائبها و مآسيها ، غير خالق السموات و الأرض و ربّها و مدبّر سيرورتها و صيرورتها ، و باعث الناس يوم النشور .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل