الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولاعة الغريب

ادريس الواغيش

2022 / 11 / 9
الادب والفن


قصة قصيرة: ولاعة الغريب
بقلم: ادريس الواغيش
لم يكن بالنسبة لي سفرا، ولكن كان نوعا من التوهان. ولأنني أيضا كنت أعيش ما يشبه فوضى داخلية، بدأت أبحث عن تصالح مع الذات وردم هوة تفصلني عن نفسي، وإجلاء خوف صامت يسكنني في الأعماق من غدر مزمن لحوالتي الشهرية، كثيرا ما كانت تخونني قبل منتصف الشهر. ولكن ما كان يشفع لها أنها كانت متحررة من متابعة الأقساط الشهرية. كنت أشعر بثقل أحلام البدايات وكوابيسها، وزاد من الضغط علي أن زارني فجأة كائن مهزوم بداخلي، قلت فليكن سفرا أروح فيه عن نفسي. حملت حقيبتي الجلدية، وامتطيت الحافلة. حين نزلت، وجدتني تائها على أطراف الصحراء بلا يقين أو بوصلة. كما أنني كنت في حاجة إلى قليل من الاانحراف، لأعيش حرا من غدي ومن أمسي، ومن عوطف هزمتها في غراميات فاشلة. كنت محتاجا أكثر من أي وقت مضى إلى الصراخ، فلم أجد خيارا أحسن من خلاء الصحراء.
نزلت من الحافلة في يوم ربيعي أقرب إلى أجواء الصيف في مدينة صغيرة على تخوم الصحراء، وجدت في استقبالي لهيب رياح خفيفة، ولكنها شرقية حارقة. احتميت بداية بالمقهى، ولكن لم أجد فيه مبتغاي. كانت السخونة بداخله لا تفرق عن لهيب الشارع، لم يبق أمامي من خيار غير الذهاب إلى فندق يوجد قبالتي، قصدته وجلست وحيدا في القاعة. انتبهت فتاة جميلة إلى تضايقي من سخونة صحراوية تلاحقني، أشارت بأصبع يدها البضة في لطف إلى زرقة مسبح، وقالت لي باسمة في غنج:
- انظر، هناك ستجد أمامك مسبحا، ثم قاعة مكيفة على اليمين. فيها برودة أكثر..!!.
دخلت مهرولا على عجل، وجدت أمامي حانة، لم يكن في أركانها غير برودة وقليلا من السياح. قصدني النادل، حط أمامي قنينتي جعة باردتين، واعتزل في طاولته يأكل أشكالا من السمك، وهو يدندن بمقاطع من أغنيات مغربية قديمة. ناديت مجددا، أشار إلي النادل، أشرت عليه، وإذا بالقنينة الثالثة تصل، ثم تلتها الرابعة. تحسست جيوبي في ارتياب، راودت شفتي سيجارة فاجرة، بدأ ذبيب خفيف يصعد إلى الرأس. كنت حديث العهد بترك بلية السجائر، طلبت سيجارة من سائحة إفرنجية ليست ببعيدة عن مجلسي بالفرنسية ثم بالإنجليزية، مدت يدها إلى معطف جليسها الأشقر المرمي بشكل فوضوي على الكرسي، ناولتني في لامبالاة علبة سجائر، واستمرت في حديثها بجدية واهتمام. أخذت من العلبة سيجارتين، وجدت حرجا كبيرا في طلب الولاعة، ولكن الحاجة دفعتني إلى أن أفعل، ففعلت.
جلس بجانبي شاب أربعيني لا تنقصه وسامة و أناقة. بدأ يكثر من الالتفاف حوله، عرفت أنه في حاجة إلى جليس، وكنت أنا أكثر منه حاجة إلى الفضفضة والكلام. اقتربنا من بعضنا. بدأ هاتفه يرن، وكان للهاتف شأن عظيم. انتبه إليه، وأسكته بحركة من يده. تتابعت رنات الهاتف في إلحاح، في الرابعة وقف، وانزوى إلى طاولة لم تكن بعيدة، وطالت المكالمة. كان في كل مرة يشير برأسه إلى ما يفيد "أي نعم".
