الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب1

محمود شقير

2022 / 11 / 3
الادب والفن


من غياب فتاة شابة إلى غياب دولة كبرى. ومن غياب رجال مرموقين إلى غياب دول كانت لها علاقة بالفكر الذي انتميت إليه، ولم يمر بي ذلك مروراً هيناً، وكان علي أن أحتمل مرارة الغياب في كل الحالات.
الفتاة التي غابت هي أختي. غابت أواسط الستينات من القرن الماضي. آنذاك، كبرت معاناتها وظلت تكبر حتى أودت بحياتها. وآنذاك، كنت أجتاز تجربة لم تتبلور إلا بعد غياب أختي، ولربما كان هذا الغياب محفزاً لي على الإيغال في التجربة التي أعتبرها بعد الكتابة أو معها، الأكثر أهمية في حياتي.
بعدها، بعد أختي، جاء سليمان. شاب مكتهل في شبابه. من ريف رام الله الفسيح جاء معلناً حضوره الجذاب، حاملاً معه وهج الفكر الذي لم يفتر إيمانه به حتى اللحظة الأخيرة. جاء سليمان ثم غاب، وقبله بأشهر غاب بشير. والإثنان، بشير وسليمان، يشكلان علامة فارقة في الانتماء السياسي في مجتمع زعزعت كيانه نكبة ليس لها مثيل، ويمكن من خلال تتبع فترات من حياة كل منهما، التعرف إلى بعض ملامح التجربة الحزبية المعاصرة في فلسطين.
والإثنان، كانا من أكثر الناس تأثيراً في حياتي. معهما ومع غيرهما من رفاق المسيرة، انتميت إلى حزب سري وأنا قادم من أصول بدوية، تعلي من شأن العشيرة وتجعلها محط الأنظار. كان لبعض المدن الفلسطينية وما فيها من حراك سياسي، تأثير علينا جميعاً. وكانت لنا تجارب تراوحت بين النجاح حيناً والإخفاق في بعض الأحيان.
ولن يغتني هذا الأفق السياسي الذي عايشته طوال النصف الثاني من القرن العشرين، إلا بمجيء مؤنس، ابن الفكر القومي بعد أن تنكر له بعض الذين احتكروا لأنفسهم هذا الفكر، وبعد أن قام هو نفسه بتجاوزه إلى أفق أرحب، مفسحاً في المجال لطرح أسئلة لطالما تكرر طرحها في عصرنا الحديث: ما هي حدود انتماء المثقفين للأحزاب؟ وهل يستطيع المثقف أن يجمع بين النشاط الحزبي ونشاطه الإبداعي بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر؟ وهل صحيح أن بقاء المثقف داخل الحزب يمنعه من التحليق في عالم الإبداع؟ وهل تتساوى التجارب الحزبية التي يخوضها المثقفون بغض النظر عن طبيعة الأحزاب التي ينتمون إليها؟ وما الذي تعنيه كتابة المثقف عن تجربته الحزبية؟ وإذا كان من حقه أن ينقد سلبيات التجربة للانتقال بها إلى مستوى أرقى، فهل من حقه، أن يرتد تحت ضغط اليأس أو غيره، وأن يتنكر لتجربته، ومن ثم يقوم بالتنصل منها حد الذم والهجاء؟
وحتى لا يقع في روع أحد بأنني أنتقص من تجاوز مؤنس لتجربته الحزبية (والتجاوز غير الردّة)، فإنني أبادر إلى القول انطلاقاً من معاينتي لفكره، إنه كان على صواب كما أعتقد، وهو يقوم بما قام به من تجاوز، دلل على صحته، ما قدمه من طروحات سياسية وفكرية، وإبداع.
التقينا، مؤنس وأنا وأصدقاء آخرون من مثقفين وكتاب، على رؤى ومواقف واجتهادات. جمعتنا قواسم كثيرة تعلمنا من خلالها كيف نفهم ما هو مشترك بيننا، وكيف تتعايش اجتهاداتنا مع ما فيها من اتفاق، وما فيها من عدم اتفاق. لكنّ "مؤنس" جاء ولم تطل إقامته بيننا ثم غاب. ولم يغب إلا بعد أن جرب الحزن والألم، وبعد أن جرب السياسة والكتابة.
وقبل غياب بشير وسليمان ومؤنس، غابت دول. ترك غيابها آثاراً غير قليلة على عالمنا الكبير وعلى عالمنا الصغير سواء بسواء. من كان يصدق أن دولة كبرى مثل الاتحاد السوفياتي سوف تنهار بمثل هذه البساطة؟ ومن كان يصدق أن الأحزاب الشيوعية الحاكمة في أوروبا الشرقية سوف تخلي مواقعها وهي مكرهة على ذلك، لقوى سياسية كانت تتكون في الخفاء حيناً وفي العلن حيناً آخر؟ وما هو حال الأحزاب الشيوعية في العالم بعد هذا الغياب؟ ما هو حال الاشتراكية اليوم؟ هل ما زال لها أمل بالبقاء وبالنهوض أم إن النسيان طواها، كما يحلو لبعض المنظرين أن يكتبوا؟
الآن، أجدني مشدوداً إلى تلك الأيام، أيام شهدتها القدس وبيروت وتونس وعمّان وموسكو وبراغ، ومدن أخرى وقرى ومخيمات. أذهب إليها لكي أتتبع بعض سمات هؤلاء الذين غابوا، ولأرى كيف كان حال السياسة والعمل الحزبي في ظروف ليست سهلة في أغلب الأحيان.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب