الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعال .. قصة قصيرة

وليد المسعودي

2022 / 11 / 7
الادب والفن


سعال

قصة قصيرة

بعد ان كان الباص فارغا من الركاب مثل غرفة كبيرة هادئة مطلة على ساحة مهجورة مليئة بالنفايات ، فجأة يمتلأ ، ويمتلأ معه الضجيج والاصوات التي تفارق اية احاديث طيبة بين حبيبين او صديقين . يصبح مثل جرح يفز ، يصرخ بالآه بين حين وحين ولا احد يسمع صوته . هناك في آخر الباص يجلس اربعينيا غارقا في التفكير وكثرة الأسئلة ، حول شجرة ميتة ، حول نهر جاف ، حول هذه المدينة ومصيرها الكئيب . تحزنه رؤية المتسولين وهم يتجولون بوجوه داستها العربات ، عربات قهر هذا الزمان . يحزنه جامعو النفايات وهم يبحثون عن غدٍ لا تجره الحسرات . تحزنه كثرة الاوساخ ، خصوصا تلك التي يزرعها بائعو الاغنام والابقار حتى تنبت في قلوب الناس ملكة الخوف ، من اي شيء . ضجيج وفوضى واوساخ وحزن ووجوه مسحوقة في كل مكان .
يفكر هذا الاربعيني كثيرا بمصير هذه المدينة ، الى اين ذاهبة في خوفها وضجيجها هذا ؟! الى اين ذاهبة وهي تنزع الافراح من كل وجه ، الى اين ذاهبة ؟! يفكر الاربعيني ولا يقطع تفكيره سوى سعال حاد يطلقه بجناح مكسور شاب للتو قد زهرت على وجهه لحية خفيفة ناعمة صفراء ، يقطع تفكيره ليعود اليه من جديد وهذه المرة حول المدينة نفسها ولكن ضمن مشهد سعالي لا يتهي ، الاطفال والنساء والرجال كلهم في سعال دائم في الازقة والشوارع والساحات العامة والحدائق الترابية ، سعال يخنق الوجوه ، يحولها الى اضواء مطفأة . العربات تسير وفجأة تتوقف بسبب السعال وكان حركتها قد اصيبت بالاختناق ايضا ، رجال المرور لا يستطيعون تحريك ايديهم فالسعال يشل كل شيء ، يا له من مشهد ان تنطرح المدينة كلها على الأرض وتبدأ بالاختناق والاحتضار ، مدينة تموت تتحول الى تلال كبيرة من الاجساد المتطايرة في الهواء ، مدينة من رماد ، ولا يوجد اي هواء نقي يسعفها بالبقاء ، يرى الاربعيني هذا المشهد ، يعصر قلبة حتى يتحول الى كتلة سوداء من الحزن ويتساءل لماذا لم يصيبه السعال كالاخرين ؟! ما هذه الحياة التي تعطى للبؤساء مثلي ، لماذا لم أعش هذه التجربة ، تجربة الانطراح والموت ، ولا جواب لديه . المدينة تموت تتطاير في الهواء ، ولا يبقى فيها سوى بعض نسوة مكحلات بالحزن والخوف والحب ، نسوة باعمار موردة واجساد لم تزرع فوقها القبلات والايدي حتى تتحول الى كتل من نار تحترق كل يوم ، نسوة جمالهن لا يساوي هذه الحياة المختنقة ، نسوة وبعض اطفال للتو قد لاحتهم الشوارع والطرقات والاضواء ، يغرقون جميعهم في بكاء ونشيج وولولة ، يستمر هذا الحال لاربعين يوما . اربعون دهرا من الحزن قد مرت على رؤوسهم جميعا .
هل تستطيع إعالة الجمال والاطفال ؟!
كل هذا العدد ايها المنهك في قواه ، ايها الغارق في روحك الوثابة للطمأنينة وراحة البال رغم انحسارها ، هكذا يسأل نفسه ، ويعيد السؤال كلما مرقت احداهن بحزنها الموجع ، يسأل نفسه ليمضي في حياة كلها كدح ، كلها شقاء لاعالة ما تبقى من المدينة من جمال واطفال ، فهو سيدها الوحيد ، ولكن يا له من سيد معدوم الحيلة في النهار والليل ، وكلاهما يركبانه بثقل كبير .
يواصل حياته معهن ومع الاطفال ، في النهار يجمع ما تبقى من طعام وغذاء لعائلته الكبيرة ، وفي الليل يتجمع حوله الحب كوطن جائع ، احداهن تطرحه ارضا لساعات من القبل واخرى لا يكفيها قتل الليل بالرغبات ، فتعمد الى زراعتها في عيون وجسد الاربعيني ولكن دون جدوى . نسوة تفوق الجمال ولا يميزه فهو في منأى عن الرغبة او هو مجبر عليها كل يوم ، كل يوم كدح وشقاء ليل نهار ، ولا ينتهي إلا مع صيحة سائق الباص " هناك احد لم يدفع اجرته؟! " وهنا ينتبه ويصيح صاحبنا الاربعيني " نعم انا " يصيح بصوت مخنوق للتو قد خرج من الجنة عفوا من الجحيم ، جحيم الحب الذي لا ينتهي ، جحيم الشقاء والتعب ، يعقبه سعال حاد يطول حتى ينتهي مع نزوله من الباص .

العراق بغداد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