الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إختفاء فاطمة .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 11 / 6
الادب والفن


الخامسة عصراً ..
عندما طلب العم من ابنة أخيه ( فاطمة ) أن تلبس أحسن ثيابها لانه وجد لها عملاً في بيت مخدومه الميجر الانجليزي ..
وفاطمة فتاة .. سمراء طويلة .. جميلة الملامح .. لها من العمر خمسة عشر عاماً .. !
أسلمت قيادها الى عمها الذي سار بها عبر شوارع الحي الترابية .. تكاد تجري لتلحق بخطواته الواسعة .. اجتازا جسراً صغيراً يفصل بين حيّهم وبين الاحياء الراقية التي يقطنها الباشوات وكبار الضباط الإنجليز .. ثم سارا في شارع نظيف تحيطه من الجانبين أشجار الصفصاف واليوكالبتوس الباسقة .. وتوقفا مبهورين أمام بيت من أكبر البيوت وأكثرها فخامة ..
دخلا غرفة صغيرة تتصدرها صورة كبيرة للملكة إليزابيث وهي تضع تاج العرش على رأسها .. ثم انتصبا مشدودين أمام عسكري هندي ذو شوارب مبرومة .. وملامح عشوائية متجهمة .. رفع رأسه ورمقهما بنظرات خاطفة متأففة ..
قال العم :
— جئنا لمقابلة جناب الميجر في أمر خاص ..
ردَّ العسكري بلامبالاة :
— تعالا غداً صباحاً .. الميجر لا يقابل أحداً بعد الخامسة ..
قال العم بأنه يعمل بستاني في هذا البيت وإن الليدي هي من كلفته بجلب الفتاة .. وعليه تسليمها الى الميجر شخصياً ولن يأخذ من وقته الكثير .. وحتى يتخلص العسكري من الحاحه دوّن اسمه على ورقة صغيرة ودفع بها الى حارس آخر اختفى في البيت وبعد فترة قصيرة عاد وأشار لهما أن يدخلا .. !
سارت فاطمة محبوسة الأنفاس .. يتقدمها عمها في حديقة واسعة ممتدة .. مليئة بأنواع الاشجار المثمرة .. كأنهما دخلا عالماً آخر مختلف .. صعدا الدرجات القليلة المؤدية الى مدخل البيت .. وجدا نفسيهما أمام الميجر بقامته العسكرية الفارعة ونظراته الباردة المتعالية ..
قال العم :
— طاب نهارك سيدي الميجر .. آسف على إزعاج جنابكم .. لقد أحضرت الفتاة التي طلبتها الليدي ..
تحرك الميجر من مكانه بهدوء وتقدم من فاطمة التي كانت تقف أمامه صامتة .. خافضةً رأسها .. أخذ يسلط عليها نظراته دون أدنى مبالاة لوجود عمها .. تدافعت ضربات قلبها عندما وضع يده تحت ذقنها ورفعه قليلا وأخذ يحرك وجهها ببطء يميناً ثم شمالاً .. وهو يواصل التأمل فيه .. كنخاس يعاين بضاعته ليتأكد من جودتها قبل أن يشتريها .. ثم لانت ملامحه .. يبدو أنها راقت له .. وبإشارة من يده غادر العم وترك فاطمة بين يدي الميجر .. !
ضغط على زر الجرس .. جاءت احدى المشرفات مسرعة .. أمرها بعربية ركيكة تخرج من لسانه بصعوبة .. بأن تهتم بالفتاة قبل أن تعرضها على الليدي .. قادتها المرأة من يدها كأنها طفلة صغيرة .. أدخلتها الحمام وجردتها من ثيابها وأغرقت جسدها بالماء والصابون ودعكته جيداً .. البستها ملابس جديدة ثم أدخلتها على الليدي التي تفحصتها باهتمام شديد .. حتى أسنانها لم تنجوا من فحصها وأخيراً أصدرت أمرها :
— أطعميها جيداً واتركيها مع الخدم الى أن أطلبها .. !
بدأ إحساس فاطمة بالفزع يهدأ .. ويحل محله إحساس آخر بالطمأنينة والرضا .. لقد أصبحت خادمة الليدي الخاصة .. أما مهمتها الحقيقية التي لا تعرفها .. فهي شئ آخر مختلف .. !
مرت سنين .. وفاطمة لا تزال مختفية في بيت الميجر لا تغادره حتى أوشك أهلها على نسيانها .. عندما تفاجئوا يوماً بزيارتها .. بدت وكأنها كائن غريب نزل عليهم من كوكب آخر .. استدار جسدها ونما وبات يشع بالانوثة .. ظهر جمالها الحقيقي بعد أن كان مدفوناً تحت ركام من الفقر والبؤس وسوء التغذية .. تغيرت تصرفاتها .. ازدادت رقةً وتهذيباً .. واتسعت مداركها .. ونضج عقلها .. !
في ذلك الزمن .. وفي تلك اللحظة التاريخية النادرة التي وقف فيها التاريخ على ساق واحدة .. عاجزاً عن متابعة ما يجري من تدفق متسارع للاحداث .. انفلق ذلك النهار عن تغيير دراماتيكي مفاجئ في العراق وسقوط النظام الملكي سقوطاً مدوياً .. وما تلاه من أحداث مروعة توقف الزمن عندها حائراً مرتبكاً .. !
لم يستطع الميجر تحمل الصدمة وعار الهزيمة وضياع الحلم الكبير .. لقد كانت ضربة على الرأس مؤلمة فلتت من حسابات الانجليز المعروف عنها الصواب والدقة .. فوجدوه في الحمام مضرجاً بدمه .. منتحراً .. أما بقية العائلة والحاشية فقد أصابهم الرعب من أن يفعل بهم العراقيون مثلما فعلوا بالعائلة المالكة من فظائع .. فتم نقلهم فوراً الى مطار المعقل الملكي ومنه الى انجلترا .. !
كان يوماً مزدحماً حاراً من أيام تموز القائظ .. عندما دخلت قوة عسكرية صغيرة بيت الميجر وكان معهم عم فاطمة ووالدها .. لم يجدوا أحداً سوى بعض العراقيين من الخدم والطباخين .. واحدى المشرفات وهي عجوز أرمنية قالت للضابط المسؤول بعربية مفككة :
— لقد رحلوا جميعاً .. سيدي ..
— وماذا عن فاطمة .. ؟
— وفاطمة أيضاً .. ( تواصل .. ) .. تركوا لها حرية الاختيار .. بين أن تبقى في بلدها .. على أن تتخلى عن طفليها .. أو تذهب معهم .. ففضّلت الخيار الثاني .. رغم أن الطفلين مسجلين رسمياً بإسم الليدي ( روز ) والميجر ( ستانلي ) .. إلا أن ذلك لم يمنع فاطمة من أن تصر على العيش قريبة من طفليها حتى ولو بصفة مربية وخادمة .. كم كانا جميلين .. يا ربي .. لم أرى في حياتي أطفالاً في جمالهما .. !
— هل تزوجها الميجر .. ؟
— طبعا لا .. سيدي .. كانت فاطمة مجرد محظية .. تأتي الى فراشه بالأمر وتذهب بالأمر .. ليس أمامها من خيار سوى الطاعة .. لقد كانت في طبيعتها فتاة هادئة ومطيعة .. مع ذلك كانت تحظى برعاية الميجر واهتمامه .. ربما كان المسكين يحبها .. لكنه لم يكن يجرؤ حتى على التعبير عن مشاعره .. كان كل شئ بيد هذه الليدي - المتأففة المتعجرفة - حتى فكرة المجئ بفاطمة كانت من بنات أفكارها .. عندما أصيبت هي وزوجها باليأس التام من الخِلفة وأُغلق باب الأمل نهائياً في وجهيهما .. كلفت عم أدريس البستاني بأن يأتيها بفتاة قوية وفي صحة جيدة ..
وفعلاً جاء الرجل بابنة أخيه فاطمة التي بقيت في منزل الخدم لأشهر .. مستكينة لا يبالي بها أحد .. وعندما حان الوقت استدعتها الليدي ودفعت بها الى فراش الميجر .. وبعد عام أو يزيد جاء الولد ( توماس او توم ) .. ثم بعد عام أو عامين .. لا أذكر بالضبط .. جاءت البنت التي أسموها ( ماري ) على اسم أم الميجر .. كان كل شئ محسوب بدقة متناهية.. سيدي .. لا أحد يستطيع أن يتغلب على الإنجليز في الخبث والمكر .. أبداً .. لم يخلق هذا الكائن بعد .. !
وعندما حانت لحظة المغادرة .. لم تهتم الليدي لا بجواهر ولا بحلي ولا بأموال .. تركت كل ذلك للحاشية يتكفلون به .. أما هي فاحتضنت الطفلين وحملتهما ولم تسمح لأحد بما فيهم فاطمة أن يقترب منهما .. كأنهما كانا كنزها الحقيقي الذي خرجت به من الدنيا وليس شيئاً آخر .. كانت حقاً امرأة بمئة .. كل جزء منها يمكن أن يكون امرأة كاملة لوحده .. ذكية.. جبارة .. وماكرة .. !
( تتوقف لتلتقط أنفاسها .. )
كان يوماً حزيناً .. ولحظات مؤلمة وقاسية .. على أبي فاطمة وهو يسمع هذا السيل المتدفق من أخبار ابنته واحتمال خسارته لها .. ربما الى الأبد .. تكوم المسكين على نفسه في أحد الاركان مستسلماً لهواجسه ولأحزانه ثم أجهش في البكاء .. !
قالت له العجوز مواسية وهي تربت على ظهره :
— أطمئن سيدي .. صدقني .. ستكون ابنتك بخير .. بمشيئة الرب .. لقد تغيرتْ كثيراً في السنوات الاخيرة .. لم تعد فاطمة التي تعرفونها .. أصبحت امرأة قوية وشجاعة .. لا تخافوا عليها .. ليس أمامكم خيار إلا أن تصبروا وتنتظروا .. لا أحد يدري ما الذي سيحمله لنا المستقبل من مفاجآت .. أدعو الرب أن يكون رحيماً بنا جميعاً .. آمين .. !
صمتت .. كأنها قالت آخر ما عندها .. ثم رسمت إشارة الصليب على صدرها .. وغادرت .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