الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان هوفاك

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 11 / 10
الادب والفن




شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هوفاك

2 ـ أم هوفاك

3 ـ كامنغر

4 ـ أباريل ـ أم كامنغر

" 1 "
ـــــــــــــــــــ
تململت هوفاك في فراشها الدافىء ، الليل ، والبرد ، والعاصفة ، خارج الكوخ ، وعواء ممطوط بشع يتناهى من بعيد ، أهو عواء العاصفة ، أم عواء ذئاب تبحث عن فريسة ، تسد بها جنون جوعها ؟
وفتحت عينيها المتعبتين ، المثقلتين بالنعاس ، ونظرت على ضوء القنديل الخافت ، إلى الفراش الآخر ، الذي ترقد فيه أمها ، إنها مريضة منذ أيام وأيام ، رأتها مغمضة العينين ، لا تند عنها حركة واحدة ، أهي نائمة حقاً ، أم أنها تتظاهر بالنوم ؟ من يدري .
وارتفع العواء في الخارج ، يا للعاصفة الثلجية المجنونة ، أم أنه الذئب ؟ وخفق قلبها بخوف ، فزحفت على ضوء القنديل الخافت ، إلى حيث ترقد أمها .
ويبدو أن الأم ، رغم أنها كان نائمة ، قد أحست بدبيب ابنتها إلى جانبها ، ففتحت عينيها اللتين يثقلهما النعاس ، وتمتمت مندهشة : هوفاك !
وتوقفت هوفاك ، ورفعت رأسها ترهف السمع ، وقالت بصوت خافت : ماما ، اسمعي ..
وحاولت الأم أن تعتدل ، وهي تكتم توجعها ، وقالت : لا عليكِ ، يا بنيتي ، العاصفة الثلجية في الخارج ، ونحن هنا ، أنا وأنتِ ، في مأمن تام .
وحدقت هوفاك فيها ، وقالت : أنا لا أتحدث عني ، يا ماما ، ولا عنكِ ، إنني أتحدث عن ..
وعرفت أمها ما تريد أن تقوله ،فقاطعتها قائلة : بنيتي ، أنت صغيرة ، لا تفكري في أمور كهذه .
وندت صيحة عن هوفاك ، حاولت عبثاً أن تخنقها ، وقالت : ماما ، إنه أبي ..
وقالت الأم ، ربما لتطمئنها ، رغم أنها هي نفسها ، كانت مضطربة مترددة : بنيتي ، أبوك رجل قويّ ، شجاع ، مجرب ، لا خوف عليه ، ثمّ إنه لم يذهب لصيد الفقمات وحده ، وسيعود ، سيعود حتماً ..
ولاذت هوفاك بالصمت ، وبدا أنها لم تقتنع ، فقالت الأم بصوت حزين ، وكأنها تحدث نفسها : رغم كلّ شيء ، لو لم أكن مريضة ، لخرجت للبحث عنه .
ونهضت هوفاك ، وقالت : أنا لستُ مريضة .
ونظرت الأم إليها ، وقالت بشيء من الحدة : لا ، أنتِ بنت ، ثمّ أنت صغيرة ..
وردت هوفاك على الفور قائلة : لم أعد صغيرة ، لقد تجاوزت الثالثة عشرة .
وعلا في الخارج صوت العواء ، والتفتت الأم إلى مصدر الصوت ، وأنصتت لحظات خائفة ، ثم خاطبت هوفاك قائلة : هوفاك ، تعالي إلى جانبي .
لكن هوفاك ، رغم ارتفاع العواء ، عادت إلى فراشها ، وتمددت فيه ، وهي تقول بعناد : كلا ، سأنام في فراشي ، حتى لو أكلتني الذئاب .
وأغمضت هوفاك عينيها ، وقد تدثرت بجلد الدب القطبي الأبيض ، ولم تحاول أن تنام ، وكيف تنام وهي لا تعرف مصير أبيها ، الذي خرج للصيد مع اثنين من رفاقه ، منذ حوالي عشرين يوماً ؟ لا لن تنام ، يجب أن تعرف مصيره ، مهما كلف الأمر .
لكن ما تقوله هوفاك أحياناً ، ليس ما تستطيع أن تنفذه ، وإن بذلت في ذلك جهداً صادقاً ، فقد غلب النعاس عينيها المتعبتين ، ربما في الساعات الأخيرة من الليل ، واستغرقت في نوم عميق .
وأفاقت صباح اليوم التالي ، على الباب يُطرق ، فاعتدلت في فراشها ، ورمقت أمها بنظرة سريع ، فقالت الأم ، وكانت قد نهضت من فراشها : لعلها أباريل ، هكذا تطرق الباب .
وتساءلت هوفاك متمتمة : أم كامنغر ؟
فردت الأم : نعم ، هي ، إنها امرأة طيبة ، لعلها جاءت لنا بشيء من الطعام .
ونهضت هوفاك من فراشها ، وقالت ، وهي تتجه نحو الباب : سأقول لها ، أن لا تأتينا بأي طعام ، نحن لا نريد صدقة من أحد .
وهتفت الأم بها بصوت خافت مضطرب : كلا يا هوفاك ، هذه هي العادة هنا ، عندما يصيد أحدهم طريدة ، تفيض عن حاجته ، يوزع بعضها على الجيران .
وفتحت هوفاك الباب ، بشيء من الانفعال ، إنها باريل فعلاً ، تحمل في يدها شيئاً ملفوفاً بالورق ، ولمحت ابنها كامنغر يقف بعيداً ، وكلبه الضخم الذي يفخر بأنه من نسل ذئب ، يقف إلى جانبه .
ونظرت أباريل إلى هوفاك ، التي تكاد تسد الباب بجسمها ، وخاطبتها قائلة : صباح الخير هوفاك .
وردت هوفاك ، وهي تحاول جهدها ، أن تكتم انفعالها : أهلاً ، صباح النور .
وابتسمت أباريل لها ، وقالت : بنيتي ، إنني قلقة على أمك ، جئت أطمئن عليها .
وقالت هوفاك بشيء من الحدة ، دون أن تتحرك من مكانها : أمي بخير ، اطمئني .
وهتفت الأم من مكانه في الداخل : أباريل ، أهلاً بك ، تفضلي ادخلي ، يا عزيزتي ، ادخلي .
ومدت أباريل يدها ، ونحّت هوفاك برفق قليلاً ، ثم دخلت ، وهي تقول : صباح الخير ، يا عزيزتي .
ورحبت بها الأم قائلة ، وهي تحاول جهدها أن تبتسم : صباح النور ، أهلاً ومرحباً بك .
وتطلعت أباريل إلى الأم مبتسمة ، وقالت : لا ، اليوم أنت أفضل بكثير ، وستتعافين تماماً بعد أيام ، وتتركين الفراش ، وتلتفتين إلى حياتك .
وابتسمت الأم ابتسامة شاحبة ، وقالت بصوت واهن : أشكرك ، لكني مازلت أشعر بالضعف ، ربما كان البرد الشديد يؤثر فيّ ، ويزيد من مرضي .
ومدت أباريل يدها ، وربتت على ذراع الأم ، وقالت بصوت مرح : هذا وهم ، أنت بخير ، كلي ، كلي كثيراً ، فنيراننا بحاجة إلى وقود .
ثم مدت يدها بما جاءت به ملفوفاً بالورق ، وقالت : هذا طائر تلمجان ، منظف ، ومعد للطبخ ، لقد اصطاد كامنغر البارحة ثلاثة طيور ، وجئتك بواحد منها .
فتمتمت الأم قائلة : أشكرك .
ثم نادت ابنتها : هوفاك .
وأغلقت هوفاك الباب ، واقتربت من الأم ، وقالت : نعم .
فنظرت الأم إليها ، وقالت : خذي هذا الطائر من جارتنا الطيبة أباريل ، وضعيه في القدر .
وأخذت هوفاك عابسة ، طائر التلمجان الملفوف بالورق من أباريل ، دون أن تتفوه بكلمة ، ثم استدارت ، ووضعته في القدر ، بشيء من القوة ، وهي تقول : أنا لا يعجبني طائر التلمجان .
وابتسمت الأم لأباريل ، وكأنها تعتذر منها ، فقالت الأخيرة : أمك صديقتي منذ الصغر ، ونحن منذ البداية ، كان يعجبنا أن نتناول التلمجان .
ونظرت إلى هوفاك مبتسمة ، ثم قالت : تناولي التلمجان مشوياً ، وسيعجبك جداً .
وردت هوفاك قائلة بشيء من الحدة : لن تحتاج ماما إلى التلمجان من أحد ، أنا سأذهب إلى الغابة بنفسي ، وأصطاد لها ما تريده .
ونهضت أباريل ، وغمزت خلسة للأم ، وقالت وهي تنظر إلى هوفاك : لكنك بنت ، يا صغيرتي .
وردت هوفاك معاندة : أنا بنت ، نعم ، لكني لست صغيرة ، وسأصطاد ما نحتاجه .
وضحكت أباريل ، وهي تتجه إلى الخارج ، وهي تقول للأم : أراك في صحة وعافية .
فردت الأم قائلة : رافقتك السلامة .






" 2 "
ــــــــــــــــــ
في الليل التالي ، وهوفاك تجلس ساهمة ، على مقربة من الموقد ، وأمها في فراشها ، تحاول عبثاً أن تغفو ، جاءت العاصفة الثلجية تعول " هووووو ..
هذه الذئاب الثلجية اللعينة ، الجائعة دائماً ، ألا تملّ ، ألا تهدأ ، وتعود من حيث أتت ؟ وتتركهم ينعمون ببعض الهدوء ولو إلى حين .
وخاطبت هوفاك أمها ، دون أن تنظر إليها : ماما ..
وفتحت الأم عينيها اللتين أتعبهما المرض ، ونظرت إلى هوفاك ، على ضوء القنديل الخافت ، وقالت بصوت واهن : نعم .. هوفاك ..
فتابعت هوفاك كلامها قائلة : غداً صباحاً ، سآخذ رمح أبي ، ذا الشعب الثلاثة ، وأذهب إلى الغابة ، وأصطاد ما نحتاجه في طعامنا .
ورغم مرضها ، غالبت الأم ابتسامتها ، وردت قائلة بصوتها الواهن : الرمح الثلاثي الشِعب ، يصيدون به الفقمة ، وعلى ما أعرف ، لا توجد فقمات في الغابة ، لأنها تعيش في البحر .
وبدا الضيق على هوفاك ، وقالت : أعرف ..
ثم التفتت إلى أمها ، وأضافت قائلة : سأصيد طائر التلمجان ، رغم أنني لا أحبه .
ورفعت الأم عينيها المتعبتين ، متطلعة إلى السقف ، وقالت بصوتها الواهن : عندما كنت في عمركِ ، كنت أذهب إلى الغابة ، مع بعض صديقاتي ، وكنا نجمع التوت البري وبيض الطيور .
وأشاحت هوفاك النظر عن أمها ، وقالت : لن أجمع التوت وبيض الطيور ، أنا هوفاك .
ولاذت الأم بالصمت لحظة ، ثم قالت بصوتها الواهن : بعض الفتيات الشجاعات ، اللاتي كنّ في عمرك ، وحتى الأكبر منك ، لا يذهبن وحدهنّ إلى الغابة ، خوفاً من الوحش الرهيب .. كالوبيلوك .
ورغم إرادتها ، خفق قلبها بشيء من الشدة ، وتمتمت : كالوبيلوك ! الوحش ؟
ومَن مِن الأطفال لا يخاف الوحش كالوبيلوك ؟ لكنها لم تعد طفلة ، إنها .. إنها هوفاك ، وتابعت أمها قائلة بصوتها المتعب : هذا الوحش ، الوحش المخيف كالوبيلوك ، الذي يتربص بالأطفال ، الذين يذهبون إلى الغابة وحدهم ، ويخطفهم .
واتسعت عينا هوفاك خوفاً بعض الشيء ، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها ، وردت على أمها قائلة : أنا لا أخاف ، لا من كالوبيلوك ولا من غيره ، وسأذهب غداً إلى الغابة ، ومعي الرمح الثلاثي الشعاب .
وفعلاً ذهبت هوفاك ، في صباح اليوم التالي ، إلى الغابة وحدها ، حاملة الرمح ذا الشعب الثلاث ، وقبل أن تذهب مبتعدة ، هتفت بها الأم : بنيتي هوفاك ، لا تبتعدي كثيراً ، اجمعي بعض التوت والبيض ، وعودي .
وصاحت هوفاك ، دون أن تلتفت إليها : إنني ذاهبة إلى الغابة ، لاصطياد طيور التلمجان لكِ ، وليس لجمع التوت وبيض الطيور .
وهزت الأم رأسها ، إنها تخاف عليها فعلاً ، رغم أنها تعرف أن الغابة ليست بعيدة ، وأنها لا تشكل خطراً على أحد ، إذا لم يتوغل بعيداً فيها .
ودخلت هوفاك الغابة ، والرمح ذو الشعب الثلاث في يدها ، وتباطأت في سيرها ، فقد بدت لها الأشجار ، وكأنها أشبح ليلية تتطلع إليها خلسة ، وتناهى إليها صوت من بعيد : هو .. هو ..ووو .
وتوقفت هوفاك ، لعلها بومة ، لكننا في النهار ، والبومة تنشط في الليل ، أهو .. ؟ وشدت بقوة على رمحها الثلاثي الشعب ، إنها هوفاك ، وستواجه أي شبح مهما كان ، وستغرز رمحها فيه ، و ..
وتراءت لها أمها ، متمددة في فراشها ، تحذرها بصوتها الواهن الممطوط : هوفاك .. هوفاك .. إياكِ والغابة .. فالوحش كالوبيلوك .. يتربص وراء الأشجار ..
وهزت هوفاك رأسها ، كالوبيلوك خرافة ، ورغم ذلك راح قلبها يخفق بشيء من الشدة ، وتذكرت صديقتها ، إنها تعرف أشياء كثيرة ، وقالت لها مرة : إن كالوبيلوك ، لا يظهر بهيئة واحدة دائماً ، فقد يظهر مرة بهيئة ثعلب أو خنزير أو ذئب أو ..
وزقزق عصفور على غصن قريب ، فشهقت هوفاك خائفة ، وهمت أن تلوذ بالفرار ، وهي تتمتم بصوت مضطرب : هذا كالوبيلوك ..
لكنّ العصفور هبّ من فوق الغصن ، ومضى يرفرف مبتعداً ، حتى اختفى ، فهزت هوفاك رأسها ، يا للحمق ، لو أن أمها عرفت بهذا ، أو إحدى صديقاتها ، أو هذا ال .. ما اسمه ؟ نعم .. كامنغر .. دعها منهم ، لتتوغل في الغابة ، إنها هوفاك .
وسارت هوفاك بخطوات أرادتها ثابتة ، متوغلة بين الأشجار المثقلة بالثلوج ، والرمح ذو الشعاب الثلاث في يدها ، وهي تنصت إلى ما يمكن أن يدور حولها ، و .. توقفت مرعوبة ، فقد تناهى إليها من بين الأشجار عواء ، بدا لها غريباً : عو عو عو ..
واتسعت عيناها رعبا ، وقلبها يخفق في صدرها بشدة ، لابد أنه .. كالوبيلوك .. في هيئة كلب .. ما العمل ؟ وقبل أن تطلق سيقانها للريح ، برز من بين الأشجار كلب ضخم ، وهدأ قلبها ، إنه كلب كامنغر .
وتوقف الكلب الضخم حين رآها ، وكأنما عرف من هي ، فراح ينبح : عو عو عو ..
وعلى الفور ، أقبل كامنغر مسرعاً ، وفي يده فخّ ، واقترب من الكلب ، ونهره قائلاً : أيها الأحمق ، إنها هوفاك ، كفى نباحاً ، كفى ، كفى .
وكفّ الكلب الضخم عن النباح ، وأرخى ذيله الكث ، ووقف ينتظر دون أن يصدر أيّ صوت ، ورفع كامنغر عينيه ، ونظر إلى هوفاك ، وقال : عفواً ، أخشى أن أكون قد عطلك عما تسعين إليه .
وردت هوفاك ، وقد تمالكت نفسها : كلا ، إنني أصطاد الطيور لي ولأمي .
ورفع كامنغر الفخ ، الذي في يده ، وأراه لهوفاك ، وقال بصوت هادىء : أنا أنصب الفخاخ بين الأشجار ، ليتك تأتين معي ، وتساعديني .
وتقدمت هوفاك منه ، وهي تقول : أنا لا أعرف كيف تنصب الفخاخ .
فقال كامنغر لها : تعالي ، وافعلي ما أفعله ، وسترين أن الأمر ليس صعباً .
وأخذها إلى حيث كان ينصب الفخاخ ، في مكان قريب بين الأشجار ، وأعطاها فخاً ، وأخذ هو فخاً ، وراح ينصبه ، وهو يتحدث إليها : تابعيني خطوة بعد خطوة ، وحاكي ما أفعله ، نعم هكذا ..
وحين انتهى كامنغر من نصب الفخ ، كانت هوفاك قد انتهت من نصب الفخ هي الأخرى ، فنهض كامنغر مبتسماً ، وقال : أرأيت ؟ لقد تعلمت نصب الفخاخ .
وابتسمت هوفاك ، ونظرت إلى كامنغر ، وقالت : حقاً ، نصب الفخاخ ليس صعباً .
وقال كامنغر : لنذهب الآن إلى البيت ، ونعد غداً ، وسنرى ما اصطادته هذه الفخاخ .
وسار كامنغر ، وسارت هوفاك إلى جانبه ، متجهين نحو البيت ، وقد خيم عليهما الصمت ، والكلب الضخم يهرول وراءهما ، وهو يلهث .









" 3 "
ـــــــــــــــــ
تنهدت الأم بارتياح ، وقد أزيح عن صدرها الأمومي عبء ثقيل ، عندما تناهى إليها من خارج البيت ، وقع أقدام ابنتها هوفاك .
وسرعان ما دفعت هوفاك الباب ، ودخلت البيت ، وقد بدا عليها التعب الشديد ، فوضعت الرمح ذا الشعب الثلاث في مكانه ، ثم نظرت إلى أمها ، وقالت ، كما لو أنها مازالت طفلة صغيرة : إنني جائعة .
وكتمت الأم ابتسامتها ، وقالت : لا أرى ما اصطدته ، لابدّ أنك تركته في الخارج .
وردت هوفاك بصوت متعب ، دون أن تنظر إلى أمها : لم أصطد هذا اليوم شيئاً .
وتنهدت الأم ، وقالت : آه .
وردت هوفاك على آهها قائلة : إن أبي نفسه ، وهو صياد ماهر ، لم يكن يصطاد كلّ يوم .
فقالت الأم : أنت محقة .
ورمقت هوفاك أمها ، الجالسة في سريرها بنظرة سريعة ، ثمّ جلست حيث توضع سفرة الطعام ، وقالت بصوتها المتعب : ماما ..
وتحاملت الأم على نفسها ، ونهضت بصعوبة من السرير ، وهي تقول : سأسخن ما بقي من طعام يوم أمس ، ونأكل معاً .
ولاذت هوفاك بالصمت ، أمها متعبة ، وهي متعبة أكثر ، لكن عليها أن تتجلد ، فليس لأمها الآن غيرها ، حتى يأتي أبوها ، آه .. متى يأتي أبوها ؟
وانهمكت الأم بتسخين الطعام ، فقالت هوفاك ، وكأنها تحدث نفسها بما تتمناه : غداً ، على الأكثر ، سنأكل مما أصطاده ، نعم ، غداً .
والتفتت الأم إليها ، وحدقت فيها ملياً ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابعت هوفاك قائلة : نصبت اليوم فخاً ، نصبته بنفسي ، وسيصيد لي ما يصيده .
وصبت الأم الطعام في طبق ، ووضعته أمام هوفاك ، وجلست قبالتها ، وهي تقول : فخاخ أبيك هنا ، وأنتِ لم تأخذي غير الرمح ذي الشعب الثلاث .
ووضعت هوفاك لقمة في فمها ، ثم قالت : رأيت كالمنغر في الغابة ، وكان ينصب الفخاخ ، فأعطاني فخاً ، وعلمني كيف أنصبه ، فنصبته بنفسي .
وبدت على شفتيها بوادر ابتسامة ، وقالت كأنما تحدث نفسها : غداً سنلتقي في الغابة ، أنا وكالمنغر ، وسنرى ما الذي سيقع في تلك الفخاخ .
في اليوم التالي ، عندما خرجت هوفاك من البيت ، هتفت بها أمها : هوفاك ، بنيتي ، كوني حذرة ، فالغابة غابة ، وأنتِ بنت صغيرة .
وردت هوفاك ، وهي تحث خطاها نحو الغابة قائلة : نعم ماما ، إنني حذرة ، حذرة جداً ، ثم أنا لست بنتاً صغيرة ، وإنما .. أنا .. أنا هوفاك .
وسارت هوفاك ، والفخاخ تتراءى لها ، منصوبة على الثلج بين الأشجار ، ومن بينها الفخ الذي نصبته بنفسها ،
وتمنت بينها وبين نفسها ، أن يقع طير ما في فخها بالذات ، وليكن طير تلمجان ، نعم .. طير تلمجان ، فأمها تحب تناول لحم هذا الطير الجميل .
وقبل أن تصل مشارف الغابة ، تناهى إلى سمعها وقع أقدام ، يخالطها وقع أقدام خفيفة مهرولة ، أهو كالمنغر وكلبه ؟ من يدري .
واستدارت هوفاك دون أن تتوقف ، آه .. لا أحد ، لكنها سمعت وقع أقدام قبل قليل ، من يدري ، لعلها واهمة ، والحواس أحياً تُخدع لسبب أو لآخر .
والحقيقة أنّ هوفاك لم تكن واهمة ، فقد كان كالمنغر وكلبه الضخم ، يتأثرانها منذ خروجها من القرية تقريباً ، وقبل أن تستدير إليهما بقليل ، توقفا ، ثمّ اتخذا طريقاً جانبياً إلى الغابة .
وكادت تصل إلى المكان ، الذي نُصبت فيه الفخاخ ، عندما تناهى إليها ثانية وقع الأقدام وراءها ، وعلى الفور استدارت ، وإذا كالمنغر وكلبه الضخم يسيران ويجدان في السير في أثرها ، فتوقفت مبتسمة ، وقالت : ظننتُ أنني سأصل الفخاخ قبلتك .
واقترب كالمنغر منها ، وقال : لنقل إننا وصلنا معاً ، هيا نرى الفخاخ ، ونرجو أن تكون هذه المرة قد صادت لنا شيئاً له أهميته .
وابتسمت هوفاك ، وقالت : هيا ، هذه أول مرة أنصب فيها فخاً ، أرجو أن يفرحني ما اصطاده ، هذا إن كان قد اصطاد شيئاً .
وما إن وصلا إلى موقع الفخاخ ، بين الأشجار العالية ، حتى صاح كالمنغر متهللاً : هوفاك ، انظري ، لقد اصطاد فخك أرنبة .
وبدل أن تفرح هوفاك ، وهي تنظر إلى الأرنبة ، مستكينة بين فكي الفخ ، اقتربت منها ، وهي تقول متأثرة : أوه المسكينة ، أرجو أن لا تكون فد تأذت .
ونظر كالمنغر إليها مبتسماً ، وقال : لك أن تفرحي ، فأنت محظوظة أكثر مني ، أن حصلت على أرنبة ، وأنا لم أحصل إلا على طير واحد .
ونظرت هوفاك إليه ، وقالت : الطير والأرنبة لك ، فالفخاخ هي ملكك أنت ، وكل ما هنالك ، وأنا أشكرك عليه ، إنك علمتني كيف أنصب الفخ .
وهزّ كالمنغر رأسه ، وهو يتقدم من الأرنبة ، وقال : لا .. لا .. الأرنبة ليست لي ، وإنما لك ، فالفخ الذي نصبته هو الذي صادها .
ورفع الأرنبة من بين فكي الفخ ، وقدمها لهوفاك ، وهو يقول : خذي صيدك ، يا هوفاك ، وهذا اليوم ستتعشين أنت وأمك أرنبة لذيذة .
وأخذت هوفاك الأرنبة فرحة ، وحدقت فيها لحظات ، وشيئاً فشيئاً غادرها الفرح ، وتسلل الحزن إلى قلبها الطفولي ، ونظر كالمنغر إليها مندهشاً ، وقال لها : ظننت أن هذا الصيد سيفرحك جداً ..
وهزت هوفاك رأسها ، وتمتمت : أنها أرنبة ..
واقترب كالمنغر منها ، وقال مستغرباً : يا للعجب ، يبدو أنك لا تحبين الأرانب .
وحدقت هوفاك في الأرنبة ، ثم قالت : انظر ، يا كالمنغر ، ما أجملها .
وابتسم كالمنغر ، وقال : نعم ، جميلة ، وخاصة وهي بهذا الفراء الأبيض ، وفراؤها لا يكون بهذا البياض الناصع إلا في فصل الشتاء .
ورفعت هوفاك نظرها إليه ، وقالت : إنها أنثى ..
وهزّ كالمنغر رأسه ، وقال : نعم ، إنها أنثى .
وقالت هوفاك : يقال إن الأرنبة تضع أكثر من خمس أو ست صغار في المرة الواحدة ..
وابتسم كالمنغر ، وقال : وربما أكثر .
وتابعت هوفاك قائلة ، وكأنه تحدث نفسها : ومن يدري ، فقد يكون لهذه الأرنبة ، في بيتها صغار عديدون ينتظرون عودتها لترضعهم ..
وحدق كالمنغر فيها صامتاً ، وقد تلاشت ابتسامته ، فقالت هوفاك : وإذا لم تعد إليهم اليوم ، سيجوع هؤلاء الصغار ، ويجوعون ، و .. ويموتون من الجوع .
ويبدو أن كالمنغر قد تأكد مما تريد أن تقدم عليه هوفاك ، فتقدم منها ، وهتف بها : هوفاك ..
لم تلتفت هوفاك إليه ، وابتعدت قليلاً ، ثم انحنت ووضعت الأرنبة على الأرض ، ، ودفعتها برفق ، وهي تقول : صغارك ينتظرونك ، اذهبي إليهم .








" 4 "
ـــــــــــــــــــ
عادا من الغابة صامتين ، يسير أحدهما إلى جانب الآخر ، لكنهما كانا في عالمين متباعدين ، وربما ما كانا يحسان حتى بالكلب الضخم ، الذي كان يهرول وراءهما لاهثاً ، ولسانه يتدلى من بين شدقيه .
وقبل أن يفترقا ، ويذهب كلّ منهما إلى كوخه ، التفت كالمنغر إلى هوفاك ، وقال لها : الفخاخ في مكانها ، والفخ الذي اصطاد الأرنبة ، نصبته من جديد ، من يدري ، قد يحالفنا الحظ هذه المرة ، ونصطاد عدة طيور ، وربما بينها طير التلمجان .
وهزت هوفاك رأسها ، لكنها لم تردّ بشيء، وواصلت سيرها نحو كوخهم القريب ، وتوقف كالمنغر ، وهتف بها : إلى اللقاء ، يا هوفاك .
ودلفت هوفاك إلى الكوخ ، حتى دون أن تلوح له ، فاستدار كالمنغر ببطء ، ثمّ مضى نحو الكوخ ، وكلبه الضخم يهرول لاهثاً وراءه .
وعندما أحست الأم بدخول هوفاك الكوخ ، وكانت تشوي سمكة في الموقد ، التفتت نحوها ، ورمقتها بنظرة معاتبة ، وقالت : هوفاك ، لقد تأخرت .
وبدل أن تردّ أوفاك قالت : ماما ، أنت مريضة .
وكما لم تلتفت هوفاك إلى كلام أمها ، لم تلتفت الأم إلى كلامها ، وقالت مبتسمة : مهما يكن ، جئت في الوقت المناسب ، السمكة تكاد تنضج .
ونظرت هوفاك إلى السمكة ممتعضة ، فابتسمت لها الأم ، وقالت وهي تقلب السمكة على النار : جاءتنا بها أم كالمنغر صباح اليوم ، لقد اصطادت البارحة ثلاث سمكات ، فأعطتنا واحدة منها .
وأشاحت هوفاك بوجهها ، بعيداً عن أمها ، وعن السمكة التي كانت تنضج ببطء على النار ، وجلست فوق فراشها مقطبة ، وهي تغالب انزعاجها .
وحين نضجت السمكة تماماً ، وضعتها الأم على السفرة ، ونظرت إلى هوفاك ، وقالت بصوت هادىء : بنيتي ، الطعام جاهز ، هيّا نأكل .
لم تتحرك هوفاك من مكانها ، وردت على أمها قائلة : كلي أنتِ ، لست جائعة .
وجلست الأم أمام السمكة المشوية ، وقالت : هوفاك ، لن آكل إذا لم تأكلي معي .
ونفذت الأم تهديدها ، فلم تمدّ يدها إلى السمكة المشوية ، رغم أنها كانت جائعة ، فتململت هوفاك ، ثم نهضت من مكانها ، وجلست قبالة أمها ، وراحت تأكل ولكن بدون حماس ، وسرعان ما توقفت عن تناول الطعام ، فنظرت إليها الأم ، وقالت : لم تأكلي شيئاً يذكر ، يا بنيتي .
ورفعت هوفاك عينيها المتعكرتين إلى أمها ، ونظرت إليها ، وقالت : ماما ..
وقاطعتها أمها ، وقد توقفت عن تناول الطعام ، وقالت : تعالي ، وأكملي طعامك .
فتابعت هوفاك كلامها قائلة بشيء من الغضب : لا أستطيع أن آكل ، وأبي غير موجود ، ولا نعرف عنه أي شيء ، وقد مرّ على غيابه حوالي عشرين يوماً ، يجب أن نبحث عنه ، ونعرف مصيره .
ونهضت الأم منفعلة ، ولملمت الطعام الذي لم يُمس تقريباً ، ثم أوت إلى فراشها ، وتمددت فيه ، وتدثرت بجلد الدب القطبي الأبيض ، الذي جاءها به زوجها لها ، ذات يوم في بداية زواجهما ، وقال لها : هذا الدب الأبيض ، لقد اصطدته لكِ أنتِ .
وعندما حلّ المساء ، تحاملت الأم على نفسها ، ونهضت بصعوبة شديدة ، وسخنت الطعام الذي لم تمساه تقريباً في الغداء ، والتفتت إلى هوفاك ، التي كانت متمددة في فراشها ، وقالت لها : بنيتي ، الطعام جاهز .
ونظرت هوفاك إلى أمها ، لكنها لم تتحرك من فراشها ، فخاطبتها الأم قائلة : هوفاك ، عزيزتي ، أنت لم تأكلي شيئاً عند الغداء ، تعالي ولنأكل الآن معاً .
ونهضت هوفاك بدون حماس ، وجلست إلى السفرة ، فجلست أمها قبالتها ، وهي تكتم توجعها ، وقالت لها بصوت واهن : أنت شابة ، يا بنيتي ، وعليك أن تأكلي كثيراً ، في هذا الجو البارد .
ومدت هوفاك يدها ، وأخذت تأكل ببطء ، بينما راحت أمها تتابعها ، وتقدم لها قطعاً من السمكة ، بعد أن تنظفها من الحسك ، وتحثها على الأكل ، وتعترض هوفاك على أمها ، وتقول لها : أنت لا تأكلين ، يا أمي ، إنك بحاجة إلى الطعام أكثر مني .
فابتسمت الأم ، وقالت وهي تأكل : إنني آكل ، كلي أنتِ ، يا بنيتي ، كلي ، كلي .
وتوقفت هوفاك عن تناول الطعام ، ورفعت عينيها محدقة في أمها ، ثم قالت : ماما ..
فردت الأم قائلة بصوت متوجس : كلي الآن ، يا بنيتي ، وسنتحدث بما تريدينه فيما بعد .
وقالت هوفاك : لكن أبي تأخر كثيراً ، وعلينا ..
وقاطعتها أمها قائلة : لا عليك ، يا بنيتي ، هذه عادة الرجال ، إنهم يتأخرون ، ليس عن عمد ، يتأخرون عند خروجهم لصيد الفقمات .
وتابعت هوفاك قائلة ، دون أن تلتفت إلى كلام أمها ، وقالت : تأخر كثيراً ، يا أمي ، وأخشى أن يكون قد تعرض لخطر .. قاتل ..
وقاطعتها أمها ثانية : هوفاك ..
وهبت هوفاك من مكانها ، وقالت بصوت منفعل : علينا أن نخرج ، ونبحث عنه ، ولا نعود إلا بالوقوف على مصيره .
وبصوت واهن متهدج ، ردت الأم قائلة بصوت باكٍ : أنا مريضة كما ترين ، يا ابنتي ، ولا أستطيع مغادرة الكوخ ، لا أستطيع ..
فردت هوفاك قائلة : أنا أستطيع ..
ونهضت الأم مرعوبة ، وتمتمت : هوفاك ..
واستدارت هوفاك ، وأسرعت إلى فراشها ، دون أن تردّ على أمها ، واندست فيه ، وسحبت الغطاء الثقيل ، حتى غطت رأسها .
ووقفت الأم مترنحة ، والدموع تغرق عينيها ، لا تدري ماذا تفعل ، فهي تعرف ابنتها هوفاك ، وتخشى أن تتهور ، وتقدم على ما لا تحمد عقباه .
وشعرت بالوهن يدب في يديها ورجليها شيئاً فشيئاً ، وخشيت أن تتهاوى ساقطة على الأرض ، وربما تفقد الوعي ، فتحاملت على نفسها ، وتمددت في فراشها ، وتدثرت حتى عنقها بفراء الدب القطبي الثقيل .
لم تنم هوفاك ، رغم عينيها المغمضتين ، وظلت تفكر بما عليها أن تفعله من أجل أبيها ، فهذا الأمر ، على ما يبدو ، مما لا تستطيع أمها مجرد التفكير فيه ، ولا تدري متى تسلل النعاس إلى عينيها ، وهيمن عليهما ، و .. استغرقت في نوم عميق .
أما أمها فرغم وهنها ، ورغم مرضها ، لم يغمض لها جفن ، فزوجها تأخر حقاً ، وهي قلقة فعلاً لتأخره ، لكن ما يقلقها أكثر ، هو ما يمكن أن تقدم عليه ابنتها الصغيرة .. هوفاك ، لكن هوفاك مازالت طفلة ، وما تقوله الفتيات اللاتي في أعمارها ، ينسينه بعد ساعات ، وليس بعد أيام ، لكن .. وآه من لكن ..هوفاك شيء آخر .. نعم شيء آخر .. وهذا ما يخيفها .














" 5 "
ـــــــــــــــــــ
فزت الأم صباحاً ، على صوت عاصفة ثلجية ، تئزّ وتعوي من مكان قريب ، لكنها حين فتحت عينيها ، اختفت العاصفة ، واختفى معها الأزيز والعواء ، آه .. ووضعت يدها على صدرها ، كان قلبها يخفق بشدة ، إنه الكابوس مرة أخرى .
وحانت منها نظرة سريعة ، إلى فراش ابنتها هوفاك ، وعلى الفور انتفض قلبها بشدة ، فهوفاك ليس في فراشها ، هذه هي العاصفة الثلجية ، التي لم يتوقف أزيزها وعويلها حتى .. ، وتحاملت على نفسها ، ونهضت بصعوبة ، وهي تهتف بصوت واهن : هوفاك ..
لكن هوفاك لم تردّ ، لعلها لم تسمعها ، فربما هي في الخارج ، رغم البرد الشديد ، واندفعت الأم إلى الخارج ، وراحت تدور حول الكوخ ، وهي تصيح بصوت واهن مضطرب : هوفاك .. هوفاك .. هوفاك ..
وتراءت لها هوفاك ، تقف في مواجهتها ، وتقول بصوت منفعل : يجب أن نخرج ، ونبحث عنه ..
وتمتمت الأم بصوت واهن ، وكأن هوفاك تقف أمامها : أنا مريضة ، ولا أستطيع ..
وتراءت لها هوفاك تصيح : أنا أستطيع .
وكادت الأم أن تتهاوى على الأرض ، وهي تتمتم بصوت تخنقه الدموع : يا ويلي ، ستهلك هذه المجنونة ، إذا مضت في هذا الجو .
وهبت موجة هواء ، شعرت الأم ببرودتها ، تنخر عظامها ، رغم وجود الشمس ، في كبد السماء ، وعادت إلى الكوخ ، لكنها تركت بابه موارباً .
لم تعد الأم إلى فراشها الدافىء ، رغم شعورها الشديد بالتعب ، بل ولم تستطع أن تجلس على الحشية ، وترتاح قليلاً ، وانتبهت إلى أن أحدهم في خارج الكوخ ، يهتف بصوت أجش : هوفاك ..
وتمتمت الأم في نفسها ،هذا كالمنغر ، نعم إنه هو ، وتحاملت على نفسها ، وخرجت من الكوخ ، نعم ، إنه هو .. كالمنغر ، فقالت : أهلاً ومرحباً ..
وبدا كالمنغر مرتبكاً ، لكنه تمالك نفسه ، وقال لها : عفواً .. جئت إلى هوفاك ..
وتمتمت الأم : هوفاك !
وتابع كالمنغر رغم ارتباكه قائلاً : اتفقنا أن نذهب معاً إلى الغابة ، لنرى الفخاخ ، التي نصبناها معاً قبل يومين ، لعلها اصطادت لنا بعض الطيور .
واندفعت الدموع إلى عينيّ الأم المحتقنتين ، وقالت بصوت مختنق : هوفاك ليست هنا ..
وتابع كالمنغر قائلاً : في الحقيقة ، أردت أن أقول لها ، أن نرجىء الذهاب إلى الغابة هذا اليوم ، فالجو كما ترين ، ينذر بهبوب عاصفة .
وصمت لحظة ، حين رأى الأم تحدق فيه ، وعيناها غارقتان بالدموع ، ثم قال : ماذا ؟ أخشى أن تكون هوفاك قد سبقتني إلى الغابة .
وهزّت الأم رأسها ، وهي تجهش بالبكاء ، فاقترب كالمنغر منها ، وتساءل قائلاً : أنت تقلقينني ، ما الأمر ؟ أين ذهبت هوفاك ؟
فرفعت الأم عينيها الغارقتين بالدموع إليه ، وقالت بصوت باك : قالت لي ، إن أباها قد تأخر ، وقد مرّ على ذهابه للصيد مع رفاقه حوالي العشرين يوماً ، وأخشى أن تكون قد ذهبت للبحث عنه ، وهي صغيرة ، وقلما خرجت من الكوخ من قبل .
وعلى الفور ، ودون أن يلتفت إلى الأم انطلق يسير مبتعداً ، وكلبه الضخم ، يهرول في أثره ، فهتفت الأم به بصوت باك : بني كالمنغر ، أريد هوفاك منك .
فردّ كالمنغر دون أن يتوقف لحظة واحدة : عودي أنت إلى الكوخ ، ولا تخرجي منه أبداً ، سأحاول اللحاق بهوفاك ، ولن أعود إليك إلا وهي معي .
وظلت الأم واقفة في مكانها ، وهي تتابعه من خلال دموعها ، التي أغرقت عينيها المتعبتين ، حتى غاب تماماً ، هو وكلبه الضخم .
وتحاملت الأم على نفسها ، وسارت مترنحة بخطاها الثقيلة ، ودخلت الكوخ ، وأغلقت عليها الباب ، ثمّ دخلت فراشها ، وسحبت عليها غطاءها الثقيل ، جلد الدب القطبي الأبيض ، الذي صاده من أجلها زوجها يوماً ما ، في بداية زواجهما ، وأغمضت عينيها المتعبتين ، لكن ابنتها هوفاك لم تغب عنها ، آه .. هوفاك .
