الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/ أمينة2

محمود شقير

2022 / 11 / 6
الادب والفن


1


نسيناها ولم نعد نتذكرها إلا قليلاً. لم أعد أذكر في أي يوم ماتت. نسيت اليوم، وما زلت أذكر الشهر والسنة.
ربما كان هذا النسيان مظهراً من مظاهر التقليل من شأن النساء في عائلتنا، مظهراً يبرز بين الحين والآخر، لديّ ولدى بقية أفراد العائلة (لدي! وأنا الذي انتميت إلى فكر يحض على المساواة بين المرأة والرجل)، رغم ادعائي أن أمينة هي أختي الغالية التي تأتي بعدي مباشرة في الترتيب التنازلي لأخواتي اللواتي ظلت أمي تنجبهن تباعاً، مسببة لأبي انزعاجاً، لأنه يريد أبناء ذكوراً. كنت حتى ذلك الحين، في السنوات القليلة التي سبقت النكبة الكبرى، طفله الوحيد بين عدد من البنات. قال لي أحد الأطفال بعد ولادة أختي الخامسة: أبوك سوف يجن حينما يعرف أن أمك ولدت بنتاً أخرى.
كان أبي يعمل في مكان بعيد. وحينما عاد إلى البيت بعد أسبوع، لم يُجن كما تنبأ ذلك الولد. اعتراه فتور وعدم ارتياح. هذا ما أوضحته لي جدتي مريم التي اعتدت النوم قريباً منها، بعد أن لفظتني أمي بعيداً، لكي تتفرغ لهذه الطفلة الوافدة.
أذكر أنها ماتت في الربيع. بعد ظهر أحد الأيام من أواخر شهر أيار العام 1966 . كنت أعمل مدرساً، وإلى جانب ذلك أكتب قصصاً قصيرة ومقالات، وأقيم في مدينة رام الله بعيداً من بيت العائلة. عاد بها أبي من مدينة الزرقاء وهي في حالة صحية سيئة. كانت صبية ممشوقة القوام، سمراء جميلة، تنطوي على خفر وحياء.
لم أتوقع أن ينتهي زواجها بهذا الاستعجال. ظهرت الخلافات بينها وبين زوجها منذ الأشهر الأولى للزواج. ذهبتُ مرة إلى مدينة الزرقاء لزيارتها وللاطمئنان عليها، غادرتُ المدرسة التي أعمل فيها بعد ظهر الخميس وذهبت إلى الزرقاء. ركبت سيارة أجرة أخذتني إلى عمان ومن ثم إلى الزرقاء. لم تكن الطريق إلى عمان تستغرق أكثر من ساعة، حيث لا مركز حدود ولا احتلال.
تكتظ أحياء الزرقاء بالبيوت البسيطة المتلاصقة، التي تسكنها عائلات الجنود وصغار الموظفين والتجار وأصحاب الحرف. سألت عن البيت مستعيناً بالعنوان الذي أحمله معي، وبعد بحث واستفسار اهتديت إليه. لم أجد زوج أختي هناك. كان جندياً في كتيبة للدبابات، وقد شاء سوء حظي يومها أن تعلن الكتيبة عن ليلة للمناورات والتدريب، فلم يعد إلى البيت تلك الليلة ولا في اليوم التالي. فرشت لي أختي فرشة على الأرض، خلعتُ نعلي وجلست. حاولت أختي أن تكتم أحزانها، وألا تخبرني شيئاً من معاناتها. خمنت أن ثمة منغصات تحدث لها. وأن صراعاً يومياً يدور بينها وبين أم زوجها التي تقيم معها في البيت.
قمت بتوجيه نصائح عامة وتمنيات، استمعت لها أختي وحماتها. الحماة أبدت تجاوباً ظاهرياً مع هذه النصائح، مؤكدة أن كل شيء في الأسرة على ما يرام. أثبتت الحقائق اللاحقة أن الأمور لم تكن على ما يرام. نمت تلك الليلة في بيت أختي. وفي الصباح التالي غادرت البيت وعدت إلى القدس، ولم أر أختي مرة أخرى إلا بعد ذلك بأشهر، وكان ذلك في بيتنا.

2

لو أنها لم تمت في سن مبكرة. لو أنها لم تؤخذ دون التشاور معها، إلى هذا الزواج. لو أنها كبرت وانتمت إلى الفكر الذي انتميت إليه. لو أنها مشت في مظاهرة. لو أنها حملت علماً وسارت بين الجموع. لو!

3

زرت الزرقاء بعد موتها مرات عديدة. والآن، فإن اثنتين من أخواتي تقيمان في الزرقاء، ولدى كل منهما بيت وزوج وأولاد. ولم نكن نتذكرها إلا قليلاً ونحن نجلس للسمر في أمسيات الصيف أو في ليالي الشتاء. مضت إلى مصيرها منذ سنوات. ومدينة الزرقاء تكبر وتتمدد، بعد النكسة التي دفعت إليها أعداداً متزايدة من الفلسطينيين، الذين نزحوا إليها وإلى غيرها من المدن الأردنية والعربية.
تقع المدينة على أطراف الصحراء، ولها طقس صحراوي حار صيفاً بارد في الشتاء. والأختان اللتان تقيمان هناك، تتذكران بين الحين والآخر أن أختاً لهما كانت هنا من قبل، والذكرى تمر على نحو عابر، والمدينة تستمر في التمدد نحو الهضاب الجرداء.
وهي لم ترسخ في ذاكرتي على نحو ملموس، رغم كثرة الليالي والأيام التي أمضيتها فيها، زائراً في بيوت الأختين وغيرهما من الأقارب الذين احتشدوا فيها لسبب أو لآخر. ظلت بالنسبة لي مدينة طرفية مشغولة بولادة أحياء جديدة مكتظة بجنود وعمال وحرفيين وتجار.
عمّان كانت هي الأرسخ في وعيي، لما لها من مكانة وتاريخ وحياة يومية متشعبة ونوافذ مفتوحة على الثقافة. ولا أدري إن كانت أختي أمينة زارت عمان خلال إقامتها مدة عام أو أقل قليلاً في الزرقاء. أظن أنها لم تزرها لأنها كانت زوجة جندي لا يجد الكثير من الوقت، كي يذهب مع زوجته إلى العاصمة، ولم تكن هي تفكر بالذهاب وحدها إليها، لما تتسم به حياة عائلتها من محافظة، شأنها في ذلك شأن العائلات التي تتشابه مع عائلتها، في المستوى وظروف المعيشة اليومية والتطلعات.
أمينة، كما أتوقع، لم تظفر ذات يوم بزيارة عمان.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05