الظاهر أن المكالمة وردت من رئيسه في العمل أو من شريك له في التجارة. أنهى المكالمة واقرب مني أكثر، تكلمنا طويلا في كل شيء إلا في السياسة، وتبادلنا ابتسامات بلا معنى. لم يكن يجمع بيننا أكثر من طاولة تملؤها قوارير بيرة خضراء، وسجائر مع لاعة تلفها صفرة النحاس. انتبه إلى أنني أجهزت معه على علبة السجائر، ناولني علبة "مارلورو" أخرى. اعتذرت منه بلطف، قائلا:
- معذرة صديقي، تركت بلوى السجائر منذ مدة قصيرة، ولم أعد أدخنها إلا في حالات قليلة، وهذه واحدة منها..!!
رد علي فيما يشبه المجاملة:
- لا عليك، أنا مثلك عابر، هذه فرصة للتعارف، وهذا هو الأهم. أتمنى أن نلتقي في مناسبة أخرى قريبا..!!
لم يفاجئني كلامه، كنا قد دخلنا في منطقة المجاملات. لم أعد أهتم لما أنا فيه، ولكن ما كان يهمني هو ما أعيشه. راودتني فكرة شيطانية، بدأت تلح علي في أن يكون شرطيا سريا، ولكن سرعان ما طردت كل مثيلاتها من أفكار. لا يمكن لشخص أن يدفع ثمن المشروبات وبإلحاح منه وبكرم حاتمي، لمجرد ان يوقع بي في كلام عابر داخل حانة. دخل فوج من السياح الألمان إلى الفندق، وبدأوا يمسحون جنبات الحانة بعيونهم الزرقاء ونظراتهم المتعالية. احمرار وجوههم والعرق الغزير المتصبب من مسام جلودهم أثبت لي أن الحرارة لازالت ملتهبة في الخارج، وموجات الهواء البارد تغري بالبقاء أكثر. كان النادل في الطرف المقابل ينظر إلى ساعته في قلق وتوتر وكأنه ينتظر من يعوضه، ربما بدأ العمل مبكرا أو طالت مناوبته لظرف طارىء. لم يكن يهتم بطلبيات الزوار. بدأ السياح الذين دخلوا لتوهم من جحيم حرارة الصحراء في التأفف، تجاهلهم ولم يلتفت إليهم. كان قد أجهز على باقي السمكات، ودخن ما طاب له السجائر. مشهد السمك جعلني أشعر بأنني طفل صغير يشتهي كل ما ليس بين يديه. بدأ الزوار يتكاثرون، وأفراد جوق أمازيغي يهيؤون ركحا صغيرا في الزاوية المقابلة استعدادا لسهرة آخر الليل. الزبائن المغاربة بدأوا يدخلون إلى الفندق، كل واحد يرمي علبة السجائر على الطاولة وولاعة إلى جانبها، ثم يتحسس جيوبه.
يخرج زبون ويجلس آخر، تقصده الراقصة بلباسها الأطلسي مع ما يرافقه من إكسيسوارات تحدث شخشخة. كثر الزبناء، ومعهم علب السجائر والولاعات مرمية على الطاولات، كثر تصاعد الدخان من الخياشم في فضاء الحانة التي تحولت إلى ما يشبه علبة ليلية. بدأ مكبر الصوت يصدح بأغاني أمازيغية، ومعه مواويل شيخات أطلسية موغلة في الشجن، وأنا مثل الغريب الذي صعب عليه أن يكبح أحاسيسه دفعة واحدة. خفت أن أنزلق إلى آخر الليل وعلى جيبي. أشفقت على نفسي، واتخذت قرار الخروج بكل حزم وصرامة، حملت نفسي معي وما تبقى في علبة السجائر من لفائف وولاعة نحاسية تركها لي الغريب هدية. هممت واقفا أبحث عن فندق آخر يأويني، وأنا أترك قسرا ما تبقى من شتاتي.
كانت الأضواء قد أشعلت مصابيحها الملونة عن آخرها، والجو الصاخب بدأ يميل إلى توتر في الأحاسيس. ظل ذبيب خفيف عالق بالجمجمة يلاحقني مع شعور رهيب بأحوال الطقس المتقلب، إحساس بالبرد في شوارع مدينة على أطراف الصحراء، لا فرق بين قساوة حرها في النهار وقرها في الليل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا