الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كورنليوس كاستورياديس- عن البرنامج الاشتراكيّ

وليم العوطة
(William Outa)

2022 / 11 / 12
الارشيف الماركسي


عن البرنامج الإشتراكيّ
كورنليوس كاستورياديس
‏(مقالة نُشرت في مجلة اشتراكية أو بربرية في يوليو 1952)‏
المصدر: ‏https://www.marxists.org/francais/general/castoriadis/works/1952/chaulieu_19520700.htm
ترجمة : وليم العوطة

من أجل تكوين الطليعة الثورية وتجديد الحركة العمالية ككلّ، من الضروري إعادة صياغة البرنامج ‏الاشتراكي، وصياغته على نحوٍ أكثر دقّة وتفصيلاً ممّا كان عليه في الماضي. نعني بالبرنامج الاشتراكي ‏تدابير تغيير المجتمع التي سيتعيّن على البروليتاريا المنتصرة القيام بها من أجل تحقيق هدفها الشيوعي. ‏لم يجرِ هنا تناول المشاكل المتعلقة بالنضال العمّالي في إطار مجتمع الاستغلال.‏
نقول: أعيدوا صياغة برنامج سلطة البروليتاريا، وبدقّةٍ أكبر بكثير ممّا كان عليه في الماضي. قوموا ‏بالصياغة مرةً أخرى، فصياغته التقليدية قد تجاوزها، إلى حدِّ بعيدٍ، التطوّرُ التاريخي. وعلى وجه ‏الخصوص، لا يمكن اليوم تمييز هذه الصيغة التقليدية عن تشويهها الستاليني. صيغوا بمزيد من الدقّة، ‏فالغموض الستاليني برع في استخدام الطابع العام والمجرّد للأفكار البرنامجية للماركسية التقليدية من أجل ‏إخفاء الاستغلال البيروقراطي تحت القناع "الاشتراكي".‏
لقد أظهرنا في عدّة مناسباتٍ كيف تمكّنت الثورة الستالينية المضادة من الاستفادة من البرنامج التقليدي ‏كمنصة ‏plate-forme‏. لقد ثبُت أنّ الركنين الأساسيين في ذلك، أي تأميم الاقتصاد وتخطيطه من ‏ناحية، وديكتاتورية الحزب كتعبير ملموس عن دكتاتورية البروليتاريا، من ناحية أخرى، قد شكّلا، في ‏ظروفٍ معيّنة من التطوّر التاريخي، الأسسَ البرنامجية للرأسمالية البيروقراطية. وما لم يرفض المرء هذا ‏الاكتشاف التجريبيّ، أو ينكر الحاجة إلى برنامج اشتراكي للبروليتاريا، سيكون من المستحيل التمسّك ‏بالمواقف البرنامجية التقليدية. ومن دون إعدادٍ برنامجيّ جديد، لن تتمكّن الطليعة أبدًا من تعيين حدودها ‏بالمقارنة مع الستالينية على تربةٍ أكثر واقعيةً وأعمق. وهذا ما أثبتته، على نحوٍ جليّ، التجربة الأليمة ‏للتروتسكية.‏
ولكن، من البداهة أيضًا أنّ استخدام الستالينية للأفكار البرنامجية التقليدية للماركسية، وبعيدًا عن الإشارة ‏إلى أنّه في الإنفاذ الستاليني كُشِف عن الجوهر الحقيقي للماركسية، على ما لم يقل أحدٌ ذلك في شجنٍ أو ‏في سرورٍ، إذًا من الجليّ أنّ هذا الاستخدام قد عبّر عن حقيقة أنّ هذه الأشكال المجردة، أي التأميم ‏والديكتاتورية، ارتدَت محتوى ملموسًا يختلف عن المحتوى المحتمل الذي كان لديها في الأصل. فبالنسبة ‏لماركس، عنى التأميم قمع الاستغلال البرجوازي. مع ذلك، لم يُفقد هذا المعنى على أيدي الستالينيين، لكنّه ‏اكتسب أيضًا معنى آخرًا: تأسيس الاستغلال البيروقراطي. هل معنى ذلك أنّ علّة نجاح الستالينية كانت ‏في الطابع الملتبس أو المجرد للبرنامج التقليدي؟ سيكون من السطحيّ النظر في السؤال بهذه الطريقة. لا ‏يعبّر هذا الطابع المجرّد والملتبس إلاّ عن إخفاقٍ في نضوجِ الحركة العمالية، حتى بين أكثر ممثليها وعيًا، ‏ومن طريق انعدام النضوج هذا، بالمعنى الواسع، تتقدّم البيروقراطية. وبالعكس، ستتيح التجربة ‏البيروقراطية، أي "إنفاذ" البيروقراطية للأفكار التقليدية، للحركة العمالية بلوغ هذا النضوج، ومنحَ تحقّقٍ ‏جديد لأهدافها البرنامجية.‏
إنّ صياغة البرنامج الاشتراكي بدقةٍ أكبر ممّا جرى القيام به حتى الآن في إطار الماركسية لا تعني العودة ‏إلى الاشتراكية الطوباوية. نجمَ كفاح الماركسية ضدّ الاشتراكية الطوباوية عن عاملين: من جهة، لم تكن ‏السمة الأساسية للـ "طوبى" وصفَ المجتمع المستقبلي، بل محاولة تأسيسِ هذا المجتمع بأدقّ تفاصيله، ‏وفقَ نموذجٍ منطقي، من دون دراسة القوى الاجتماعية العينية التي تميل إلى تنظيمٍ أعلى للمجتمع. كان ‏هذا مستحيلًا فعليًا قبل تحليل المجتمع الحديث الذي بدأه ماركس. سمحت استنتاجاتُ هذا التحليل ‏لماركس بوضع أسسٍ البرنامج الاشتراكي. ويسمح استمرار هذا التحليل اليوم، مع عتادٍ أغنى بكثيرٍ ممّا ‏راكمه قرن من التطور التاريخي، بالتقدم أكثر فأكثر في ميدان البرنامج.‏
من جهةٍ أخرى، كانت الاشتراكية الطوباوية معنيةً فقط بالخطط المثالية لإعادة تنظيم المجتمع، في حين ‏كانت فيه هذه الخطط، سواء أكانت جيدة أم سيّئة، ذات أهمية ضئيلةٍ للغاية بالنسبة للتطور الحقيقيّ ‏للحركة العمّالية الملموسة، و في كلّ حالٍ، غافلة تمامًا عن هذه الأخيرة. في مواجهة هذا الموقف وبقاياه، ‏كان ماركس محقًا في قوله بأنّ خطوةً عمليةً واحدة كانت أفضل من مائة برنامج. لكنّ اليوم، فإنّ معظم ‏النضال الثوريّ الملموس هو في الواقع النضال ضد الالتباس الستاليني أو الإصلاحي الذي يقدّم أشكالًا ‏أكثر أو أقل جدَّة من الاستغلال بوصفها "اشتراكية". لا يكون هذا الكفاح ممكنًا إلاّ بإعدادٍ جديد للبرنامج.‏
لقد رُدَّت أيضًا التقيّداتُ الطوعية التي فرضتها الماركسية على نفسها في إعداد البرنامج الاشتراكي إلى ‏الفكرة، التي كانت سارية ضمنيًا آنذاك، والتي بموجبها يكون من شأن التدمير الثوريّ للطبقة الرأسمالية ‏ودولتها إطلاق العنان العنان لبناء الاشتراكية. . يثبت كلٌّ من التحليل النظريّ والتجربة التاريخية أنّ هذه ‏الفكرة كانت، على أقلّ تقديرٍ، غامضة. وإذا كان صحيحًا، كما قال تروتسكي، إنّ "الاشتراكية، على عكس ‏الرأسمالية، تُشيَّد على نحوٍ واعٍ" ومن ثمّ فإنّ النشاط الواعي للجماهير هو الشرط الأساسي للتطوّر ‏الاشتراكي، فيجب علينا استخلاص جميع الاستنتاجات، وقبل كلّ شيء، من هذه الفكرة القائلة بأنّ هذا ‏التشييد الواعي يفترض سلفًا توجيهًا برنامجيًا دقيقًا.‏
بالإضافة إلى ذلك، ما زالت صالحة تلك الروح التي تخلّلت "التجريبية" المنسوبة إلى ماركس في هذا ‏المجال، بمعنى أنّها، أي الروح، تشكّل تحذيرًا شديدًا ضدَّ أيّ جفافٍ عقائدي من شأنه أن يميل إلى ‏إخضاع التحليل الحيّ للعملية التاريخية إلى تخطيطاتٍ قبلية، وضدّ كلّ محاولة لاستبدال صياغةِ طائفةٍ ‏ما بالعمل الإبداعيّ للجماهير نفسها. لا توجد صياغة برنامجية صحيحة لا تأخذ بالاعتبار التطوّر ‏الحقيقيّ، وقبل كلّ شيء تطوّر وعيَ البروليتاريا. ليس برنامج الثورة الذي صاغه تنظيم الطليعة سوى ‏تعبيرٍ متوقّعٍ عن المهام الناشئة عن الوضع الموضوعيّ ووعيِ الطبقة خلال الفترة الثورية، وبالمقابل فإنّ ‏نشر هذا البرنامج والترويج له هو شرطٌ للتطوّر المستقبلي لهذا الوعيِ الطبقي.‏
الشيوعية والمجتمع الانتقاليّ
إذا أطلقنا على برنامج الثورة إسم "البرنامج الاشتراكي"، فهذا فقط للإشارة إلى أنّه لا يتعلّق بالمجتمع ‏الشيوعيّ نفسه، بل بالمرحلة الانتقالية التاريخية التي تقودنا إلى هذا المجتمع. خلاف ذلك، لا يوجد ‏‏"مجتمع اشتراكي" بوصفه نوعًا محددًا ومستقرًا من المجتمع، ويجب التشدّد بمحاربة الارتباك السّائد عن ‏هذه الفكرة منذ خمسين عامًا.‏
وضع ماركس تمييزًا وحيدًا بين مرحلتين في المجتمع ما-بعد الثوريّ، أي ما أسماه بالمرحلة الدنيا والمرحلة ‏العليا من الشيوعية. لهذا التمييز أساسٌ إقتصاديٌّ وإجتماعيٌّ لا جدال فيه: تظلّ "المرحلة الدنيا من ‏الشيوعية"(التي نسميها المجتمع الانتقالي) متوافقة مع إقتصاد الندرة، حيث لم يبلغ المجتمع بعدُ الوفرةَ ‏المادية والتنمية الكاملة للقدرات البشرية؛ ينعكس هذا القيد الاقتصاديّ والبشريّ في الآن عينه للمجتمع ‏الانتقاليّ على المستوى السياسيّ عبر الحفاظ- بمضمونٍ وشكلٍ جديدين تمامًا مقارنةً بالتاريخ السابق- ‏على السلطة "الدولتية"، أي عبر ديكتاتورية البروليتاريا. إذا كان المجتمع الانتقالي، ضمن هاتين ‏العلاقتين، ما زال يحمل "وصمات المجتمع الرأسمالي الذي ينطلق منه"، لكنّه يختلف جذريًا عنه في أنّه ‏يلغي الاستغلال على الفور. لقد جعلتنا مغالطات تروتسكي بخصوص مسألة "الاشتراكية" و"الدولة ‏العمالية" ننسى هذه الحقيقة الجوهرية: إذا كانت الندرة الاقتصادية تبرّر الإكراهَ والتوزيعَ حسب العمل وليس ‏حسب الحاجة، لكنّها، بالمقابل، لا تبرّر، بأيّ حال من الأحوال، استمرار الاستغلال؛ وإلّا سيكون الانتقال ‏من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي مستحيلًا إلى الأبد. سيبدأ بناء الشيوعية دائمًا من حالة ‏الندرة: إذا جعلت هذه الندرة الاستغلالَ ضروريًا ومبررًا، فستكون المحصّلة نظامًا طبقيًا جديدًا وليس بالمرّة ‏الشيوعية.‏
يُعرَّف المجتمع الشيوعي("المرحلة العليا من الشيوعية") بالوفرة الاقتصادية("لكلّ حسب حاجاته")، والاختفاء ‏الكامل للدولة("سيادة الأشياء تحل محلّها سيادة البشر") والتفتّح الكامل للإنسان("الإنسان الإنسانيّ، ‏الانسان الكلّي"). المجتمع الانتقاليّ، من ناحية أخرى، هو شكل تاريخيّ عابر يُحدَّد بهدفه، ألا وهو بناء ‏الشيوعية. مع انحسار الندرة ونموّ القدرات البشرية، تتلاشى ضرورة الإكراه الّذي تنظمّه الدولة، وسيطرةُ ‏الاقتصاد على البشر. وإذا كان المجتمع الشيوعي(المجتمع الانسانيّ الحقيقيّ)، وفقًا لتعبير ماركس، هو ‏مملكة الحريّة، فإنّ مملكة الحريّة هذه لا تعني إلغاء مملكة الضرورة التي هي الاقتصاد، بل اختزالها ‏التدريجيّ وإخضاعها التام لحاجات النموّ البشريّ، حيث وفرة السلع وتقليل يوم العمل هما الشرطان ‏الأساسيان.‏
يُحدَّد توجّه المجتمع الانتقالي بهدفِه – أي بناء الشيوعية - وبالشروط التي يجب أن يتحقّق فيها- أي ‏الوضع الراهن للمجتمع الدوليّ.‏
يفترض بناء الشيوعية إزالة الاستغلال، والنمو السّريع لقوى الإنتاج، وفي التحليل الأخير، نموَّ المقدرات ‏الكلّية للإنسان. هذا النمو للإنسان هو، في الآن عينه، التعبير الأكثر عموميةٍ عن هدف هذا المجتمع، ‏والوسيلة الحاسمة لتحقيق هذا الهدف. ويعبّر هذا النمو عن ذاته في أكثر الأشكال عينيةً عبر تحرير ‏النشاط الواعي للبروليتاريا. يحدِّدُ هذا الأخير كلاً من إزالة الاستغلال("سيكون تحرّر العمال من عمل ‏العمال أنفسهم")، وتطوّر القوى المنتجة("لكلّ القوى المنتجة في المجتمع، وأهمّها الطبقة الثورية.نفسها")، ‏والطابع الجديد جذريًا لديكتاتورية البروليتاريا بوصفها سلطة دولة("سلطة الجماهير المسلحة").‏
إنّ النزعة العميقة للرأسمالية العالمية تقودها، عبر التركيز الكلّي للقوى المنتجة، إلى قمع الملكية الخاصّة ‏بما هي وظيفة اقتصادية أساسية للاستغلال، وجعل إدارة الإنتاج الوظيفة التي تميّز أفراد المجتمع إلى ‏مستغِلين ومستغَلين. وتحت تأثير التطوّر نفسه، تميل أجهزة إدارة الاقتصاد وبيروقراطية الدولة والمثقفّين ‏إلى الاندماج عضويًا، ويصبح الاستغلال مستحيلًا دون ارتباط مباشرٍ بالإكراه المادي والغموض ‏الإيديولوجي.‏
وبالنتيجة، لا تتحقّق إزالة الاستغلال إلّا إذا - وفقط إذا - اقترنت إزالة الطبقة المستغِلّة بإزالة الشروط ‏الحديثة لوجود طبقةٍ مثلها. هذه الشروط هي، أقلّ فأقلّ، "الملكية الخاصة"، و"السوق" ... إلخ (وهي التي ‏قمعها تطوّر الرأسمالية نفسها) وهي، أكثر فأكثر، احتكار إدارة الاقتصاد والحياة الاجتماعية. وهي إدارةٌ ‏تظلُّ وظيفةً مستقلّة تتعارض مع الإنتاج المناسب. لا يمكن إلغاء الأساس الحقيقي للاستغلال الحديث إلّا ‏بقدر ما ينظّم المنتجون أنفسُهم إدارةَ الإنتاج. وبعد أن أصبحت الإدارة الاقتصادية غير منفصلةٍ عن ‏السّلطة السياسية، فإنّ الإدارة العمالية تعني على نحوٍ ملموسٍ دكتاتورية التنظيمات البروليتارية ‏الجماهيرية، واستيلاء البروليتاريا على الثقافة.‏
إنّ إلغاءَ التعارض بين القادة[المدراء] والمنفذّين في الاقتصاد، والمحافظة عليه في السياسة(عن طريق ‏ديكتاتورية الحزب) هو تضليلٌ رجعيٌّ من شأنه أن يؤدّي، وبسرعة، إلى صراعٍ جديدٍ بين المنتجين ‏والبيروقراطيين السياسيين. بالتناظر، فإنّ إدارةَ المنتجين للاقتصاد هي، في الوقت الحاليّ، الشرط الضروريّ ‏والكافي للتحقيق السريع للمجتمع الشيوعي.‏
بهذا المعنى الكامل فقط يعبّر مصطلح "دكتاتورية البروليتاريا"، بالفعل، عن جوهر المجتمع الانتقالي.‏

إقتصاد الفترة الانتقالية
في الفترة الانتقالية تطرح مشكلة الاقتصاد نفسها في جانبين رئيسيين: إزالة الاستغلال، من ناحية، والتطوّر ‏السريع لقوى الإنتاج، من ناحية أخرى‎.‎
يظهر الاستغلال في المقام الأول كاستغلالٍ في الإنتاج نفسه، بما هو اغترابُ المنتِج في العملية ‏الإنتاجية. إنّه تحوّل الإنسان إلى مجرد لولبٍ في آلةٍ، إلى قطعةٍ غير شخصيةِ في الجهاز الإنتاجي، وهو ‏اختزال المنتِج بأدائه نشاطاً لم يعد بإمكانه أن يفهم دلالته ولا اندماجه في العملية الاقتصادية برمّتها. تعني ‏إزالة هذا الجذر الأهمّ والأعمق للاستغلال الارتقاءَ بالمنتجين إلى إدارة الإنتاج، وتكليفهم كليًا تحديدَ إيقاع ‏العمل ومدّته، وتعيين علاقاتهم بالآلات ومع العمال الآخرين، وتحديد أهداف الإنتاج ووسائل تحقيقها. من ‏البداهة أنّ هذه الإدارة ستطرح مشاكلَ معقدةً للغاية في ما خصّ التنسيق بين مختلف قطاعات الإنتاج ‏والمشاريع، لكنّ هذه المشاكل ليست، بأيّ حال من الأحوال، غير قابلة للحلّ‎.‎
كذلك، يعبّر الاستغلال عن نفسه، وبطريقة اشتقاقية، في توزيع المنتَج الاجتماعي، أي في اللامساواة في ‏العلاقات بين الدخل والعمل المبذول. لن يُقضى على اللامساواة على نحوٍ شاملٍ في المجتمع الانتقاليّ، إذ ‏لا يمكن إزالة هذا التفاوت إلّا في المجتمع الشيوعي. ولن يكون هذا الأمر على شكل دخلٍ متساوٍ حسابيًا ‏للجميع، ولكن بالإشباع الكامل لحاجاتهم. لكنّ المجتمع الانتقالي سيزيل تخصيص الدخول بلا عمل ‏منتِج، أو التي لا تتلاءم مع كمية ونوعية العمل المنتَج الممنوح فعليًا للمجتمع . وعليه، سيقضي ‏المجتمع الانتقاليّ على اللامساواة في العلاقة بين دخل العمل وكميته‎.‎
دون الرغبة في تقديم "حلٍّ" أو حتى تحليلٍ لمشكلة أجور العمل المنتج في الاقتصاد الانتقالي، يمكننا رغم ‏ذلك أن نلاحظ أنّ هذا المجتمع سيميل، ومنذ البداية، نحو تحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من المساواة. ففي حين ‏أنّ العيوب الناتجة عن اللامساواة في الأجر عن العمل كبيرة وواضحة(تشويه الطلب الاجتماعي، وإشباع ‏البعض لحاجاتهم الثانوية فيما لا يستطيع البعض الآخر تلبية حاجاتهم الأولية، والآثار النفسية والسياسية ‏الناتجة عن ذلك)، فإنّ المزايا كلّها مشكوك فيها وثانوية‎.‎
وهكذا ، فإن تبرير ارتفاع أجر العمالة الماهرة بـ"تكاليف إنتاج" هذا العمل(تكاليف التدريب والسنوات غير ‏المنتجة)، يسقط على نحوٍ أسرع منذ اللّحظة التي يتحمّل فيها المجتمع هذه التكاليف. يمكننا على الأكثر، ‏في هذه الحالة، القبول بأنّ "سعر" هذا العمل أكبر(يقابل "قيمته" أو "تكلفة إنتاجه")، ولكن لا يمكننا أن ‏نقبل بأنّ الدخل الشخصيّ لهذا العامل يعكس هذا الاختلاف. إنّ الفكرة القائلة بأنّ الأجور المرتفعة ‏ضروريةٌ لجذب الناس إلى مهنٍ أكثر مهارة هي، ببساطة، فكرة سخيفة: تكمن جاذبية هذه الأنشطة في ‏طبيعة النشاط نفسه، وعوضًا عن ذلك، ستكمن المشكلة الرئيسية، وبمجرد إزالة الاضطهاد الاجتماعي، في ‏ملء الأنشطة "الرديئة". وتوجد مشكلتان أخريتان أقلّ بساطة: من أجل الحصول على أقصى جهدٍ إنتاجيّ ‏من الأفراد في فترة الندرة، سيكون من الممكن للمجتمع أن يربط أجر العمل بكمية العمل المقدَّم(مُقاسة ‏بوقت العمل)، و ربما حتّى بشدّته(مُقاسة بعدد الأشياء أو الأفعال المنتجة). لكن، تتضاءل أهمية هذه ‏المشكلة طالما أنّ التصنيع والإنتاج الكبير يزيلان كلّ استقلالٍ تقنيّ للعمل الفرديّ بدمجه في النشاط ‏الإنتاجيّ لمجموعٍةٍ لها إيقاعٌ خاصّ بها لا يمكن لإيقاع الفرد أن يتجاوزها بصورةٍ مجدية(سلسلة الإنتاج وما ‏إلى ذلك المضادة للعمل بالقطعة). في هذا الإطار، ما هو أساسيّ أنّ المجموعة الملموسة من المنتجين ‏هي ما يعيّن إيقاعها الكليّ الأمثل، وليس أنّ كلّ فردٍ يزيد من جهده الإنتاجي بطريقة غير متماسكة. ‏لذلك، يمكن أن تُطرَح المشكلة على مستوى مجموعة العمّال الذين يشكلّون وحدة تقنية إنتاجية. تتمثّل ‏مشكلة أخرى في أنّه قد يكون من الضروري الحصول على انتقالاتٍ جغرافية أو مهنية قصيرة الأجل لليد ‏العاملة. إذا لم يكن الإقناع كافياً لتحريضهم على ذلك، فقد يصبح من الضروري تحقيق ذلك بالتمييز بين ‏معدلات الأجور. لكنّ أهمية هذه الاختلافات ستكون ضئيلة، على نحو ما يبرهنه المجتمعُ الرأسماليّ ‏بإسهاب‎.‎
مشكلة التطوّر السريع للثروات الاجتماعية تطرح نفسها من ناحية كمشكلة التنظيم العقلاني لقوى الإنتاج ‏القائمة، ومن ناحية أخرى كمشكلة زيادة هذه القوى المنتجة. إنّ التنظيم العقلاني لقوى الإنتاج يقدّم بذاته ‏عددًا لامتناهيًا من الجوانب، ولكنّ أهمّها هو الإدارة العمالية. فلأنّ المنتجين وحدهم، ككلّ عضويّ، لديهم ‏وجهة نظرٍ ووعي كاملٌ لمشكلة الإنتاج، بما في ذلك أهمّ جوانبها وهو التنفيذ الملموس للأعمال الإنتاجية، ‏فإنّهم وحدهم القادرون على تنظيم العملية الإنتاجية على نحوٍ عقلاني. على العكس من ذلك، فإنّ إدارة ‏الطبقات المستغِلة دائمًا ما تكون غير عقلانية في جوهرها، لأنّها دائمًا ما تكون خارج النشاط الإنتاجي ‏نفسه، ولديها فقط معرفة مبتورة ومجزّأة بالظروف الملموسة التي يحدث فيها هذا النشاط، وبتبعاتِ الأهداف ‏المختارة‎.‎
إلى الآن، عرضنا، بالمقام الأوّل، مشكلة زيادة قوى الإنتاج من زاوية ما يسمى بالتعارض غير القابل ‏للاختزال والذي قد يوجد بين التراكم(زيادة رأس المال الثابت) وإنتاج وسائل الاستهلاك، وإذًا تحسين مستوى ‏المعيشة. هذا التعارض الذي أصرّ عليه المخادعون العاملون لصالح البيروقراطية هو تعارضٌ زائفٌ يخفي ‏النواحي الحقيقية للمشكلة. يُحَلّ التعارض بين ضرورات التراكم وضرورات الاستهلاك في التوليف ‏synthèse‏ الذي قدّمته مقولة إنتاجية العمل البشري. إنّ تطور قوى الإنتاج، وبالتحديد الحصيلة الإنتاجية ‏لهذا التطور، يُختزَل في التحليل الأخير إلى تطوّر القوّة الإنتاجية للعمل، أي الإنتاجية. وتعتمد هذه ‏الإنتاجية بدورها على تطوّر الظروف الموضوعية للإنتاج – على نحوٍ أساسيّ، على تنمية رأس المال ‏الثابت - وعلى تنمية القدرات الإنتاجية للعمل الحيّ. ترتبط هذه القدرات الإنتاجية ارتباطًا مباشرًا، من ‏ناحية، بتنمية الفرد المنتِج داخل الإنتاج - وبالتالي بإدارة العمال - ومن ناحية أخرى، بالنموّ في استهلاك ‏العمال ورفاهيتهم، وبتطوّر ثقافتهم التقنية والشاملة، وتقليل وقت العمل. وعلى وجهٍ أعمّ، يعتمد هذا الجانب ‏من الإنتاجية، الذي يمكن تسميته بالإنتاجية الذاتية، على التزام المنتِجين الكلّي والواعي بالإنتاج. لذلك، ‏توجد علاقة موضوعية بين تراكم رأس المال الثابت وتوسّع الاستهلاك(بالمعنى الأوسع) الذي يحدد الحلّ ‏الأمثل لمشكلة الاختيار بين هاتين الطريقتين لزيادة الإنتاجية الإجمالية. مثلما يمكن زيادة الإنتاج عن ‏طريق تقليل ساعات العمل ولأنّه يجري تقليل هذه الساعات، فإنّ زيادة الرفاهية يمكن أن تكون أكثر ‏إنتاجية - بالمعنى المادي للمصطلح – من زيادةٍ في التجهيزات. ‏
بحكم طبيعتها، يمكن لطبقة مستغِلَة أو لفئةٍ من المدراء أن ترى جانبًا واحدًا فقط من المشكلة، ليصبح ‏تراكم رأس المال الثابت هو السبيل الوحيد أمامها لزيادة الإنتاج. فقط عندما يضع المرء نفسه في وجهة ‏نظر المنتِجين يمكنه أن يحقّق توليفًا بين وجهتي النظر. مرة أخرى، سيكون لهذا التوليف، في غياب ‏المنتِجين أنفسهم، قيمةٌ مجرّدة فقط، ذلك لأنّ الالتصاق الواعي لهؤلاء المنتِجين بالإنتاج هو الشرط ‏الأساسيّ لتحقيق تطويرٍ أقصى للإنتاجية. وهذا الالتصاق لن يتحقّق إلاّ حين يعرف المنتجون أنّ الحلّ ‏المفروض هو حلّهم الخاصّ‎.‎
طالما استمرّ النقص في السلَع، سيكون المجتمع ملزَمًا بترشيد استهلاكه، وستكون الطريقة الأكثر عقلانية ‏للقيام بذلك هي تحديد سعرٍ لكلّ منتج؛ وبذلك يكون المستهلك قادرًا على أن يقرّر بنفسه كيفية إنفاق دخله ‏الذي يمنحه أقصى قدرٍ من الرضا، وسيكون المجتمع قادرًا، على المدى القصير، على مواجهة نقوص ‏استثنائيةٍ أو لامساواة في نموّ الإنتاج عن طريق تأجيل إشباع حاجاتٍ أقلّ إلحاحًا، عبر التلاعب بأسعار ‏بيع المنتجات المعنية. بمجرد إزالة اللامساواة في الدخل، يمكن على نحوٍ مناسبٍ قياس الكثافة النسبية ‏للطلب على مختلف المنتَجات ومدى الحاجة الاجتماعية الحقيقية عبر كميات المبالغ التي يرغب ‏المستهلكون في دفعها مقابل السلعة المعنية. وسيوفر التغيير في مخزون تلك السلعة الإرشادات لتوسيع ‏أو الإنتاج في الفرع أو لإبطائه‎.‎
في هذه الشروط، تكون مشكلة التوازن الاقتصاديّ العام من حيث القيمة بسيطة. من الضروري ويكفي أن ‏يكون إجمالي الدخل الموزّع - أي الأجور أساسًا - مساويًا لمجموع قيَم سلَع الاستهلاك المتاحة. وهذا ‏يعني، بقدر ما يجب أن يكون هناك تراكم، أنّ أسعار السلع ستكون أعلى من تكلفة إنتاجها، على الرغم ‏من تناسبها معها. يجب أن تكون أسعار السلع أعلى من تكلفة إنتاجها، لأنّ بعض المنتجين، أثناء كسبهم ‏للأجور، لا ينتجون سلعًا قابلة للاستهلاك ولكن وسائلَ إنتاج غير معروضة للبيع. ولكن من المنطقيّ أن ‏تتناسب مع تكاليف إنتاجها الخاصّة بكل منها، لأنّه في ظلّ هذا الشرط فقط، وليس في غيره، يعكس فعل ‏شراء هذه السلعة حقًا مدى الحاجة الذاتية الذي يشير إليها. بعبارة أخرى، يؤكّد المجتمع باستهلاكه قرارَه ‏الأوّلي بتخصيص ساعات عديدة لإنتاج هذا المنتج‎.‎
ديكتاتورية البروليتاريا
في مواجهة تصاعد الأوهام الديموقراطية البرجوازية الصغيرة التي سبّبها الانحطاط الشمولي[التوتاليتاريّ] ‏للثورة الروسية، أصبح من الضروري أكثر من أيّ وقت مضى إعادة تأكيد فكرة دكتاتورية البروليتاريا. تعني ‏الحرب الأهلية وتوطيد سلطة العمال التدميرَ العنيف للميول السياسية التي تميل إلى الحفاظ على ‏الاستغلال أو استعادته. الديموقراطية البروليتارية هي ديموقراطية للبروليتاريين، وهي في الوقت نفسه ‏الديكتاتورية اللامحدودة التي تمارسها البروليتاريا ضد الطبقات المعادية لها‎.‎
ومع ذلك، يجب تجسيد هذه المفاهيم الأوّلية في ضوء تحليل المجتمع الحالي. طالما كان أساس الحكم ‏الطبقيّ هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، يمكن منح "شرعية" دكتاتورية البروليتاريا شكلاً دستوريًا، ‏بحرمان أولئك الذين يعيشون مباشرةً من عمل الآخرين من حقوقهم السياسية، وبتجريم الأطراف التي ‏أصرّت على استعادة هذه الملكية الخاصّة. إنّ انحطاط الملكية الخاصة في مجتمع اليوم، وتبلوّر ‏البيروقراطية كطبقة مستغِلة، يزيلان معظم أهميتها من هذه المعايير الشكلية. التيارات الرجعية التي ‏سيتعيّن على دكتاتورية البروليتاريا أن تقاتل ضدّها، على الأقل أخطرها، لن تكون التيارات ‏الإحيائية[الاصلاحية] البرجوازية، بل تلك البيروقراطية. لا شكّ في لزوم استبعاد هذه التيارات من الشرعية ‏السوفيتية على أساس تقدير أهدافها وطبيعتها الاجتماعية التي لم يعد من الممكن أن تستند إلى معايير ‏رسمية("الملكية"، وما إلى ذلك)، ولكن على طابعها الحقيقي كتيارات بيروقراطية . سيتعيّن على الحزب ‏الثوريّ أن يأخذ في الاعتبار هذه المعايير الأساسية، بأن يقترح ويحارب من أجل انتزاع المنظمات ‏السوفيتية من حضن كل التيارات التي تعارض، علنًا أو سرًّا، الإدارة العمّالية للإنتاج والممارسة الكاملة ‏للسلطة على يد منظمات الجماهير. على العكس من ذلك، يجب منح أوسع الحريات لتيارات الطبقة ‏العاملة التي تضع نفسها على هذه المنصة، بغض النظر عن خلافاتهم حول النقاط الأخرى، مهما كانت ‏أهميتها‎.‎
سيكون الحكم والقرار النهائيّ بشأن هذه المسألة، كما هو الحال في جميع القضايا الأخرى، من اختصاص ‏المنظمات السوفياتية والبروليتاريا المسلّحة. إن ممارسة هذه الهيئات الكاملة للسلطة السياسية والاقتصادية ‏ما هي سوى جانبٍ واحدٍ من جوانب إزالة التعارض بين المدراء والمنفذّين. إزالة هذا التعارض ليست ‏محتَّمة، بل تعتمد على الصراع الحادّ الذي سيحدث بين الميول الاشتراكية وميول الانتكاس نحو مجتمعٍ ‏استغلالي. وبهذا المعنى، لا يقتصر الأمر على تصفية قبليّة لانحطاط الكيانات السوفييتية فحسب، بل إنّ ‏شرط التطوّر الاشتراكي موجود في محتوى النشاط البنّاء للبروليتاريا الذي يُعتبر شكله السوفياتي لحظة من ‏لحظاته. ومع ذلك، يوفّر هذا الشكل الحالة المثلى التي يمكن أن يتطوّر بموجبها هذا النشاط، وبهذا ‏المعنى لا يمكن فصله عنه. والعكس صحيح بالنسبة لديكتاتورية "الحزب الثوري"، التي تقوم على احتكار ‏فئةٍ أو مجموعةٍ ما للوظائف القيادية، ومن ثمّ، وبقدر ما تكون موطَّدة، تتناقض تمامًا مع تطوّر النشاط ‏الإبداعي للجماهير، ومن ثمّ، تكون شرطًا موجبًا وضروريًا لانحطاط الثورة.‏

الثقافة في المجتمع الانتقاليّ
يفترض بناء الشيوعية استيلاء البروليتاريا على الثقافة. لا يعني هذا الاستيلاء فحسب استيعابَ الثقافة ‏البرجوازية، ولكن، قبل كلّ شيء، خلقَ العناصر الأولى للثقافة الشيوعية‎.‎
الفكرة القائلة بأنّ البروليتاريا لا يمكنها سوى استيعاب الثقافة البرجوازية القائمة، وهي فكرة دافع عنها ‏تروتسكي بعد الثورة الروسية، هي في حدّ ذاتها فكرة خاطئةٌ وخطيرة من الناحية السياسية. صحيح أنّ ‏المشكلة التي واجهتها البروليتاريا الروسية في أعقاب الثورة كانت، قبل كلّ شيء، استيعاب الثقافة القائمة ‏‏- وعمليًا ليس فقط الثقافة البرجوازية، بل أبسط أشكال الثقافة تاريخيًا(النضال ضد الأمية، على سبيل ‏المثال)، وفي هذا المجال لا توجد قواعد لغوية ولا حسابية بروليتارية؛ لكنّ هذا المجال ينتمي إلى الشروط ‏‏"التقنية[الفنّية]" والشكلية للثقافة أكثر من الثقافة نفسها. أمّا بالنسبة للثقافة البرجوازية، فلم يكن ولن يكون ‏هناك أبدًا استيعابٌ نقيّ وبسيط للثقافة البرجوازية، لأنّ ذلك سيعني عبودية البروليتاريا للأيديولوجية ‏البرجوازية.‏
لا يمكن للبروليتاريا استخدام الخلقَ الثقافيّ للماضي في نضالها من أجل بناء شكلٍ جديد من المجتمع إلاّ ‏بشرط تحويله، وفي الآن عينه دمجه، في كلّيةٍ جديدة. إن خلق الماركسية نفسها دليلٌ على هذه الحقيقة. ‏كانت "الأجزاء المكوِّنة" الشهيرة للماركسية نتاج الثقافة البرجوازية، لكنّ تطوير ماركس للنظرية الثورية لم ‏يكن يعني على وجه التحديد الاستيعاب المحض والبسيط للاقتصاد السياسيّ الإنجليزي أو الفلسفة ‏الألمانية، ولكن تحويلهما الجذريّ. كان هذا التحويل ممكنًا لأنّ ماركس وضع نفسه على أرض الثورة ‏الشيوعية، وهو يثبت أنّ هذا المظهر الجنينيّ للثقافة الشيوعية المستقبلية للإنسانية قد وُضِع على مستوى ‏جديدٍ في ما يتعلّق بالإرث التاريخي. إن تصوّر تروتسكي، أنّه طالما بقيت البروليتاريا بروليتاريا، يجب أن ‏تستوعب الثقافة البرجوازية، وأنّه عندما يمكن إنشاء ثقافة جديدة، فإنّها لن تكون ثقافة بروليتارية لأنّ ‏البروليتاريا لن تعد موجودة كطبقة واحدة ، هذا التصوّر ليس، على الأكثر، إلاّ حنكة اصطلاحية. إذا اُخِذّ ‏على محمل الجد، سيعني إمّا أنّ البروليتاريا تستطيع النضال ضد الرأسمالية عبر استيعاب الثقافة ‏البرجوازية ودون تشكيل أيديولوجية هي نفيّ لهذه الثقافة، أو أنّ الإيديولوجيا الثورية ليست سوى سلاحٍ ‏مدمِّر بدون محتوى إيجابيّ ولا علاقة له بالثقافة الشيوعية المستقبلية. الفكرة الأولى تدحض ذاتها، والثانية ‏تسيء فهم ما يمكن، وما يجب، أن تكون عليه الأيديولوجيا الثورية، بل وحتى مجرد الأيديولوجيا. يفترض ‏النضال ضد الأيديولوجيات الرجعية والتوجّه الواعي للصراع الطبقي تصورًا إيجابيًا لأسس المشاكل التي ‏تواجهها البشرية، وهذا التصوّر ليس سوى أحد التعبيرات الأولى عن الثقافة الشيوعية المستقبلية للمجتمع‎.‎
من الواضح أن هذا الموقف لا علاقة له بالهراء والثرثرات الرجعية للستالينيين عن "البيولوجيا البروليتارية" ‏و"علم الفلك البروليتاري" والفنّ البروليتاري في زراعة الكرنب. بالنسبة للستالينيين، فإنّ هذا التشويه المخزيّ ‏لفكرة الثقافة الثورية ليس سوى وسيلة إضافيةً لإنكار الواقع وإرباك الجماهير‎.‎
إذا كانت البروليتاريا، عبر الاستيلاء على الثقافة القائمة، تخلق في نفس الوقت أسسَ ثقافةٍ جديدة، فهذا ‏يعني ضمنيًا موقفًا جديدًا للمجتمع البروليتاريّ تجاه التيارات الإيديولوجية والثقافية. الثقافة ليست أبدًا ‏أيديولوجيا أو توجهًا، بل هي كلّ عضويّ، وكوكبة من الأيديولوجيات والتيارات. إنّ تعدّد الميول التي ‏تشكّل ثقافةً ما تعني أنّ حرية التعبير شرطٌ أساسيٌّ لامتلاك البروليتاريا للثقافة على نحوٍ إبداعيّ. يجب ‏محاربة التيارات الأيديولوجية الرجعية التي ستظهر حتمًا في المجتمع الانتقالي، طالما أنّها تعبّر عن ‏نفسها فقط على الساحة الأيديولوجية، بأسلحة أيديولوجيةٍ، وليس بوسائل آليةٍ[ميكانكية] تحدّ من حرية ‏التعبير. يصعب أحيانًا إيجاد الحدّ الفاصل بين تيارٍ أيديولوجيّ رجعيّ ونشاطٍ سياسيٍّ رجعيّ ، لكن على ‏الديكتاتورية البروليتارية أن تحدّده في كلّ مرة تحت طائلة الانحطاط أو الانقلاب‎.‎








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالركل والسحل.. الشرطة تلاحق متظاهرين مع فلسطين في ألمانيا


.. بنعبد الله يدعو لمواجهة الازدواجية والانفصام في المجتمع المغ




.. أنصار ترمب يشبهونه بنيسلون مانديلا أشهر سجين سياسي بالعالم


.. التوافق بين الإسلام السياسي واليسار.. لماذا وكيف؟ | #غرفة_ال




.. عصر النهضة الانجليزية:العلم والدين والعلمانية ويوتوبيا الوعي