وتوقفت هوفاك حوالي منتصف النهار ، وقد اتسعت عيناها رعباً ، وتسارعت دقات قلبها ، وصوت عواء ممطوط بشع يتناهى إليها ، وهي في هذه الصحراء الجليدية المترامية الأطراف : عووووو ..
وتلفتت حولها ، أهي العاصفة الثلجية ، أم أنه ذئب لم يأكل منذ أيام ؟ يا للويل ، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها ، فهي هوفاك ، وشدت يدها على الرمح ذي الشعاب الثلاث ، إنها ستقاوم بهذا الرمح ، إنه رمح أبيها الصياد القوي الشجاع ، وهي هوفاك .. ابنته ، ستقاوم حتى العاصفة الثلجية .. الذئب الثلجي .. حتى النهاية .
ومن خلال عواء العاصفة الثلجية المستمر ، ارتفع عواء آخر من مكان قريب ، فالتفتت هوفاك نحو مصدر الصوت ، هذا العواء ليس عواء عاصفة ثلجية ، وإنما عواء ذئب جائع ، ووثب قلبها في صدرها خائفاً ، وكأنما يريد أن يبحث عن ملاذ يهرب إليه ، وينقذه من هذه المحنة الرهيبة .
وحاولت أن تشدّ بقوة أكثر على الرمح ذي الشعب الثلاث ، لكن الرمح نفسه ، رغم أنه كان رمح أبيها القوي الشجاع ، راح يرتجف في يدها ، أهو خائف أيضا هذا الرمح ؟
لم يبقَ إذن إلا الهرب ، فقد رأت الذئب ، ينطلق نحوها ، كما لو كان عاصفة ثلجية ، مسلحة بأنياب ومخالب كالخناجر ، وهمت أن تلوذ بالفرار ، لكن قدميها لم تستجيبا لها ، فرفعت رأسها ، وصاحت بأعلى صوتها : النجدة .. النجدة ..
وجاءتها النجدة على الفور ، فقد رأت بعينيها المذعورتين ، المستسلمتين ، كلباً ضخماً يعترض الذئب الجليدي ، وينشب فيه مخالبه وأنيابه ، ويشتبك معه في معركة ضارية طاحنة لا ترحم .
وفوجئت هوفاك ، والمعركة حامية بين الذئب والكلب الضخم ، بكالمنغر يقبل عليها من قلب العاصفة الثلجية ، ويلتقط الرمح ذا الشعب الثلاث ، الذي سقط منها على الثلج ، ويقف إلى جانبها ، وهو يقول : لا تخافي ، يا هوفاك ، كلبي سيتكفل بهذا الذئب .
وتوقف الكلب الضخم ، حين تراجع الذئب ، وجراحه تنزف دماً ، ثم استدار ، وولى هارباً ، وتقدم كالمنغر من كلبه الضخم ، الذي ظلّ واقفاً بشموخ ، رغم جراحه ، التي كانت تنزف دماً ، وربت على رأسه ، وقال وكأنه يخاطب فارساً منتصراً : أشكرك أيها المنقذ .
ثم التفت إلى هوفاك ، وبدا له أنها تترنح ، وتكاد تتهاوى على الأرض ، فأسرع إليها ، وأسندها بين ذراعيه ، وقال لها : هوفاك ، لقد انتهى كلّ شيء ، وذلك الذئب الذي هاجمك لن ينجو ، ستقتله جراحه عاجلاً أو آجلاً .
ومالت هوفاك برأسها على صدره ، وقالت بصوت واهن : كالمنغر ..
فقال كالمنغر : نعم ..
تابعت هوفاك قائلة : خذني إلى البيت .
ومدّ كالمنغر يده ، وأمسك بيدها ، وقال لها : أمك تنتظرك الآن ، هيا يا هوفاك .
فمال رأسها على صدره ثانية ، وهي تكاد تتهاوى على الأرض الجليدية ، وقالت بصوت ضعيف لا يكاد يُسمع : لا أستطيع أن أمشي ، يا كالمنغر .
وفي العاصفة الثلجية ، وسط هذه الصحراء الجليدية ، سار الكلب الضخم ، وهو يكتم أوجاعه ، وأمامه سار كالمنغر بخطوات بطيئة ، ثقيلة ، وهوفاك تكاد تغفو على ظهره الشاب القوي .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، حوالي منتصف النهار ، سمعت الأم ، وهي تغذي النار في الموقد ، بقطع من الخشب ، أنيناً متوجعاً ، إنها هوفاك .
وتركت الأم قطع الخشب والنار، وأسرعت إلى هوفاك ، ومدت يدها ، وراحت تمسد شعرها ، وهي تقول بصوت دامع : بنيتي .. هوفاك .
وفتحت هوفاك عينيها المتضببتين ، وتطلعت حولها مذهولة ، ثم حدقت في أمها ملياً ، ثمّ تساءلت : يا للعجب ماذا أرى ؟ أين أنا ؟
ومالت عليها أمها ، وقالت لها ، وهي تغالب دموعها : أنتِ هنا ، يا عزيزتي ، في فراشك .
وتململت هوفاك ، وراحت تدور بعينيها في فضاء الكوخ ، وهي تتمتم وكأنه محمومة : ثلوج .. ثلوج في كلّ مكان .. عاصفة تعوي هوووو ..
وهبت معتدلة في فراشها ، وهي تصيح مرعوبة : الذئب .. الذئب .. ماما ..
واحتضنتها أمها ، وضمتها بقوة إلى صدرها ، وهي تقول : أنا هنا ، يا بنيتي ، إلى جانبك ، لا تخافي ، ليس هناك ذئب ، ليس هناك ذئب .
وهدأت هوفاك بين ذراعي أمها شيئاً فشيئاً ، ثم تراجعت قليلاً ، وراحت تحدق فيها ، وقالت لها بصوت متحشرج : ماما .. !
وردت أمها من خلال دموعها : نعم حبيبتي ، أنا ماما ، أنا ماما يا هوفاك ..
وتساءلت هوفاك : من أتى بي إلى هنا .
فردت الأم قائلة : كالمنغر .
وتساءلت هوفاك : كالمنغر ؟
وحاولت الأم أن تبتسم من خلال دموعها ، وهي تردّ قائلة : نعم ، لقد لحق بك ، رغم أن الجو كان ينذر بالعاصفة ، وجاء بك يحملك على ظهره .
وتراخت هوفاك ، وتمددت في فراشها ، وأغمضت عينها ، واستغرقت في الصمت ، من يدري ، ربما كانت تسترجع في أعماقها ما جرى لها ، في تلك الصحراء الثلجية الموحشة ، والعاصفة الثلجية ، والعواء عوووو ، ثم برز لها كالمنغر ، وانتشلها من بين أنياب ومخالب الذئب الجليدي القاتل .
ومالت الأم على ابنتها ، وهمست لها : هوفاك ..
وفتحت هوفاك عينيها ، وكأنها أحست أن وراء " هوفاك " هذه ، خبر غاية في الأهمية ، وتطلعت إلى أمها تسائلها بعينيها ، اللتين بدأتا تفيقان ، فتابعت الأم قائلة : لديّ خبر يُفرحك ..
وشهقت هوفاك : بابا !
فهزّت الأم رأسها ، وقالت بصوت تغرقه دموع الفرح : نعم ، بابا ، جاءنا خبر مؤكد ، سيصل غداً هو ورفاقه ، والزحافة مثقلة بالفقمات .
واعتدلت هوفاك في فراشها ، ومدت يديها ، وبدا وكأنها استعادت عافيتها ، واحتضنت أمها بقوة ، وقالت بصوت معافى : لا أريد أية فقمة ، بل لا أريد أي شيء ، المهم أن يعود بابا إلينا ، آه بابا .
وارتفع من الخارج عواء قويّ تعرفه هوفاك ، وتحبه أيضاً ، هذا كلب كالمنغر ، ورفعت رأسها فرحة ، وهتفت : كالمنغر ..
وطُرق الباب ، ونهضت الأم ، متجهة نحو الباب ، وهي تقول : هذه أم كالمنغر .
وفتحت الباب بسرعة ، وإذا أم كامنغر ، وفي يدها طائر تلمجان ، وإلى جانبها يقف كالمنغر نفسه ، فقالت الأم مرحبة : أهلاً ، أهلاً ومرحباً بكما ، تفضلا .
ودخلت أم كالمنغر ، ووراءها دخل كالمنغر ، ودفعت أم كالمنغر طائر التلمجان إلى الأم ، وقالت لها مازحة : هذا ليس لك ، وإنما لهوفاك .
وابتسمت هوفاك ، وقالت ، أشكرك .
واقترب كالمنغر منها ، وابتسم قائلاً : وأنا ، أليس لي حصة من هذا الشكر ؟
وابتسمت هوفاك فرحة ، وضحكت الأم ، وقالت : الشكر كله لك ، لولاك ..
وقاطعت هوفاك أمها قائلة : ماما ..
وقالت الأم مبتسمة : عادت إلى هنا بفضلك .
وقالت أم كالمنغر مازحة : مسكين ابني كالمنغر ، لم ينم ليلة البارحة ، ولم تترك يده ظهره ، لا أدري لماذا ، مهما يكن فهو لم يشكُ لي ، فأنا أعرف السبب ، وإن كنت لا ألومه ، إنها هوفاك .
ونظرت هوفاك إلى كالمنغر ، وقالت : كالمنغر ..
فردّ كالمنغر قائلاً : أمي تمزح ، صدقيني .
ونظرت الأم إلى هوفاك ، وقالت : أتعرفين أن كالمنغر ، ذهب فجر اليوم إلى الفخاخ ..
وتطلعت هوفاك إلى كالمنغر : لا تقل إن الفخاخ لم تصد شيئاً ، يا كالمنغر .
فقال كالمنغر : بل اصطادت الكثير .
فقالت هوفاك مبهورة : حقاً ، ماذا اصطادت ؟
وردّ كالمنغر قائلاً : ثلاثة طيور و ..
وانتظرت هوفاك ، لكن كالمنغر صمت ، فتساءلت هوفاك : و .. ؟ و .. ماذا ؟
فتابع كالمنغر قائلاً : أرنبة بالغة جميلة ..
وصاحت هوفاك متوجسة : أرنبة !
وهزّ كالمنغر رأسه ، وقال : نعم ، أرنبة .
ولاذت هوفاك بالصمت ، وقد تملكها الحزن ، فنظر كالمنغر إليها ، وقال : أخذت الطيور الثلاثة ، لم آخذها كلها لي ، وإنما أعطيتك واحداً منها ، واحتفظت بطائرين لي ، أعطيتك الطير السمين طبعاً .
فقالت هوفاك : دعني من الطيور ، إنني كما تعرف ، لا أهتم بها مطلقاً ، حدثني عن الأرنبة ..
وتساءل كالمنغر ممازحاً : الأرنبة ؟
فقالت هوفاك : نعم الأرنبة ، حدثني عنها .
وصمت كالمنغر لحظة ، وأمه وأم هوفاك تنظران إليه باسمتين ، ثم قال : الأرنبة ، أنت تعرفين إنك لا تحبين تناول الأرنبة ، وقلتُ أنها ربما تكون أماً ، ولها خمسة أو أكثر من الصغار ..
وصمت مرة أخرى ، فقالت هوفاك بنفاد صبر : وبعد ، تكلم .. يا كالمنغر ..
فتابع كالمنغر قائلاً : أطلقت سراحها طبعاً ، فأنا مثلك لا أحب أن يتأذى الصغار .
وتنفست هوفاك الصعداء ، وهي تهز رأسها ، وسط ضحك أمها وأم كالمنغر ، وابتسم كالمنغر لها ، فقالت له : آه منك كالمنغر .
ثمّ ابتسمت ، وقالت : أشكرك ، ياكالمنغر .
وجلست أم كالمنغر ، على مقربة من هوفاك ، ونظرت إلى الأم ، وقالت : سمعت بأن أبا هوفاك قادم ، إن مثل هذه الأخبار السارة تنتشر بسرعة .
وهزت الأم رأسها مبتسمة ، وقالت : نعم ، سيأتي غداً هو ورفاقه الثلاثة ، وزحافتهم مليئة ، على ما يقال ، بلحوم الفقمات .
والتفتت أم كالمنغر إلى هوفاك ، وابتسمت لها ، وقالت : أنا أحب لحم الفقمة ، وكذلك كالمنغر .
وابتسمت الأم ، وقالت : ستشبعين من لحم الفقمة ، أنت وبطلنا العزيز كالمنغر .
وهتفت هوفاك بمرح : وأنا من سيأتيك بلحم الفقمة ، حتى تقولي كفى .
وضحك الجميع ، حين قالت أم كالمنغر : لن أقول كفى ، مادمت ستأتين عندنا .
وقبل أن تنتهي الزيارة ، نظر كالمنغر إلى هوفاك ، وخاطبها قائلاً : هوفاك ..
ورمقته هوفاك بنظرة خاطفة ، وقد احمرت وجنتاها ، وقالت : نعم .
فتساءل كالمنغر : غداً ، إذا ذهبت للصيد في الغابة ، هل تأتين معي ؟
ونظرت هوفاك لى أمها ، ثمّ ردت قائلة : نعم .
91 / 6 / 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با