الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موقف البلاشفة أمام القضاة البلاشفة في الاستنطاقات وأمام النظام القضائي القيصري ترجمة علياء نجمي

موقع 30 عشت

2022 / 11 / 13
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ضمن الملف الجديد: "ما يجب أن يعرفه كل مناضل عن النضال الثوري"، الذي افتتحه موقع 30 غشت بإصداره الجديد حول "محاكمة ماركس ورفاقه في "عصبة الشيوعيين" ــ محاكمة كولونيا 1852"، يضع الموقع نصا جديدا ضمن خانة "في مواجهة الجلادين" لنفس الملف، وهو نص يحمل عنوان: " موقف البلاشفة أمام القضاة ـــ البلاشفة في الاستنطاقات وأمام النظام القضائي القيصري"، ترجمة علياء نجمي. كما يعلن الموقع أنه سينشر قريبا، ضمن الملف الجديد: "ما يجب أن يعرفه كل مناضل عن النضال الثوري"، خانة: "مكتبة الصمود والمواجهة"، كتاب "الأقدام العارية ـــ الشيوعيون المصريون: 5 سنوات في السجون ومعسكرات التعذيب" ل "طاهر عبدالحكيم" (الطبعة الثانية ـــ دار ابن خلدون ـــ 1978). معلوم أن الكتاب ينتمي لما أطلق عليه ب "أدب السجون"، وهو يغطي فترة 1958 ـــ 1964، وقد تم طبعه على أساس نسخة خطية أصلية تم تهريبها من داخل السجن و "دفنها" في مخبأ إلى أن تم الإفراج عن المعتقلين سنة 1974. يتألف هذا الكتاب من 7 أجزاء وما مجموعه 34 فصلا.
ـــ ــــ ــــ

موقف البلاشفة أمام القضاة ـــ البلاشفة في الاستنطاقات وأمام النظام القضائي القيصري ـــ ترجمة علياء نجمي

"إن البلشفي هو ثوري يضع فوق الكل مصالح الثورة، مصالح طبقته ومصالح حزبه. إذا رفض الإدلاء بإفادته أثناء الاستنطاق فلكي يكون هكذا مفيدا لحزبه، ومع ذلك خلال المحاكمة القضائية، جعل من قاعة المحكمة منبرا أعلى، التي منها يندد بأعدائه الطبقيين، عارضا أمام الجماهير الواسعة برنامج وتكتيك حزبه."

قبل أن يصبح مهيمنا، قطع الحزب البلشفي شوطا طويلا من النشاط السري. وقد تطلب انتصار تشرين الأول/أكتوبر جهدا كبيرا. لعقود، حارب بعناد الاستبداد القيصري، وقاتل من أجل قضية الطبقة العاملة لتحريرها.
مستلهما من كل النظريات الأخرى (مذهب ماركس و انجلز)، ومستندا على قاعدة اجتماعية أخرى (الرأسمالية تخطو خطواتها في روسيا، والحركة العمالية تنمو) واصل الحزب البلشفي عمل الحركة الثورية الروسية السابقة، التي ورث منها تجربته في النضال ضد القيصرية.
في هذه الحرب الطويلة ضد العدو العنيد، عانى حزبنا الكثير من الخسائر، ولقي العديد من المقاتلين حتفهم قبل انتصار البروليتاريا، وسقطوا بشكل مجيد في ساحة الشرف وسط صراع مفتوح، من حبل المشنقة، إلى الأشغال الشاقة، في السجون عذبوا واستشهدوا، أو نتيجة لظروف قاسية من العمل غير المشروع. لكن على الرغم من التضحيات التي لا تعد ولا تحصى، على الرغم من الضربات الحساسة التي سددتها له الحكومة القيصرية، وعلى الرغم من الهزائم المؤقتة، فإن حزبنا لم يضع السلاح ولو لدقيقة واحدة.
بعد الفشلات المؤقتة، أعاد تشكيل صفوفه ليبدأ النضال مرة أخرى في ظروف جديدة. لقد كان يتقدم باستمرار نحو النصر. إن أسس تجربة حزبنا من حيث التنظيم، التي تسهل نضاله الشديد اليوم لبناء الاشتراكية في بلدنا، إن هذه الأسس صهرت من طرفه في فترة عمله السري. لقد جاء ثراء هذه التجربة من مجموعة متنوعة من أساليب النضال ضد القيصرية، وإن تعقد هذا النضال يتطلب من المناضل البلشفي المرونة والمبادرة والإبداع والبحث المستمر عن أشكال جديدة للاستخدام الأكثر حكمة لطاقته الثورية.

I

اعتمد البلاشفة الروس بشكل كبير على الخبرة الوفيرة والطويلة في النضال ضد القيصرية من الأجيال الثورية السابقة. وإذا كانوا قد تخلوا عن التراث الإيديولوجي لنارودنيشستفو (تعرف باسم الشعبوية، وهي حركة ثورية واسعة تعود أصولها إلى بداية القرن 19، وقد استمرت إلى حدود ثورة 1905، وحزب نارودنايا فيوليا هو أحد تشعباتها) و نارودنايا فيوليا لسنوات السبعينات، و وضع نظريتها جانبا، وبرنامجها وتكتيكاتها للتموقع تماما على أرضية الاشتراكية الثورية البروليتارية لمذهب ماركس وإنجلز، فمن ناحية أخرى، ففيما يتعلق بالنشاط السري والسلوك الذي يجب التقيد به أثناء الاستجوابات، فإن البلاشفة، كلما سقطوا في أيدي أعدائهم، استعرضوا تجربة سابقيهم أمامهم، وبالأخص رجال نارودنايا فيوليا.
في غضون عشرات السنين قبل ثورة أكتوبر، فإن ظروف النشاط التآمري ضد الأحزاب الثورية في روسيا قد تغيرت بالكاد. لقد كانت أساليب صراع المنظمات القيصرية ضد الحركة الثورية متشابهة في عمومها، وتختلف فقط مع الظروف المحلية والخصائص الفردية لرئيس "الأوخرانا" (البوليس السياسي السري القيصري).
يظهر من محفوظات قسم الشرطة السابق، والأوخرانا، وأقسام رجال الدرك التي نتوفر عليها اليوم، أن عددا قليلا جدا من المناضلين البلشفيين السريين الذين أفلتوا من اقتفاء الأثر المنهجي لوكلاء الأوخرانا، فتقارير هذه الأخيرة تعج بتفاصيل، تحدد بطريقة لا جدال فيها أن الوشاة رصدوا بالتدقيق كل حركة من حركات ضحاياهم، لكن هذه "المراقبة الخارجية" لم تكن جوهر أساليب عمل أجهزة البوليس السياسي، فمنذ نهاية السبعينات (من القرن 19)، والحكومة القيصرية، من خلال محاربتها للحركة الثورية، دشنت نظام الاستفزاز.
مع نمو الحركة البروليتارية الثورية بدأت إدارة الشرطة في تطبيق هذا النظام بشكل كبير، ومن أجل "المراقبة الداخلية" للمنظمة واكتشاف الثوريين الأكثر نشاطا، كثيرا ما أدخلت الأوخرانا رجالها في الهيئات القيادية للحزب، فباستخدام التهديدات، جرت، للدخول في خدمتها مقابل أجر، أعضاء من المنظمة اللذين سقطوا أخلاقيا، وتظهر مستندات من أرشيف الأوخرانا القيصرية، أن أولئك المستفزين، الذين يتم تضمينهم في تقارير تحت ألقاب الشرطة (معظمها تم فك رموزها بعد بحث دقيق)، قدمت معلومات دقيقة إلى حد ما عن حالة أسماء مستعارة من المنظمة، التي تم إعطاؤها، من أجل السرية المفروضة في مصالح الأوخرانا، أسماء مستعارة في الحركة، وذلك في تقاريرها حول نشاطها الشخصي داخل المنظمة.
كان الاستفزاز الجماعي سلاح هائل في أيدي القيصرية في صراعها ضد الحركة الثورية، يعقد نضالنا، ويكون سببا في تكرار خيانات داخل منظماتنا وعرقلة العمل، لقد أجبرنا على تعزيز أساليبنا في التآمر، وأجبرنا عل حشر أنفسنا في الإطارات الضيقة للمنظمة.
مع ذلك، فلا وشايات العملاء الخارجيين للأوخرانا، ولا معلومات المستفزين، يمكنها أن توفر، حتى في ظروف هذا النظام البغيض والدموي الذي كانته الأوتوقراطية القيصرية، وثائق كافية لوضع اليد على كل المنظمة، أو لإقامة محاكم قضائية من أجل تبرير قانوني للمنع الطويل للمناضلين البلشفيين أو تصفية المنظمة.
بموجب لائحة المراقبة المعززة (الجاري بها العمل إلى حدود ثورة فبراير)، بإمكان أجهزة الشرطة السياسية أن تضع في حالة اعتقال أي مناضل من المنظمة سقط على مرمى نظرهم وإبقاؤه في السجن لفترة طويلة ونفيه، دون أن ينجحوا، مع ذلك، في التشويش كليا على المنظمة، وتلفيق محاكمة قضائية تؤدي إلى عقوبة الإعدام، وإلى الأعمال الشاقة، وإلى الاحتجاز لمدة طويلة كما كانوا يرغبون في ذلك.
على الرغم من استخدامنا تعبيرا لأحد الثوريين من سنوات السبعينات، مشكين "العدالة القيصرية هي أكثر خضوعا من بيت الدعارة" (خطاب مشكين في محاكمته) ومع ذلك، تحتاج هذه العدالة إلى بعض الأسباب الرسمية لإصدار الحكم الذي تريده الحكومة، فلا اتهامات الوشاة ولا تقارير المستفزين كانت كافية. الأولى لأنها لم تكن شهادات مباشرة، يمكن على الأكثر استخدامها من طرف الأوخرانا كدلائل غير مباشرة من السهل دحضها في المحكمة، أما بالنسبة للأخرى، فإن تقارير المستفزين، حيث مبدأ السر الذي لا يجوز انتهاكه كان مضمونا للعملاء المستفزين، لا تظهر في المحاكمة. بالإضافة إلى ذلك، فلا الوشاة ولا العملاء المستفزين، يمكنهم أن يوضحوا مجموع نشاط المنظمة، ليس معروفا، نظرا للأساليب السرية الفعالة الجاري بها العمل في الحزب، ولم يكونوا على اطلاع سوى على عدد قليل من حلقات أو بعض جوانب العمل.
أيضا، فإن الدور الرئيسي للأوخرانا وأقسام رجال الدرك لا يبدأ إلا بعد الاعتقالات وبعد تدمير المنظمات. لقد كان ضروريا، سواء، استنادا للوثائق، التي تم الحصول عليها خلال الاستجواب، كشف المنظمة بأكملها، وإعداد محاكمة قضائية، أو الاقتصار عل الاحتجاز الاحتياطي للسجناء، وترحيلهم بموجب القانون وحتى إطلاق سراح عدد قليل منهم. إن هذا الحل الأخير يستاء منه عملاء الأوخرانا، لأن كثير من الجهد بذل في "خسارة خالصة".
عند ذلك، ظهر على المسرح التحقيق القضائي، الذي يستغرق سنوات في بعض الأحيان، وكان بعض ضباط الدرك وقضاة التحقيق في مهمة خاصة، يلجؤون لكل براعتهم لاستخراج معلومات من المتهمين أثناء الاستجوابات لغرض الحصول على معلومات كاملة عن المنظمة لتزويد المحاكمة بها.
أما بالنسبة للثوري، فقد كان ذلك أهم لحظة في نشاطه، المحفوف بالمخاطر، فقد كان من الأسهل بكثير محاربة عدو غير مرئي بوجوه متعددة، أما الآن، فلأول مرة كان يصطدم وجها لوجه بضابط الشرطة السياسية الماكر، من ذوي الخبرة في مهنته، الذي يحاول بكل الطرق إرباك ضحيته.
ينبغي أن يضاف أن الثوريين المفتقرين للخبرة، أو لا يدركون بما فيه الكفاية العواقب المحتملة لموقفهم خلال الاستجواب، يتمكن العملاء المستفزين بعض الأحيان أن ينتزعوا منهم المعلومات المرغوبة. هذا هو السبب في أن السلوك الذي يجب اتخاذه خلال التحقيقات، قد اكتسب الأهمية الكبيرة في الحركة الثورية الروسية.

II

بعد خبرة طويلة مكتسبة تحت حكم القيصرية، وصل البلاشفة الروس إلى هذه الخلاصة، التي مفادها أن التكتيك الأكثر عقلانية خلال الاستجوابات، كان هو رفض أي شهادة، ولفهم سبب مثل هذا الموقف، يجب اعتبار الإجراءات المستعملة من طرف عملاء الأوخرانا للحصول على المعلومات اللازمة من المدعى عليهم ل "تغذية" المحاكمة.
تخيلوا حالة الثوري الذي سقط بين أيدي العدو، معزول عن العالم الخارجي، يقبع في السجن لمدة شهر أو شهرين في انتظار الاستجواب، كان هذا، إذا جاز التعبير، تحضيرا ذهنيا للاستنطاق. في غضون ذلك، فإن عملاء البوليس السياسي، تساعدهم في ذلك الوثائق، يتصدون إلى دراسة دقيقة لشخصية الثوري، فبتلميحات إلى المصير المحزن الذي ينتظر الابن، الأخ، الأخت، كانوا يسعون إلى التأثير على الوالدين لدفع السجين إلى القيام ب "اعتراف كامل"، كوسيلة وحيدة للتخفيف من المصير الذي سيلقاه.
بعد شهر أو شهرين، وبناء على الوثائق التي تم جمعها، يستدعى السجين لاستجوابه. تتنوع الإجراءات المطبقة من طرف الأوخرانا، حسب الوضع الاجتماعي وشخصية المتهم، فبالنسبة لعامل، فإن إجراءات الاستجواب كانت بدائية جدا. وبسبب خشونة عادات روسيا القيصرية وتصور الطبقات الحاكمة، التي كان العامل بالنسبة لها كائنا دونيا (أقل شأنا) يسعى العميل المستفز إلى إرهاب السجين منذ البداية. "إذا لم تعترف يا ابن الكلب سأجعلك تتعفن في السجن، لن أتركك تذهب حيا من هنا".
هكذا كانت التهديدات الكلاسيكية لرجال الأوخرانا، وليس إلا أمام عامل ثوري متمرس، سبق له أن عرف السجن، يصبح العميل المستفز أكثر "تدفقا"، في هذه الحالة يتم تطبيق على العامل، الطرق المستخدمة تجاه الثوريين المحترفين. كانت هذه إجراءات "منقحة"، كان السجين يوجد في حضور، ليس عدو عنيد، وجلاد كان سيتوسل إليه، وليس أمام خصم ساخر بفرح، مبتهجا برؤية الضحية ساقطا بين يديه، لكن إنسانا "إنسانيا" مليئا بالشفقة على "سوء حظ" السجين.
ينطلق "حوار" كانت اللهجة فيه مهذبة للغاية، و وجه رجل الأوخرانا يعبر عن تعاطفه مع مصير السجين، يعرض عليه سجائر ممتازة (لم يدخن السجين لمدة طويلة) يجلب له الشاي مع حلويات، و في بعض الأحيان وجبة جيدة من مطعم مجاور.
يقول له "أنت ما زلت شابا والحياة كلها أمامك، يمكن لزلة (أو هفوة) أن تفسد وجودك كله، لكن رغم كل التعاطف الذي أشعر به تجاهك، فمن الصعب علي إنقاذك لأن أحمال ثقيلة تسحقك، فجميع الوثائق التي في حوزتنا تدينك، إن عقوبة قاسية تنتظرك، وخلاصك في شهادة صادقة وحقيقية، فإذا قمت بذلك ربما بإمكاننا إطلاق سراحك بالكامل.
"ذلك اليوم أتت أمك لرؤيتك، ألم تشفق عليها؟ المرأة مسكينة مثقلة بالحزن، وهذا بسبب نزواتك الثورية، إذا حكم عليك بالأشغال الشاقة ستموت ألما بذلك".
لقد كان ذلك توطئة، فإذا ظل ذلك بدون تأثير، فإن الرجل يبدأ محادثة بطريقة مهذبة لدفع السجين ليكون صريحا.
في حالة النجاح، فإن عميل الأوخرانا، يمكن أن يحدد بالتالي المفاهيم النظرية للمتهم، والحزب الذي كان منتسبا إليه، في هذه المقابلات فإن المستفزين (يتعلق الأمر بالطبع بالوشاة من الأنواع العليا) كانوا في كثير من الأحيان يظهرون قدرا كبيرا من معرفة القضايا السياسية.
كان هذا العلم سطحيا بالتأكيد، لكن يكفي ل"تخصصهم الصارم"، وبتوفرهم على كل الأدب اللاشرعي، كانوا في وضع أفضل من الثوريين من أجل المواكبة، في هذا السياق تميز رئيس الشرطة السياسية في موسكو زوباتوف (1) ، الذي خلق مدرسة الوشاة "المستنيرين".
نظرا لافتقارهم إلى الخبرة، فإن العديد من الثوريين يبتلعون هذه الطعوم، واللذين يتم إقناعهم بصراحة العميل المستفز المزيفة. من "المناقشات" مع الثوريين المسجونين استخرج (العميل) لفائدة الأوخرانا وثائق قيمة، تسمح له بمعرفة عدد المنظمات الثورية.
بعد هذه المحادثات "الحرة"، يتناول العميل المستفز "جوهر المسألة"، ويبدأ الاستنطاق، فإذا كان السجين قد "تحدث" مع العميل المستفز قبل الاستنطاق، فإن نصف العمل كان قد استهلك، ودون أن يدري يواصل المدعى عليه المحادثة.
كان العميل يسعى إلى إرباك محاوره عن طريق دقة معلوماته مثل:
"هذا اليوم، في مثل هذا الوقت، كنت في مثل هذا المكان تحمل حزمة من قبيل هذه الأحجام، ملفوفة بورق الصحف. مكثت هناك وقتا كثيرا. خرجت مصحوبا في كذا وقت من كذا إلى كذا وقت، وذهبت إلى كذا مكان"، فتعتري السجين الدهشة".
"في كذا يوم، شاركت في كذا مؤتمر، حيث حضر كذا أشخاص، وتمت مناقشة كذا قضايا"، والسجين مصدوم مرة أخرى. "ستكون مخطئا إذا ظللت على موقفك، فنحن نعرف كل شيء، إننا نأخذ المعلومات من رفاقك".
بمثل هذه "الحجج" الضاغطة على السجين، فإن هذا الأخير، وقد دخل مصيدة المستفز، يكون مضطرا إلى الإدلاء بشهادته، أو يدخل في طريق الاعتراف الكامل دون أن يمس الرفاق وكذلك نفسه، وبالتالي يصبح خائنا عن غير قصد، أو أنه يقدم "تفسيرات" لدحض التهم، لكن بعد ذلك يحصل الخلط في تصريحاته، التي تزيد طبيعتها المتناقضة درجة اليقين في أدلة الأوخرانا. في كلتا الحالتين، ينتهي الأمر بانتزاع معلومات إضافية لتوضيح القضية وتغذية المحاكمة.
كان لتكتيكات الإفادات و "التفسيرات" الصريحة عواقب مؤسفة، فقد سمحت للعملاء المستفزين بفك القضية المعقدة، وتزويدهم بالخيط الواصل الضروري للقيام باعتقالات جديدة وتدمير المنظمة بالكامل، لقد أدت إلى توريط رفاق المدعى عليه في الاتهام، وفي حالة التصريحات الكاذبة، إلى التناقض وإلى الاكتشاف غير المباشر لمشاركة المعتقل في التنظيم الثوري.
كانت الإفادات الصريحة في كثير من الأحيان بداية الموت السياسي لصاحبها. يستخدمها رجال الأوخرانا لتشويه سمعة الثوري في أعين المنظمة، أو محاولة جعله متعاونا مع الأوخرانا. "تؤكدون أنكم لا تعرفون أحدهم، وأنكم لم تلتقوا معه، قال العميل المستفز للمستجوب، لكن ن (الحرف الأول من اسم أحدهم) المتورط في نفس القضية ينكر تأكيدكم، يرجى قراءة شهادته". داخلا إلى زنزانته، فإن X، معتقدا أنه قد تمت خيانته، فقد هرع إلى زنزانته مخبرا كل رفاق السجن. "خذوا حذركم، فإن ن قد خان". لقد سقط الرفيق بتهوره في شباك الأوخرانا، فقد تم عزله من الحركة الثورية وجر طيلة حياته كرة الخيانة. كانت هناك أيضا حالات، حيث السجين، وقد ضايقه إدانة من كان قد أدلى باعترافات كاملة، لم يجد أي مخرج آخر إلا تأكيد هذه الاعترافات أو دحضها. في بعض الأحيان، مدفوعا بدوافع مخلصة تماما، فإن المستجوب تحمل كل المسؤولية وسعى إلى تبرئة الرفاق الآخرين، لكن فقط عملاء الأوخرانا من استفاد من هذا السلوك. لا يتوصل المستجوب أبدا إلى تبرئة نفسه ولا الآخرين، أو تورط في تناقضات، أو في حالة تأكيد الوشاية، يخاطر بأن يعتبر خائنا، أو على الأقل يعرض نفسه للخطر في أعين الحزب.
في أوائل القرن 20، وقعت الحالة التالية في خاركوف: تم ترحيل العامل فويكوف، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة وسط العمال، بسبب المشاركة النشيطة في مظاهرة فاتح ماي في خاركوف، وعادوا به من المنفى ليدلي بشهادته في الدعوى القضائية التي رفعت ضد التنظيم الاشتراكي الديموقراطي في خاركوف، بعد أن تاب، وقدم صورة لائقة، وأعطى معلومات دقيقة، ولمجازاته تم العفو والإفراج عنه. لكن ها هو أحد الرفاق المتورطين في هذه القضية، أحيط علما، مجادلا في خيانة فويكوف، أكد جزئيا أقوال هذا الأخير، ودحضها جزئيا على أمل إرباك رجال الدرك وتبرئة الرفاق. في نهاية المطاف، وفرت شهاداته وثائق وفيرة للأوخرانا، وهو نفسه كاد أن يصبح متواطئا مع فويكوف، ويحمل طيلة حياته آفة الخيانة، فقط إيضاح هذا الحادث أنقده من الازدراء، ومنع اسمه من الظهور في قائمة الخونة.
لكن كانت هناك حالات حيث إفادات صريحة، أدت إلى الخيانة المباشرة لقضية الثورة. لجأ عملاء الأوخرانا إلى الابتزاز: "مهما كانت إفاداتك ساذجة، فإن المحكمة على افتراض أنها ستمنحك ظروف التخفيف، فلن تستطيع إعفاءك. إن عقابا قاسيا ينتظرك. من ناحية أخرى، فإن إفاداتك الصريحة، عندما يعلم رفاقك بذلك (لأن المحكمة لا يمكن أن تخفيها) ستعرضك للخطر في أعين الثوريين اللذين سيسعون إلى الانتقام منك، وربما لقتلك. نعم إن وضعك حساس، لكن هناك مخرج، يكفي أن تكون متعاونا ... لن نطلب منك الكثير، ستبقى في المنظمة، وستعمل فيها وتحيطنا علما بكل ما يحدث هناك، إذا وافقت على ذلك فنحن مستعدون على أن نجعل إفاداتك سرية والعفو عنك وتجنيبك مصيرا مؤلما".
" إن ظفرا غارقا، هو نهاية الطائر بكامله". في ظل هذه الظروف، ابتلع عدد غير قليل من الشباب الثوريين طعم العملاء المستفزين، الماكرين والمنافقين. لقد كان خطأهم هو أنهم جعلوا من عدو عنيد رجلا يمكن للمرء أن "يتحدث" معه، فيتم ترك للحظة شعلة الكراهية والازدراء للعدو تنطفئ. إنها الخطوة الأولى نحو الانحدار الأخلاقي للثوري.
مع ذلك، ففي كثير من الأحيان، حتى ثوريون ذوو خبرة أدلوا باعترافات صادقة بدافع أنقى النوايا. أحيانا يدلي الثوري بإفادته ليس من أجل تبرئة نفسه، ولكن لتعزيز مصالح المنظمة، فبعض الثوار يضعون على كاهلهم الخطأ كله من أجل تبرئة رئيس منظمة من مستوى خاص. لكن لم يسفر هذا التكتيك عن نتائج إيجابية إلا من قبل الثوار المدربين، وباختصار، كان ضباط الشرطة السياسية يعرفون جيدا من هو عدوهم الأكثر خطورة، لكن لديهم ما يكفي من الوسائل لكيلا يتركوه بمجرد أن يتم القبض عليه. لكن ما يهم الأوخرانا بلا حدود هو الإفادات نفسها، لأنها تسمح بتسليط الضوء على القضية، ورفع دعوى قضائية، وتصفية المنظمة قانونيا.
لم تكن للثوري مصلحة في مساعدة أعدائه على التبرير "القانوني" للعنف الذي سيقع عليه، لم يكن لديه ما يكسبه في مساعدة العدو على وضع اليد على المنظمة الثورية، لقد ترك الأمر للعدو. إن الثوري الذي تقطعت به السبل في السجن البورجوازي، هو أسير حرب تحت رحمة عدوه، وبالتالي فواجبه هو أن يقاوم قدر الإمكان العنف ضده. وهكذا، في زمن القيصرية، أوصى الحزب البلشفي بأن يمتنع أعضاؤه عن الإدلاء بشهاداتهم أثناء الاستجوابات. وبالإضافة إلى خبرته الخاصة في هذا الشأن، كان الحزب يمتلك تجربة الأجيال الثورية السابقة. إنه يتذكر وصية المنظم البارز، والمتآمر الثوري لنهاية سنوات السبعينات، عضو حزب نارودنايا فوليا ألكسندر ميخائيلوف:

" أترك لكم إخوتي هذه النصيحة:
أقيموا شكلا وحيدا للإفادة في المحكمة، وأوصيكم برفض كل تفسير أثناء التحقيق القضائي،
مهما كانت الادعاءات أو المعلومات واضحة من الشرطة السياسية. سيجنبكم الكثير من الأخطاء".

وتجدر الإشارة أن رفض الادلاء بإفادته له عواقب وخيمة على شخص المناضل البلشفي. لم يكن الأمر بالسهولة بمكان كما قد يظهر، وكان من الضروري قبول عواقب هذا الموقف بشجاعة. إن النضال في الظروف غير القانونية أو شبه القانونية، كان بشكل عام بالنسبة للمناضل البلشفي شيئا ليس سهلا، وصعب بشكل مضاعف عندما يقبض على المناضل من قبل أعدائه. لكن البلشفي هو ثوري، ويجب أن يبقى كذلك في جميع الأحوال. كما قلنا أعلاه، فالأوخرانا القيصرية، بذلت كل الجهد الممكن لانتزاع المعلومات من الثوريين المسجونين، لكن للحصول عليها، فإنها لا تستخدم دائما الطريقة اللينة، ولم تؤثر دائما على المواقف "الحساسة". إنه في المراحل الأولى خصوصا للاستنطاق يستعمل العملاء المستفزون التساهل على أمل إسقاط السجين في الفخ.
بعد التجربة الطويلة للحركة البلشفية، فإن تكتيك المستفزين هذا، لم يعد "يعطي أكله"، وأصبحت الفخاخ تجذب أقل فأقل من الضحايا، عند ذلك كشفوا عن وجههم الحقيقي.
بعد ثورة 1905، فإن عملاء الشرطة السياسية اللذين يتحدثون مع البلشفيك حول المذهب الماركسي، تكتيك البلشفيك و المنشفيك، والمشاكل السياسية أصبحت نادرة بشكل متزايد. بعد موجة المذابح التي اجتاحت كل روسيا عشية وأثناء الثورة الأولى، والتي كانت تقودها إدارة الشرطة و الأوخرانا المحلية، وبعد القمع الدموي لثورة 1905، من طرف الحكومة القيصرية لم يعد بإمكان الأوخرانا أن تنوي التضليل بأسلوبها المنافق في الاستنطاقات، حتى الثوريين الأقل خبرة. لقد أفلس نظام زوباطوف تماما، وكان زوباطوف نفسه قد تم طرده وإبعاده من موسكو. كنا نلعب بشكل واضح، وظهر رجل الأوخرانا عندئذ في كل عريه كعدو عنيد للحركة الثورية.
خلال رد الفعل الشرير، الذي أعقب سحق الثورة الأولى، تخلى المستفزون عن تكتيك "المحادثات" و "العظات"، وحل محلها الرعب. ولأنه يعرف نفسه فائزا، فإن الخصم يسعى عن طريق الخوف إلى تعزيز موقفه.
في هذا الوقت من الثورة الروسية، فإن عميل الشرطة السياسية يلجأ خاصة إلى العنف الجسدي خلال الاستنطاقات، لانتزاع معلومات من الثوري، إن التعذيب أثناء الاستنطاق أعد كنظام: تعليق من الأصابع، لي الذراعين والساقين، ابتلاع كميات كبيرة من المياه مختلطة بالنفط، تشويه الأطراف والعقاب البدني. إن الإجراءات التي تمارس اليوم في السجون "الديموقراطية" في أوروبا وأمريكا تجاه الشيوعيين، كل هذا مستمد من ترسانة التعذيب للأوخرانا القيصرية. نحن نعلم أن العديد من عملاء هذه الأخيرة، في ظل العطالة عن العمل بعد ثورة أكتوبر قد هاجر إلى المناطق المتاخمة للاتحاد السوفياتي. إن فظاعات السجون الرأسمالية الحديثة، التي تجعل ما يسمى العالم "المتحضر" يرتعد، هي أشياء عاشها البلاشفة. إن كثيرا من البلاشفة اللذين سقطوا في أيدي الأوخرانا ما زال يحتفظ بآثار التعذيب الذي يحدث في الزنزانات القيصرية.
لقد اتخذت تعذيبات الثوار المسجونين أشكالا أكثر وحشية لأنه، خصوصا وأن البلاشفة يرفضون أكثر فأكثر أية إفادة. وقد فرضت الحالة السياسية لتلك المرحلة هذا التكتيك، ولتصفية الحركة في أسرع وقت ممكن، بدأت حكومة القيصر في إحالة البلاشفة على المحاكم العسكرية وعلى محاكم ممثلي الهيئات، التي تطبق المواد التي تنص على عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة.
كان الترحيل، بموجب اللوائح الإدارية دون إيقاف المحاكم العادية، إلى المقاطعات النائية من سيبيريا الشرقية لا يعطي النتائج المرجوة، والبلاشفة لا يحبون البقاء في المنفى، وينظمون هروبا أحيانا حتى على طول الطريق، لقد قررت الحكومة القيصرية بحزم وضع المناضلين البلشفيين بعيدا عن أي إمكانية للتأثير والتسبب في إلحاق الأذى بها.
في ظل هذه الظروف، فإن أي كلمات طائشة تقال أثناء الاستجواب يمكن أن تسبب ضررا لا يمكن إصلاحه ليس للمنظمة فحسب، ولكن للمعني بالأمر نفسه.
إن محاولات بعض الثوريين الجبناء لتبرئة أنفسهم من خلال القيام باعتراف كامل لم تؤد أبدا إلى النتيجة المطلوبة إذ لم ينجوا من الاحتجاز الطويل والأشغال الشاقة.
إن رفض الإدلاء بشهادته تسبب للمناضل البلشفي في معاناة لا تحصى، لكنها كانت آلام جسدية صرفة، لم تكن البلطجة و التعذيب وسوء المعاملة التي قام بها الجلادون تمس شرف الثوري البلشفي، بل على العكس من ذلك، فرفض الشهادة تحت تهديد التعذيب يدل على الشجاعة الثورية واحتقار أعداء الثورة.
برفضه الإدلاء بشهادته أثناء الاستجواب، أكد البلشفي استعداده لتجنب أي مشاركة في "توضيح" القضية. وغني عن القول أن عملاء الحكومة القيصرية يتوفرون على ما يكفي من الموارد للتخلص تماما، و بكل بساطة من البلاشفة العزل اللذين سقطوا بين أيديهم، و نفس الشيء في أيامنا هذه، فعملاء الحكومات الرأسمالية مزودون بالوسائل لاستعمالها هكذا ضد الشيوعيين اللذين يكرهونهم أشد الكره.
يمكن قتلهم ببندقية، "لمحاولة الهرب"، خنقهم في السجن، وقتلهم في زاوية شارع، ومع ذلك، فإن الحكومة القيصرية، مثلها مثل الحكومات الفاشية في البلدان الرأسمالية الحديثة، تسعى إلى تصفية حسابها مع البلاشفة بالطريق "القانونية"، من خلال محاكمة ضمن الإجراءات القانونية.
لهذه السخرية من العدالة، رفض البلاشفة الروس مساعدتهم، وفي أوج اللحظة، حيث البلشفي ما زال قادرا على إظهار نشاطه الثوري، يرفض القيام بإفادته، رافعا هكذا الراية الثورية عاليا، وحتى وهو أعزل، فما زال يجعل أعداءه يرتجفون من الخوف.
***
إن اقتفاء أثر البلشفي لا يتوقف عند اعتقاله، فالأوخرانا تستخدم إقامة البلشفي في السجن، وحتى سلوكه للحصول على المعلومات في ضوء التعليمات، لهذا الغرض، وضعت في السجن عملاءها، اللذين يتقنعون بمظهر الثوري مع البلاشفة (إذا كانوا في زنزانة مشتركة) أو في الجوار (إذا كان البلشفي في الحبس الانفرادي).
كان يتم الاعتماد على قلة خبرة المبتدئ أو على تهوره لمعرفة أسراره، وكان عميل الأوخرانا يبحث عن كسب ثقة وصداقة السجين للاستعلام عن القضية.
في بعض الأحيان بعد إقامة طويلة في نفس الزنزانة، فإن العميل العارف جيدا لمهنته، لا يثير الشكوك بسلوكه، فإن هذه المناورة تكون ناجحة، ولأنه محروم من الحرية، فإن حاجة الثوري إلى المؤانسة، يحثه أحيانا على الصراحة مع زملائه السجناء، مما يجعله ينسى ضرورة مراعاة السرية، فحتى في السجن، يتصور المبتدئون أن السرية أصبحت عديمة الفائدة، بمجرد أنهم تخطوا عتبة السجن.
لقد عرف العملاء المستفزون كيفية الاستفادة من هذا الشعور: بالإضافة إلى المقابلات سعوا للحصول على وثائق من المتهم، وتكلفوا بنقل رسائل تم تصويرها خارج السجن من أجل إرفاقها بعد ذلك بالملف كأدلة إدانة ضد البلشفي، لكن إذا لم يسمح البلشفي لنفسه بالانتقال إلى الصراحة، فإن المستفزين يقتصرون على مراقبة ضحاياهم، ويتجسسون على محادثات البلشفيين فيما بينهم، يسجلون نوعية الدقات على الجدران أو الأبواب (محاولة فهم كودات التواصل الشفوي والصوتي)، التي يتواصل من خلالها البلاشفة من مختلف الزنازين، وفي كلتا الحالتين حصلوا على معلومات لتقريرهم للأوخرانا.
في الحالات الأكثر تواترا، حيث كان البلشفي يوضع في زنزانة معزولة، فإن المستفز يحتل الزنزانة المجاورة، وبمجرد دخوله الزنزانة، فإن البلشفي الموقوف يسمع ضربات أصبع على الحاجز (أبجدية المسجونين) سائلا: ما هو اسمك؟ من أجل أية قضية أنت هناك؟ في أي ظروف تم القبض عليك؟ من تم القبض عليه معك؟ يأخذ المبتدئ في الحركة غير القانونية هذا "المراسل" كرفيق فيسقط هكذا في الفخ. في وقت لاحق، فإن العميل المستفز (إذا لم يتلق البلشفي في الوقت اللازم التحذير التالي: "أيها الرفاق احذروا، أحدهم كذا، من الزنزانة كذا، هو عميل مستفز ") يكسب ثقة السجين، يتكلف بمراسلاته، ونقل رسائله إلى الخارج (أي إلى الأوخرانا). وتجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى عملاء الأوخرانا (اللذين يتم إدخالهم فقط في حالات استثنائية) فإن إدارة السجن بأكملها (رؤساء السجن، المساعدون، الحراس) تجسسوا على البلاشفة المسجونين، وهم يشكلون جزءا من هذه المراقبة في خدمة البوليس السياسي.
لقد تم أيضا اعتماد القاعدة التالية: البلشفي في السجن ملزم بسر صارم كما هو الحال عندما كان حرا.

III

إن البلشفي هو ثوري يضع فوق الكل مصالح الثورة، مصالح طبقته ومصالح حزبه. إذا رفض الإدلاء بإفادته أثناء الاستنطاق لكي يكون هكذا مفيدا لحزبه، ومع ذلك خلال المحاكمة القضائية، جعل من قاعة المحكمة منبرا أعلى، التي منها يندد بأعدائه الطبقيين، عارضا أمام الجماهير الواسعة برنامج وتكتيك حزبه.

مهما كانت الجلسة المغلقة في المحاكمات "السياسية" صارمة، وأن القضاة كانوا موظفين قيصريين، وممثلو الأرستقراطية والبورجوازية (ممثلو "الهيئات")، وتقارير المحاكمات لا تظهر أبدا في الصحافة، فإن خطابات الثوريين كانت تنشر في الصحف السرية ويتم نشرها بين الجماهير. شكلت هذه الخطابات مادة ممتازة للتحريض، واستخدمت لفترة طويلة لتربية أجيال من الثوريين. كما هو الحال في الاستنطاقات، خلال المحاكمة استلهم البلاشفة من تجارب أجيال من الثوريين القدامى.
حوالي 1870 – 1880، لم تفكر بعد الحكومة القيصرية في تطبيق إجراءات مبسطة للتخلص من الثوريين. إن الترحيل بالطريقة الإدارية إلى المقاطعات "النائية" أو "غير النائية جدا" لم يتم تطبيقها إلا في وقت لاحق. في تلك المرحلة سعت الحكومة القيصرية إلى إعطاء المحاكمات السياسية مظهر المحاكمات القضائية. نحن نعرف المحاولة الفاشلة للحكومة القيصرية لتأجيل قضية فيرا زاسوليتش، التي حاولت قتل الجنرال تريبوف، في المحكمة الأكثر ديموقراطية في روسيا القيصرية، محكمة الجنايات. تمت تبرئة فيرا زاسوليتش، الشيء الذي أشعر الحكومة القيصرية بالاشمئزاز من معاودة مثل هذه التجارب، وتخضع القضايا "السياسية" من الآن فصاعدا للاختصاص القضائي للمحاكم العسكرية، أو إلى محكمة ممثلي الهيئات، أي ألد أعداء العمال.
لإظهار الدروس المستفادة من طرف البلاشفة من تجارب ثوريي سنوات السبعينات، فيما يتعلق بالتكتيك الذي يجب اتباعه خلال المحاكمة، فسوف نستنسخ مقاطع من هذه الخطب التي هي بليغة كما هي لاذعة لثوريين من المرحلة، نموذج لرجل مثقف من عامة الناس، وهو إيبوليت ميشكين، والنساج بيير أليكسييف.
تم القبض على ميشكين مع عدة مئات من الثوريين بتهمة الدعاية بين الفلاحين، الدعاية التي، في النصف الأول من سنوات السبعينات، مست العديد من جهات روسيا. لقد وضعت الحكومة يدها على مئات الدعاة في أجزاء مختلفة من البلاد، واختلقت محاكمة قضائية من أجل تصفية الحركة الثورية لتلك المرحلة.
لقد تورط 193 شخصا في القضية (ومن هنا جاء اسم "محاكمة 193"، التي بموجبها دخلت التاريخ).
لقد كانت أول أكبر محاكمة سياسية تلقى المشاركون فيها المعمودية الثورية، ولعبوا في وقت لاحق دورا كبيرا في الحركة الثورية. لكن المدعى عليهم لم يشكلوا منظمة واحدة بقيادة مركز واحد.
تحت تأثير الأفكار الباكونينية التي كانت مسيطرة آنذاك على العقول، فقد هجر الشباب المثقف المدارس، وبيت الأهل، وتخلى عن حياته الاعتيادية للذهاب "إلى الشعب"، الذهاب إلى البوادي حيث يزاولون عمل (معلم، ممرض، عامل) مما سمح لهم بالعيش قريبا من الفلاحين، الغارقين منذ قرون في البؤس وفي الاضطهاد، وإيقاظهم نحو الوعي السياسي، لكن كل هذا الحشد من الشباب لم يكن مجمعا في منظمة بالمعنى الحديث للكلمة، بل يتعلق الأمر على الأصح بحركة مرتبطة بمجتمع الأفكار التي سادت بين مثقفي ذلك العصر.
أيضا فإن محاكمة 193، التي تم اصطناعها من طرف الحكومة، لم تبرز للعيان تنظيما ما، بل أفكار ثوريي تلك المرحلة. إن المتحدث البليغ باسم هذه الأفكار والصرامة الثورية تجاه عدو الشعب، كان هو إيبوليت ميشكين.
مر منذ ذلك الحين ما يقرب من نصف قرن، وكثير من الأحداث ذات البعد العالمي وقعت منذ ذلك الحين، وحتى اليوم، بقراءة خطاب ميشكين لا يسع المرء إلا أن يعجب بالشجاعة الثورية المتقدة لميشكين خلال المحاكمة. بدلا من مدعى عليه، رأينا قاضيا مهاب الجانب منددا (واصما بالعار) "القضاة"، اللذين، من أعلى المنصة كانوا يمارسون انتقامهم. على الرغم من المقاومة الشرسة للرئيس، عضو مجلس الشيوخ (جرت المناقشات في جلسة خاصة لمجلس الشيوخ) الذي كان يقاطعه في كل وقت، تمكن ميشكين من عرض جوهر أفكاره.
أراد رئيس المحكمة أن يفرض على ميشكين إطار الاتهام الموجه إليه دون السماح له بالهجوم على الحكومة القيصرية بأي حال من الأحوال، وتحديد الوضع الحقيقي للبلاد وللفلاحين. سعى ميشكين إلى التغلب على هذه العقبات، وإعلام البلاد بأفكار الحركة الثورية، وكشف السياسة الاستبدادية للحكومة، ورسم صورة لمعاناة الشعب. اندلعت معركة مريرة بين المدعى عليه والرئيس، التي كان عليها أن تنتهي بطرد ميشكين وبتعليق الجلسة.
بدأ هذا الصراع من بداية استنطاق ميشكين بالصيغة التقليدية للرئيس:
المدعى عليه ميشكين، أنت متهم بالمشاركة في جمعية سرية غير قانونية بهدف الإطاحة وتغيير، في المستقبل القريب إلى حد ما، النظام السياسي للبلاد.
أجاب ميشكين
أعترف أنني عضو ليس في جمعية غير قانونية، إنما في الحزب الاشتراكي الثوري.
ثم تابع:
نحن جزء من الحزب الاشتراكي الثوري، كثيرون في الوقت الراهن في روسيا، إذا كنا بهذه الكلمة نعني العديد من الناس اللذين يشاركوننا قناعاتنا في الخطوط العريضة، وليس في التفاصيل، ناس، اللذين يوجد بينهم رابطة داخلية، لكن حقيقية تماما، محددة بوحدة الهدف، وبدرجة أقل أو أكثر، وتوحيد كبير في وسائل الحركة العملية. بعد ذلك، متغلبا على مقاومة الرئيس الذي أوقفه مع كل كلمة، ويحاول أن يبقيه في إطار الاتهام، وصف ميشكين محنة الشعب، استغلاله، وقمعه السياسي، تاريخ الحركات الشعبية، وتشبت بإثبات أن برنامج وتكتيك "الحزب الاشتراكي الثوري" يستجيب بالكامل لتطلعات واحتياجات الشعب.
وفقا للعرف المتبع، فإن لائحة الاتهام المنسوبة إلى المتهمين هي: الهجوم على الدين، نفي العلم، وقد رفض ميشكين بسخط هذه الاتهامات.
في المثل الأعلى للاشتراكي، حيث تحقيقه يمثل الهدف من نشاطي، كما صرح، لا يوجد مجال للعقاب على نشر الأفكار، مهما كانت ضارة، بما في ذلك الأفكار الدينية، للتحول إلى الهرطقة، لمراقبة أو عدم مراعاة الطقوس المنصوص عليها في هذا أو ذاك الاعتراف، الخ ... في كلمة واحدة، لا يوجد مكان للعنف ضد الفكر أو الوعي الفردي.
وفقا لمفهومنا، لا يجب أن يكون هناك قوة، التي تلزم تحت تهديد العقاب، بالكذب ولعب دور المنافق ...
قال الرئيس: "في هذه اللحظة كما في السابق لا أحد يجبرك على الكذب والنفاق، يرجى الامتناع عن هذه التلميحات"،
أجاب ميشكين:
وفقا لقوانيننا المعمول بها، لا أستطيع، مخافة أن أعامل كمجرم حق عام، والتبرؤ من الأرتودوكسية من أجل دين آخر، وبالتالي فالقانون يلزمني بالنفاق.
لم يجد الرئيس شيئا أفضل ليعلن أن المدعى عليه ليس له الحق في انتقاد القوانين القائمة.
من الموقف الغاضب على نحو متزايد للرئيس، الذي أوقف ميشكين في كل جملة، كان من الواضح أنه من غير المجد الاستمرار. كل ما كان يجب أن يقال كان قد قيل، أدركنا هذا، خاصة عندما أدلى ميشكين بتصريح حول التعذيب الذي مورس ضده أثناء الاستنطاق. وصف الرئيس هذا التصريح أنه عار من الصحة، وعندما نسب ميشكين تصريحاته المكتوبة للمدعي العام (وكيل النيابة)، أجاب الرئيس أن هذه مسؤولية مكتب المدعي العام، الذي لا يخضع لاختصاص المحكمة، ثم ألقى ميشكن خطابه الأخير، الذي لم يدعه الدركي إكماله، هاذ هو الخطاب:
بعد العديد من الانقطاعات التي تشرفت بها من قبل الرئيس، لم يتبق لي إلا القيام بتصريح، الذي على الأرجح سيكون الأخير. لقد اكتسبت قناعة نهائية أن رفاقي كانوا على حق عندما رفضوا مسبقا أي تفسير في المحكمة، بفكرة أنه على الرغم من غياب نشر النقاشات، فلن يدعونا تسليط كل الضوء على جوهر الحقيقة. الآن، من الواضح للجميع، أن هنا، لكل كلمة صادقة يغلقون فم المدعى عليه. الآن أستطيع، ولدي كل الحق في التأكيد على أن هذه ليست عدالة، إنما ملهاة، أو حتى ما هو أسوا، أكثر إثارة للاشمئزاز والأكثر خزيا ... (على هذه الكلمات انقض رجال الدرك على ميشكين غالقين فمه بعنف وتمكن من الانتهاء بصوت مكتوم) ... من بيت الدعارة، فهناك، تحت ضغط البؤس تبيع النساء أجسادهن، وهنا القضاة غارقون في العار وفي الخنوع، مدفوعون بإغراء الترقية والمعاملة العالية، ويبيعون حياة الآخرين، و تدعير الحقيقة و العدالة، و هي الأكثر قدسية بالنسبة للإنسانية.
تم أخذ ميشكين بعيدا بقوة كبيرة، اندلعت الضجة في المدرجات، وتم إخلاء القاعة.
وهنا خطاب عامل النسيج بيوتر ألكسييف، الذي ألقاه سنة 1877 (محاكمة ل 50) مشبع بالوعي الطبقي، وليس ذلك المثقف العام الذي يذهب "إلى الشعب" لتحريضه على التمرد، ولا محقق العدالة انتقاما لآلام الشعب، لكن بروليتاري أصيل، الذي استيقظ، وفهم مصالح ومهام طبقته، فغريزته الطبقية تفوقت على الدوغما الشعبوية، التي بدأ بها في محيط صوفيا باردينا، وخلال المحاكمة، رأينا لأول مرة في تاريخ الحركة الثورية، ينتصب بروليتاري واعيا بمصالح طبقته، الذي ضحى بشخصه مقابل معرفة كل أهوال الاستغلال المفرط للرأسمالية الروسية والقمع السياسي القيصري. في المحكمة، أمام قضاة القيصر، انتصب ليس عاملا أفسد عقله الاستغلال، لكن بروليتاري ثوري، الذي دعا أعدائه الطبقيين لتأدية الحساب. لقد وصف بعبارات بسيطة لافتة للنظر وضعية العامل، 17 ساعة عمل يوميا، أجر يومي 40 كوبيك، التي تقتطع منها غرامات بسبب تفاهات، ومن ناحية أخرى، التبليد المعنوي للعمال، والإهانات التي يوجهها لهم المستغلون، اللذين يعاملونهم كوحوش على العموم، وقد صرح:
في ظل الظروف الحالية، وضع العمال في وضعية استحالة تلبية احتياجاتهم الأكثر بساطة. هل لدينا أوقات فراغ لتثقيف أنفسنا؟ هل أعطونا نحن الفقراء أي تعليم في طفولتنا؟ نحن نفتقر لكتب ضرورية ومتاحة للعامل، أين، وماذا يمكن أن يتعلم؟ افحصوا الأدب الشعبي الروسي. لا شيء أكثر إثارة للاشمئزاز من كتب نصدرها عندنا ليستخدمها الشعب: كتب مثل بوفا كرولفتش، يروسلان لازارفيتش، فانكا كاين، العريس في الفنكري، والعروسة في حساء الملفوف (حكايا شعبية تافهة جدا) (2)، الخ.
هذا هو السبب، الذي جعل الشعب العمالي تتشكل لديه مفاهيم غريبة حول القراءة: "الكتب إما مسلية أو تعبدية"، هذا هو الواقع، والحكومة مخطئة في الاعتقاد أن العمال لا يدركون ذلك. ألا نرى أن كل من حولنا يغتني ويستمتع على حسابنا؟ هل نحن من الغباء حتى لا نفهم أنهم يدفعون لنا أجرا ضعيفا، وأين تذهب ثمرة أحزاننا؟ البعض دون أن يعملوا يعيشون في البذخ والغنى ... والشعب العامل بالرغم من تركه في الحالة البدائية وحرمانه من أي تعليم، ينظر إلى كل هذا باعتباره شرا عابرا، والحكومة كما النظام السياسي مغتصب مؤقتا بالقوة. ما هي نتيجة الوضع؟ يعتقد ألكسييف أنه يجب قبل كل شيء الإطاحة بالأوتوقراطية، التي تدافع عن الرأسماليين. إن فكرة ألكسييف هذه كانت ابتكارا جريئا في زمن تهيمن فيه الباكونينية، التي رفضت، باعتباره غير مجدي، النضال من أجل الحرية السياسية، لقد بشر بالثورة الاجتماعية.
إن شعب روسيا العامل – كما أنهى خطابه – ليس عليه أن يعتمد إلا على قدراته الخاصة.
هو لا يتوقع مساعدة من أي أحد باستثناء الشباب المثقف ... (هتف الرئيس "إخرس". بيير ألكسييف يرفع صوته). ونير الاستبداد المحمي وحراب الجنود سيتم كسرها ...
وفقا للمحامي الذي آزر المدعى عليه، فإن خطاب بيوتر ألكسييف أحدث على الجمهور، وحتى على حراس المتهم، انطباعا قويا جدا، حتى أنهم تقريبا كلهم ظلوا مذهولين، وقد صرح المحامي قائلا، "لو كان بيوتر ألكسييف قد اتجه نحو باب الخروج، لم يكن أحد ليوقفه، فقد فقد الجميع عقله".
لقد تم نشر خطاب بيوتر ألكسييف خلال عقود في آلاف النسخ كأفضل كتيب للتحريض.
من ثوريي سنوات السبعينات، ورث البلاشفة الشجاعة والصرامة الثورية، فخلال المحاكمات، بعيدا عن "تقديم تبريرات"، كانوا يهاجمون، لكنهم ابتكروا أيضا فيما يتصل بالوضع السياسي، الذي أصبح أكثر تعقيدا في روسيا حوالي سنة 1900، فلم يعد كافيا جلد النظام الحكومي، والاستغلال الرأسمالي في روسيا في المحاكم، بل كان من الضروري نشر في العلن برنامج وتكتيك الأحزاب الثورية السياسية الأخرى. لقد وضعت لوائح الاتهام وخطابات المدعين العامين في نفس السلة جميع الأحزاب، التي طبق عليها نفس قانون العقوبات، التي تتعامل مع تلك "التي تميل إلى الإطاحة بالنظام القائم في المستقبل القريب تقريبا". بالنسبة للمدعي العام، فالبلاشفة والاشتراكيون الثوريون والمناشفة كلهم "مجرمين" من نفس النوع الخطير بهذه الدرجة أو تلك، كان الفرق إلى حد ما كميا، وقد عقد هذا بشكل ملحوظ مهمة البلشفي أثناء المحاكمة، فاتخذت مرافعته طابع الخطاب السياسي، حيث عليه أن يعلن بوضوح عن برنامجه وتكتيكه والأهداف السياسية الحالية للحزب.
ما كان يطلب من البلشفي خلال المحاكمة لم يكن خطاباته البليغة، بل لوحة رصينة ودقيقة لاتجاهات الحزب. إن هذه السمة الجوهرية هي التي تميز البلاشفة، حيث تبرز هذه الخصوصية بأكبر قدر من التمظهر عشية الثورة الأولى، وكمثال لهذه الظروف، سوف نقوم بإعادة إنتاج مقاطع من خطابين:
أحدهما ل ليون غولدمان التابع لمجموعة الإسكرا والمشارك في قضية المطبعة السرية لكشينيف، وآخر ل بوجدان كنونيانز الذي ألقي في محاكمة لجنة الحزب البلشفي في موسكو (1904).
في سنة 1901، اكتشف عملاء الأوخرانا في كيشينيف المطبعة السرية لمجموعة الاشتراكي الديموقراطي إسكرا، التي كان من المقرر أن يعطي جناحها اليساري في وقت لاحق ولادة الحزب البلشفي. في المطبعة وضع البوليس اليد على مجموعة من مناضلي الاشتراكي الديموقراطي، كان على رأسها ليون غولدمان، بعد التحقيق القضائي لمدة عامين، التي خلالها تعرض المتهمون للحبس الانفرادي، جاءت القضية أمام محكمة ممثلي الهيئات، وجرت المناقشات خلف أبواب مغلقة.
وفقا للممارسة المتبعة، أعادت لائحة الاتهام "الجريمة" إلى "التمرد" ضد السلطة العليا، ومن وجهة النظر هذه، تم توصيف الأعمال الأدبية التي تم ضبطها أثناء تفتيش المطبعة. كان عملاء عاجزون لحكومة قيصرية عاجزة أقل اهتماما بتحليل الحركة الثورية من التطبيق على حالة معينة مثل هذه المادة من القانون، الذي يحدد تاريخ سجن طويل، أو الترحيل إلى سيبيريا الشرقية الخ ...
من البديهي، بالتالي، أن الحركة الثورية بأكملها في روسيا، افترضت في تفسير المدعي العام لونا واحدا يعترف ببعض الفروق الطفيفة، وليس بطابع هذا الحزب الثوري أو ذاك، ولكن بدرجة "جرم" الثوريين اللذين تم رميهم على مقعد متهمين تم القبض عليهم بالصدفة. في هذه الظروف، كانت مهمة المناضل الاشتراكي الديموقراطي، البلشفي لاحقا، هي إعادة القضية إلى المحكمة على أساس المبادئ، وجعل البلاد تعرف الطابع الحقيقي لحزبه، صياغة برنامجه وسياسته. باختصار، كان على البلشفي أن يفعل في المحكمة ما فعله في الحياة الحقيقية: نشر أفكار وبرنامج حزبه ودعوة الجماهير للقتال من أجل المطالب المسجلة على رايته. من وجهة النظر هذه أخذ ليون غولدمان مكانه في خطابه.
أعترف، كما صرح، أنني شاركت في أعمال المطبعة السرية في كيشينيف، التي طبعت أعمال الاشتراكي الديموقراطي، لكن فوجئت للغاية عندما علمت من لائحة الاتهام أنني كنت متهما ب "إثارة التمرد"، إنني أرفض رفضا تاما هذا الاتهام، ليس للاشتراكي الديموقراطي شيء مشترك مع أعمال الشغب، أنا منتسب للاشتراكي الديموقراطي للعمال في روسيا.
بعد ذلك، تناول ليون غودمان عرض برنامج وأهداف الاشتراكي الديموقراطي، وتجدر الإشارة، إلى أن موقف ليون غولدمان أمام العدالة، كانت أكثر ملاءمة من أسلافنا لسنوات السبعينات والثمانينات. في هذه المرحلة انتصر الجناح الثوري للاشتراكية الديموقراطية، المتحلق حول إسكرا، حيث لعب لينين دورا قياديا في الصراع ضد العناصر الانتهازية ("الاقتصادوية") داخل الاشتراكية الديموقراطية. في هذا الصراع تم تشكيل العناصر الأساسية للبرنامج والتكتيك للاشتراكية الديموقراطية الثورية، وبالتوازي مع هذه السيرورة الداخلية، كانت هناك سيرورة خارجية: انفصل الحزب عن الشعبوية الجديدة (الحزب الاشتراكي الثوري) وعن الحركة الليبرالية، الشيء الذي تطلب صراعا حاميا، بقيادة مجموعة إسكرا، مع لينين على رأسها. خلال هذا الصراع الذي تم خوضه على عدة جبهات، وضعت الاشتراكية الديموقراطية الثورية عناصر مذهبها، وخلق التيار الذي سيصبح البلشفية في وقت لاحق. كان ليون غولدمان مطلعا على الوثائق بما فيه الكفاية، ليأخذ الكلمة في المحكمة. لقد كانت له إمكانية إظهار برنامج الإسكرا بكل حجمه، وإثبات أنه لم يكن "تمردا" أبدا، بل الثورة، التي ترجع هيمنتها إلى البروليتاريا التي تقودها الاشتراكية الديموقراطية.
قدم خطاب ليون غولدمان جانبا آخر، الذي يميزه عن خطابات سابقينا في المحاكمات السياسية، لقد كان ثوري زمن فجر الثورة الجارية.
صرح غولدمان:
لقد ألقي بنا في قفص الاتهام، لكننا لسنا مجرمين، نحن سجناء حرب، والحكومة تثبت ذلك بكل موقفها تجاهنا ... لقد انتزعتنا الحكومة من الجيش الثوري النشط، بعد أن سلمتنا إلى المحكمة بعد سنتين من السجن الاحتياطي، تحاول تحميلنا مسؤولية الحريق الثوري الذي اندلع في كل روسيا.
لكن أين الحقيقة؟
إن قيامنا بإخراج المناشير والكتيبات في المطبعة السرية التي أنشأناها، أردنا هكذا أن نحتج ضد الصمت القصري، الذي حكمت به الحكومة على البلاد، فقد ذهبنا في طريق الحاجة، التي تراكمت منذ وقت طويل عند الشعب، تلك المتعلقة بالكلمة الحرة، التي يشعر بها بشدة في طبقات واسعة من الشعب ومن المجتمع. وإذا، من وجهة نظر الحكومة الاستبدادية قد ارتكبنا جريمة، فالمسؤولية عن هذا لا تقع علينا وحدنا، ولكن على جزء كبير من سكان روسيا بما في ذلك نحن، اللذين نفذنا الإرادة. لكن شعبا بأكمله لا يستطيع ارتكاب جريمة. إن إرادة الشعب هي قانون، وإذا أرادت حكومة أن تحكم على شعب، معنى ذلك أن الساعة قد دقت، حيث على الشعب أن يضع الحكومة في قفص الاتهام. بعد أن أعلنت الحكومة أن روسيا تقريبا في حالة مراقبة مشددة، فبهذا، فإن الحكومة أعلنت أن كل المواطنين مشبوهين بموجب التقرير السياسي، وكل المشتبه بهم، أي كل أولئك اللذين وضعوا في حس الواجب المدني من خلال الخضوع الذليل عليهم أن ينضموا إلى الحركة الثورية، ويلتحقوا بصفوف المقاتلين من أجل تحرير روسيا من نير البيروقراطية، التي تبني رفاهها على سيول دم الشعب. هذا ما فعلته كمواطن مخلص لوطني، لقد تبنيت قضية هذا الجيش من المقاتلين. لهذه القضية المقدسة أعطيت كل قوتي وكل ما لدي من ملكات.

***

وحده المتحدث باسم حزب، كانت الطرق وآفاق الثورة مسطرة لديه بوضوح، فالحزب الذي قاد الجماهير نحو النضال ونحو النصر بإمكانه استعمال مثل هذه اللغة.
إن الخطاب اللافت للنظر من حيث الرصانة والاختراق للبلشفي بوجدان كنونيانز هو علامة على الثورة الصاعدة.
جرت المحاكمة في 30 مارس 1905، على الطراز القديم، بمعنى بعد أحداث 9 يناير.
أثناء إلقاء القبض على بوجدان كنونيانز، وجد عنده مخطوط لمنشور عليه توقيع "لجنة موسكو للحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي لروسيا"، وكانت هذه التهمة "القانونية" الوحيدة ضده. لو كان بوغدان كنونيانز قد وضع نفسه في وجهة نظر دفاعه القضائي لن يكون لديه الكثير من المتاعب نظرا لهشاشة "الأدلة"، لإبطال تجريم الانتماء إلى لجنة موسكو والحصول على البراءة. يجب الأخذ بعين الاعتبار الفوضى التي سيطرت على عملاء الحكومة القيصرية بعد 9 يناير، لكنه لم يلتزم بهذا الطريق، فهو كثوري وبلشفي، قد قرر استخدام قاعة المحكمة من أجل قضية حزبه.
عندما يكون رئيس المحكمة قد قرأ أمر وزير العدل آمرا بالجلسة المغلقة، وأنه أجاب على سؤال كنونياز بالنفي: "هل يمكن للمحكمة أن تتجاوز هذا المرسوم؟" أدلى بوجدان كنونياز بالتصريح التالي:
إن الجلسة المغلقة تجعل من المستحيل السيطرة على الرأي العام، وحده القاضي في النزاع بين الثوريين والحكومة، أعتبر من غير المجدي مشاركتي في مناقشات المحكمة، وأحذركم أنني لن أجيب على الأسئلة. أحتفظ بالحق في النطق بآخر كلمة، مؤمنا بواجبي الثوري باستغلال جميع الظروف التي تتقدم أمامي لنشر أفكاري.
لم تفشل تجربة الحركة الثورية في ممارسة تأثيرها على المدعين العامين للقيصر. في محاكمة بوغدان كنونياز، تسلم المدعي العام لائحة اتهام مبنية بشكل جيد إلى حد ما. لقد حدد المظهر السياسي للحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي لروسيا، بين طبيعته الأممية، التشابه الجزئي لبرنامجه ومفاهيمه النظرية مع الأحزاب الاشتراكية في الغرب، وأهدافه الاشتراكية، حيث الثورة الاجتماعية مدعوة لتحقيقها. لكن الاشتراكية الديموقراطية الروسية، بخلاف الاشتراكية الديموقراطية الغربية، التي انخرطت في التحريض والدعاية السلميتين لأفكارها، تدعو، وفقا للمدعي العام، العمال إلى مضاعفة أعمال الشغب وعنف الجماهير. بالنسبة للمدعي العام، فهي إذن استئناف لحركة بوغاتشيف (ثائر روسي شهير في القرن 18، قاد حركة واسعة موجهة ضد الأسياد والأوتوقراطية، تم قطع رأسه سنة 1775) المثيرة للفتنة.
في تحليله لخصائص الاشتراكية الديموقراطية، الذي قدمه المدعي العام، صرح كنونيانز:
كان (المدعي العام) على حق تماما، في قوله، أن برنامجنا ومجموع مفاهيمنا النظرية تحمل طابعا أمميا، وترجع جدورها إلى مؤسسي الاشتراكية الأممية ماركس و انجلز. لقد أشار بحكمة إلى هدفنا الأساسي، الاشتراكية والطريق الوحيدة لتحقيقها هي الثورة الاجتماعية، التي إليها يقود، حسب قناعتنا العميقة كل تطورنا الاقتصادي. لدينا اليقين أنه لا الإصلاحات الخاصة ولا التحسينات الجزئية، ستؤدي في النظام البورجوازي، بالبروليتاريا إلى الاشتراكية، لكن صراعا لا يرحم ضد قاعدة هذا النظام وملكية وسائل العمل، و وحده انتقال هذين الأخيرين إلى أيدي الشعب سيضع حدا لاستغلال شرائح اجتماعية لأخرى. إن دكتاتورية البروليتاريا والاستيلاء على السلطة السياسية من قبل الطبقة العاملة هو الشرط الذي لا غنى عنه لذلك.
في الوقت الذي جرت فيه نقاشات قضية كنونيانز، كانت الحياة السياسية تغلي في روسيا. إن فشل القيصرية في الحرب الروسية – اليابانية، وتنامي حركة العمال بعد أحداث 9 يناير، وتقدم حركة الفلاحين، وزيادة كثافة حركة الليبرالية البورجوازية، كل هذا أحبط معنويات الحكومة الأوتوقراطية، التي ماجت بها الأرض تحت الأقدام. داخل القيصرية، كانت قد اهتزت ثقة نفس الأمس، كانت الثورة تقترب من الوحش الذي ستخنقه. لقد رسم خطاب كنونيانز لوحة صارخة ومخلصة لتلك المرحلة.
قال أن السيد المدعي العام، يصر بحماس خاص على الأسطر الأخيرة من المنشور، الذي يحتوي على نداءات، و هذا التعجب:
"فلتسقط الأوتوقراطية" لكن هل يوجد في بلدنا رجل صادق لا يدرك أنه، فقط إلغاء الأوتوقراطية الكفيلة بإخراج بلادنا من المأزق، الذي أدت إليه السياسة الجشعة للبيروقراطية وإعطاء زخم لتطوير قواها الثقافية ...
بعد العمل البطولي لبروليتاريا بترسبورغ، بعد الإضرابات الثورية، التي اجتاحت البلاد كلها، بعد إضراب الاحتجاج بالإجماع لطلبة كل المدارس الكبرى في البلاد، بعد الاضطرابات الفلاحية، التي لم تعد تتوقف، وأخيرا، بعد الحركة التي مست طبقات اجتماعية كانت خاملة سابقا من المجتمع المستنير، ليس سرا لأحد أن الأرستقراطية ترسم نهايتها. في غضون شهر أو شهرين، سوف تجرف الموجة المخيفة للثورة الشعبية هذا البقاء على قيد الحياة لماضينا الهمجي بصفة نهائية. وبالتالي أيها القضاة، أليست هذه المحاكمة هراء؟ إذا كنتم منسجمين مع أنفسكم كان عليكم أن تضعوا كل الشعب الروسي في قفص الاتهام، لكن بعد ذلك، هل نعرف من سيكون القاضي ومن سيكون المتهم.
إن نظامنا القضائي ليس متأكدا بأن أحكامه قابلة للتنفيذ، وأن كل أعماله ليست إهدارا محضا للوقت، لنأخذ على سبيل المثال المحاكمة الحالية، بموجب البنود 126 و129، التي يطبقها المدعي العام في حالتي، يجب أن أعاقب بثمان سنوات من الأشغال الشاقة أو الترحيل مدى الحياة إلى سيبيريا، لكن أليس من السخافة أيها السادة القضاة الحديث اليوم عن مثل هذه العقوبات، هل هناك شخص من بينكم يعتقد بجدية أن الاستبداد سيظل كذلك، لن أقول ثمان سنوات، لكن سنة أو سنتين؟ ألا يجب أن يكون مثار سخرية المطالبة بالترحيل مدى الحياة بينما لا أحد من بينكم متأكد من اليوم التالي؟
إن كل روسيا فريسة غليان، فبين عشية وضحاها لن يبقى هناك حجر على حجر، ولا الحكومة القديمة ولا هذا الخليط من الاعتقالات والأحكام القضائية، وأولئك اللذين ألقيتم بهم اليوم في قفص الاتهام، سيكونون إذن، المناضلين الأكثر نشاطا من شباب روسيا. كيف يمكنكم من ذلك الحين فصاعدا، السادة القضاة، إضاعة وقتكم في اتخاذ قرارات من ورق؟
ربما فهم القضاة وضعيتهم المثيرة للسخرية. وعلى الرغم من خطابه اللاذع والجريء، لم يتم الحكم على كنونيانز سوى بأربعة أشهر سجنا.

***

يبقى الآن أن نقول بعض الكلمات عن دور المحامين خلال محاكمة البلاشفة، ما دام أن البلشفي عوض أن يدافع هاجم، فما جدوى المحامي في هذه الحالة؟ أليس هناك تناقض في ذلك؟
كان المحامي مفيدا جدا في المحاكمات السياسية. أولا، فمن خلاله يستأنف الثوري المعتقل، المعزول منذ فترة طويلة عن العالم الخارجي، الاتصال بالخارج وممثلي حزبه. إن المحامين المتعاطفين مع الحركة الثورية، يقدمون أنفسهم إليها عن طيب خاطر، وقد يسر هذا الاتصال لأن المحامي كان له، سواء في السجن أو أثناء المحاكمة، حرية الوصول إلى المدعى عليه، الذي يمكن التحدث معه بدون شهود. أولئك اللذين كانوا في نظام الحبس الانفرادي، يعرفون نتائج علاقة السجين بالعالم الخارجي، فهي تدعم شجاعة الرفيق المنزوع من الوسط الثوري الفعال، فهو يسمح في بعض الأحيان، بالمشاركة من داخل السجن في الحركة من خلال المراسلات، ومن خلال العمل الأدبي، لقد كانت أحيانا ضرورية للسجين لتهيئ فراره.
من جهة أخرى فهو يقدم للثوري، الذي رمي به في قفص الاتهام، والذي كانت ستتخذ الحكومة ضده إجراءات صارمة في جلسة مغلقة، أن يكون لديه رجل له الحق في التدخل أثناء المحاكمة، يمكنه أخذ الكلمة، وإجبار القضاة على الامتثال للإجراءات، حيث اللوائح المنشورة من طرف الحكومة، انتهكت بشكل منهجي من طرف وكلائها القضائيين عندما يتعلق الأمر بالثوريين. هذه اللوائح، في غالب الأحيان مجهولة عند المتهم، كان من المرجح أن تكشف بسهولة جرائم القيصرية، وتحديد ملامح حزبه.
وأخيرا، بسبب غياب المراقبة العمومية في المحكمة، فمناقشة القضايا السياسية تجري في جلسة مغلقة، والمحامي كان نوعا ما ممثلا للمجتمع، الذي يحمل إلى علم هذه الأخير ما كان يجري خلال المناقشات، وبالتالي لم تنجح الحكومة في حجب الحقيقة عن المجتمع، وإخفاء أسرار الزنزانات القضائية، ولا كل ظروف وتفاصيل المحاكمة. بفضل المحامي، أصبح كل هذا علنيا.
مع ذلك، بدعوة المحامي، فإن البلشفي يفرض عليه سلسلة من الشروط التقييدية.
على المحامي أن يعالج فقط الجانب القانوني من القضية، وليس عليه أن ينخرط في الدفاع السياسي عن موكله، أو الانغماس في تحليل مفاهيم الحزب البلشفي بهدف تبرئة موكله، وتخفيف العقوبة. كانت مهمته متواضعة أكثر خلال التحقيق القضائي، كان عليه أن يخفف من التهم بشكل قانوني، وتكذيب أقوال الشرطة والوشاة، وأن يبين هشاشة التوثيق القضائي. في مرافعته، كان عليه أن يقدم تقييما قانونيا للقضية، وتقويض حجج الخصم في إطار التقرير القانوني. بالطبع كان خطابه لغرض، ليس فقط المساومة القانونية للمحكمة، ولكن أيضا، للحصول على حجة قانونية لتبرئة أو تخفيض العقوبة إلى الحد الأدنى.
أما بالنسبة للجانب السياسي من القضية، فإن الزبون كان يمنح المحامي الحق في المرافعة، برسم صورة الوضع السياسي العام في البلاد، على أساسها قد تنشأ المحاكمة، دون الدخول في تفاصيل مفاهيم الحزب البلشفي. لا يمكن للبلشفي أن يعطي تفويضا لمحامي دون حزب، أو ينتمي لحزب آخر، بأن يتحدث باسم الحزب البلشفي. هذه المهمة كان يضطلع بها البلشفي المحتجز.
إن التحفظات المفروضة على دور المحامي السياسي، تظهر بوضوح ودقة كافيين، من رد لينين (الذي نضعه كملحق في نهاية هذه الكراسة) الموجه الى الرفيقة ستاسوفا وإلى بلاشفة موسكو المسجونين ردا على طلبهم الحصول على معلومات حول الموقف الذي يجب الالتزام به في الاستنطاقات والمحاكم.

مـــلـــحـــق 1
رسالة الى ي . د . ستاسوفا والرفاق الآخرين فى سجن موسكو ف.
إ. لينين 19 يناير، 1905.
الأصدقاء الأعزاء

لقد تلقيت استفساركم بشأن التاكتيكات التي يتعين علينا اتباعها فى المحكمة (التي تضمنتها رسالة ابسوليوت (3) ومذكرة "تقرير حرفي" من خلال شخص غير معروف). يكتب ابسوليوت عن وجهتي نظر مطروحتان، وسأحاول إعادة بناءهما على النحو التالي:
(1) رفض الاعتراف بالمحكمة ومقاطعتها تماما.
(2) رفض الاعتراف بالمحكمة وعدم الاشتراك في اجراءات المحاكمة، وتوظيف محام على أن يكون هناك تفاهم معه بأنه سيتحدث حصرا عن افتقار المحكمة لسلطتها الولائية من وجهة نظر القانون المجرد. ويعلن في المرافعة الختامية للدفاع عن برنامجه ونظرته للعالم (4) profession de foi ويطلب محاكمته بواسطة محلفين.
(3) ينطبق نفس الشيء على مرافعة المدعى عليه الأخيرة. استخدام المحاكمة كوسيلة للتحريض، ولهذا الغرض، الاشتراك في اجراءات المحكمة بمساعدة مستشار قانوني، لإظهار عدم قانونية المحاكمة وحتى بطلب استدعاء للشهود (تقديم الاعذار والدفوع، الخ)
ويبقى هذا السؤال بعد: هل يجب أن تقول فقط أنك اشتراكي ديموقراطي من الناحية العقيدية، ام ينبغي ان تعترف بأنك عضو فى حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي؟
لقد كتبت بأننا بحاجة لكراس حول هذه المسألة. لا أعتقد أنه من المنصوح به إصدار كراس فورا دون أن يكون لدينا أي خبرة نهتدى بها. وربما نذكر ذلك في الصحافة حين تواتينا الفرصة. ربما يكتب لنا أحد ممن هم في السجن مقالة قصيرة للجريدة (من 5000 إلى 8000 حرف)؟ أظن أن هذه هي أفضل طريقة لبدء مناقشة.
أنا شخصيا، لم أكون رأيا محددا، ومن ناحيتي، أفضل قبل أن ألزم نفسي، أن أناقش الأمر بالتفصيل مع الرفاق الموجودين في السجن، أو ممن حوكموا. وحتى نبدأ النقاش فسوف أطرح أفكاري الخاصة حول الموضوع. يعتمد الكثير على نوع المحاكمة التي ستجري، أي، ما إذا كانت هناك إمكانية استغلالها لأغراض التحريض أم لا. في الحالة الأولى، سياسة رقم 1 لن تكون مناسبة، في الحالة الثانية، تكون ملائمة، ولكن بعد احتجاج وبيان صريح محدد وحيوي. على أية حال، إذا كانت هناك فرصة لاستغلال المحاكمة لأغراض تحريضية، فتكون رقم 3 هي السياسة المحبذة. إن إعلان البرنامج والنظرة للعالم أمر مرغوب فيه للغاية بصفة عامة، وأظن أنه مفيد جدا، وفى معظم الحالات يمكن أن يكون له أثر تحريضي، خاصة حينما تكون الحكومة قد بدأت في استغلال المحاكم، فيمكن للاشتراكيين الديموقراطيين أن يتكلموا جهرا عن البرنامج الاشتراكي الديموقراطي والتاكتيكات. يتبنى البعض الرأي القائل بأنه ليس من المنصوح به أن يعلن المرء أنه عضو في الحزب، وخصوصا في أي منظمة محددة، وأن من الأفضل أن يعلن أنه اشتراكي ديموقراطي من الناحية العقيدية ويقصر تصريحه على ذلك. وأعتقد أن ارتباطات المرء (التنظيمية - المترجم) لابد أن تستبعد تماما من الخطاب، أي أنه يجب أن يقول: لأسباب معلومة لن أتحدث عن ارتباطاتي، لكنني اشتراكي ديموقراطي وسوف أتحدث عن حزبنا. صياغة كهذه لها ميزتان: أنها تعلن مباشرة وبشكل محدد أنه لن يتحدث عن ارتباطاته (أي، ما إذا كان ينتمي لمنظمة، وإن كان ينتمي فلأى منها، بينما يتحدث في ذات الوقت عن الحزب. هذا ضروري حتى يمكن للحزب أن ينتفع من الدعاية. بمعنى آخر، أنحي ارتباطاتي الرسمية، وأتجاهلها في صمت، لا أتحدث رسميا باسم أي منظمة أيا ما كانت، ولكن كاشتراكي ديموقراطي أتحدث للمحكمة عن حزبنا وأطلب منها أن تقبل تصريحاتي كمسعى لعرض وجهات نظر الاشتراكية الديموقراطية تحديدا، التي أعلنت في كل أدبنا الاشتراكي الديموقراطي في هذه الكراسات أو تلك، أو المنشورات والجرائد.
بالنسبة للمحامين، يجب أن يسيطر على المحامين جيدا ويلزموا باحتذاء الخط، لأنه ما من شيء يعبر عن الخدع القذرة التي يمكن أن تقوم بها تلك الحثالة المثقفة. يجب أن يجرى تحذيرهم مقدما: انظر، أيها الوغد البغيض، إذا ماسمحت لنفسك بأقل خطأ أو بأي انتهازية سياسية (إذا تحدثت عن الاشتراكية بوصفها شيئا غير ناضج أو خاطئ فكريا، أو بوصفها فتنة، أو إذا قلت أن الاشتراكيين الديموقراطيين يرفضون استخدام العنف، أو إذا تحدثت عن تعاليمهم وحركتهم بوصفها حركة سلمية، الخ، أو أي شيء من هذا النوع) عندئذ أنا المدعى عليه سوف أخلعك علنا في التو واللحظة، وسأسميك نذلا، وأعلن أنني أرفض دفاعا كهذا، الخ. ويجب أن تنفذ هذه التهديدات. يجب توكيل المحامين النبهاء، ولا نحتاج غيرهم. يجب أن يقال لهم مسبقا: اقصروا أنفسكم على النقد و "نصب الشراك" للشهود والمدعي العام حول وقائع القضية، وإثبات تلفيق التهم الباطلة، أقصر نفسك بشكل حصري على التشهير بالإجراءات التي تشبه محاكمة شيمياكين (5) حتى المحامي الليبرالي الذكي يميل بشدة لأن يذكر أو يلمح إلى الطبيعة السلمية للحركة الاشتراكية الديموقراطية، والاعتراف بنفوذها الثقافي من قبل أناس مثل أدولف فاجنر، الخ. لابد من القضاء على هذه المحاولات في المهد، المحامون، كما قال بيبل، فيما أعتقد، هم أشد الناس رجعية. ولابد للإسكافي من أن يلزم قالب الحذاء. كن محاميا فقط، اسخر من شهود الدولة والمدعي العام، وأقصى حد، أن تجرى مقارنة بين محاكمة كهذه ومحاكمة محلفين في بلد حر، ولكن دع عقائد المدعى عليه جانبا، لا تجرؤ حتى ان تذكر ما تظنه أنت فى اعتقاده وتصرفاته. ولك، أيها الليبرالي المحصوب، أنت تملك فهما محدودا لهذه المعتقدات، فحتى إذا مدحتها فلن تكون قادرا على تفادي قول شيء تافه. بالطبع، كل هذا لا نحتاج لتفسيره لمحام من نمط سوباكيفيش (6) يمكن القيام بذلك بلطف، وبراعة، وحذر. وما يزال، من الأفضل أن نكون حذرين من المحامين وألا نثق فيهم، خاصة إذا قالوا إنهم اشتراكيون ديموقراطيون وأعضاء في الحزب (كما حددتها المادة الأولى في لائحتنا!)
تعتمد مسألة الاشتراك في إجراءات المحكمة، فيما يبدو لي، على مسألة المحامي، يعنى توكيل مستشار الاشتراك في إجراءات المحاكمة، ولم لا نشترك لكي نفضح الشهود ونحرض ضد المحكمة؟ بالطبع، غني عن القول، انه لابد أن يكون المرء في غاية الحذر حتى لا ينزلق إلى إبداء دفاع غير لائق. من الأفضل الإعلان فورا، قبل إبداء الإفادة، عند الإجابة على الأسئلة الأولى لرئيس المحكمة: إنني اشتراكي ديموقراطي، وفى خطابي للمحكمة، سوف أوضح ماذا يعنى هذا؟ في كل حالة، تعتمد مسألة الاشتراك في الإجراءات من عدمه كلية على الظروف. دعنا نفترض أنه ثبت أنك مذنب، وأن الشهود يقولون الحقيقة، وأن الاتهام بكامله يقوم على دليل وثائقي لا يدحض، في تلك الحالة قد لا يكون من المفيد الاشتراك في إجراءات المحكمة، ولابد من تركيز كل الانتباه على إعلان المبادئ. إذا ما كانت الوقائع مشكوك فيها على أية حال، وإذا ما كان شهود الشرطة مشوشون ويكذبون، ويستحق الاهتمام ألا نضيع فرصة دعاية بعرض القضية بوصفها قضية ملفقة. ويعتمد الكثير أيضا على المدعى عليهم، ما إذا كانوا متعبين للغاية، مرضى، منهارون، وإذا لم يكن بينهم واحد ذو خبرة في "المرافعة" والمشادات الكلامية، ربما يكون إذن، الأكثر ملاءمة رفض الاشتراك في الإجراءات، وعمل تصريح بهذا المعنى، والتركيز على إعلان المبادئ، ومن المرغوب فيه أن يتم إعداده مسبقا. مهما تكن الظروف، فالخطاب حول المبادئ، والبرنامج، وتاكتيكات الحزب الاشتراكي الديموقراطي حول الحركة العمالية، حول الأهداف الاشتراكية، وحول الانتفاضة، هي من أشد الأشياء أهمية.
فى الختام، أكرر مرة أخرى، أن هذه هي تأملاتي الأولى، التي يجب ألا تعتبر على الأقل كمحاولة لحل المشكلة. لابد أن ننتظر حتى تقدم لنا التجربة مؤشرات معينة. وبينما نراكم هذه الخبرة فإن الرفاق، في أغلب الحالات، لابد أن ترشدهم اعتبارات الظروف العينية وغريزتهم الثورية.
أحر تحياتي إلى كورز، روبين، باومان، وكل الأصدقاء الآخرين. لقد انتهينا أخيرا من المشاغبين. تخلصنا من تاكتيكات التراجع، ونحن نهجم الآن، وقد بدأت اللجان في روسيا أيضا في الانفصال عن مشوشي التنظيم. وقد أسسنا جريدة لنا، ولدينا مركزنا العملي (المكتب)، وقد ظهر عددان من الجريدة، وقريبا (23 يناير، 1905 من التقويم الجديد) سوف يصدر العدد الثالث، ونأمل أن نطبعها أسبوعيا. تمنياتي لكم بالصحة والسعادة! سوف نلتقي ثانية، إنني متيقن من ذلك، وسوف نواصل نضالنا في ظروف أفضل مما في وسط التشاجر والتشاحن الذي نعاينه هنا، وفق طريقة مؤتمر الوحدة.

-----------------------
العنوان الاصلي للمقال : الى ي . د . ستاسوفا والرفاق الآخرين في سجن موسكو، لينين، الاعمال الكاملة، المجلد الثامن، ص 66 -70 – دار النشر باللغات الاجنبية، 1962، موسكو (الطبعة الانجليزية) – الارشيف الماركسي على الانترنت.
ترجمة : س.ع
مـــلـــحـــق 2
هل يجب على القادة البلاشفة أن يمثلوا أمام المحاكم (7)
لينين
تم تحريرها يوم 21 (8) يوليوز 1917، وتم نشرها لأول مرة سنة 1925 في العدد الأول من مجلة بروليتارسكايا ريفواوتسيا. مطابقة للمخطوط، الأعمال، مجلد 25، ص ص187 – 188، باريس – موسكو
ترجمة علياء نجمي

إذا حللنا الأمور بالاعتماد على النقاشات الخاصة، يظهر أن هناك رأيان في هذا الموضوع، فالرفاق اللذين يتأثرون بمناخ السوفياتات يميلون غالبا إلى الرأي القائل بالمثول، وهناك آخرون أكثر ارتباطا بالجماهير العمالية، يميلون على ما يظهر، نحو الرأي القائل بعدم المثول.
من وجهة نظر المبادئ، يعود المشكل، بشكل أساسي إلى تقدير ما يمكن أن نسميه بالأوهام الدستورية. إذا قبلنا أن روسيا الحالية كان لها، ويمكن أن تكون لها حكومة منتظمة وعدالة منتظمة، وأن استدعاء الجمعية الوطنية محتمل، هنا يمكننا أن نخلص إلى موقف لصالح المثول، لكن هذا الرأي خاطئ في عمقه، فالأحداث التي جرت منذ 4 يوليوز، أظهرت بشكل واضح، وبشكل مفروغ منه، أن اجتماع الجمعية التأسيسية غير محتمل (ماعدا في حالة ثورة جديدة) ولن يكون، ولا يمكن أن يكون (في هذه اللحظة) في روسيا، لا حكومة منتظمة ولا محاكم منتظمة.
تعد المحاكم أجهزة السلطة، وإن الليبراليين ينسون هذا في بعض الأحيان، لكن الماركسي ليس له الحق في نسيان ذلك. أين السلطة، ومن يمارسها؟ ليس لدينا حكومة، فالحكومة تتغير كل يوم لأنها ثابتة في اللانشاط، من يعمل هو الدكتاتورية العسكرية، فمن المضحك الحديث عن المحاكمة، إن الأمر لا يتعلق ب "محاكمة"، بل بحلقة من الحرب الأهلية، هنا السبب في كون أنصار المثول أمام المحاكم خاطئون وهم لا يريدون الفهم.
إن بريفورزيف و أليكسينسكي هما المدافعان عن فكرة المحاكمة!! أليس الأمر مضحكا عندما نتكلم عن المحاكمة؟ أليس من السذاجة تصديق أن محكمة كيفما كانت، بإمكانها، في ظل هذه الظروف معالجة قضية والقيام بتحقيق؟؟
إن الدكتاتورية العسكرية هي من يقبض عل السلطة، وباستثناء، في حالة ثورة جديدة، هذه السلطة ستتعزز خلال وقت معين، على الأقل خلال مدة الحرب.
"لم أقم بأي شيء مناقض للقانون، إن المحكمة منصفة، ستوضح كل شيء، المناقشات ستكون عمومية، سيفهم الشعب، سأمثل".
إن هذا التحليل ذو سذاجة خطيرة، فما تحتاجه السلطة، ليس محاكمة، بل اضطهاد الأمميين، الإغلاق عليهم وجعلهم تحت الحراسة، هذا ما يحتاجه السيد كرينسكي وأمثاله، لقد كان الأمر كذلك (في انجلترا وفرنسا) وسيكون كذلك في (روسيا)، فعلى الأمميين أن يعملوا بطريقة لا قانونية على قدر قواهم، لكن عليهم ألا يسقطوا في بلادة المثول الإرادي أمام المحاكم!

ترجمة علياء نجمي
ــــ ــــ ــــ
الهوامش
1 ــ زوباتوف: رئيس سابق للبوليس السياسي في موسكو، منشئ و "مؤسس الاشتراكية البوليسية المعروفة بالاشتراكية على طريقة زوباتوف. بدعم من الحكومة القيصرية وجهاز الأوخرانا، أنشأ زوباتوف حوالي 1890-1905، مجموعة من المنظمات العمالية يقودها عملاء الشرطة السياسية وهدفها محاربة الحركة العمالية الثورية التي عرفت في هذه الفترة اتساعا معتبرا.
كانت أرضية هذه المنظمات التي تقوم باستقطاب العمال المتخلفين سياسيا غير الواعين، والذين لم يقطعوا بعد كل الروابط مع البادية، تنبني على ما يلي:
-الثورة و"الحريات" السياسية شيء ضروري للمثقفين، بينما ما يحتاجه العمال هو تحسين أوضاعهم المادية، والحال أن هذا ممكن في إطار الأوتوقراطية القادرة على الدفاع على مصالح العمال.
- من أجل تعزيز شعبيته وسط الجماهير العمالية، كان زوباتوف وعملاءه مضطرون إلى تنظيم الإضرابات الشيء الذي تسبب له في نزاعات مع البورجوازية الكبيرة التي كانت ترفض تأدية حساب التجارب البوليسية.
في هذه النزاعات، أصيب نظام زوباتوف بالاختراق الأول (الثقب). لكن الهزيمة النهائية ستصيبه عشية الثورة الأولى حيث كوادر منظمات زوباتوف لم تستطع مقاومة هجوم الحركة الثورية الطبقية للبروليتاريا، وكذلك أصبحت هذه المنظمات تخدم موضوعيا الثورة. لقد كانت" الغابونياد" * نشيد البجع لنظام زوباتوف. بعد 9 يناير، تبددت أوهام الاشتراكية البوليسية. كان زوباتوف يسعى إلى نشر مذهبه بين الثوريين الذين سقطوا في يديه.
* غابونياد، من غابون، عميل مستفز شهير، قاد الحركة العمالية يوم 9 يناير1905، في بترسبورغ (ملاحظة من الناشر).
2 ـــ حكايات شعبية تافهة ومحبطة.
3 ــ اعلان الايمان، البرنامج، وعرض النظرة للعالم – المحرر.
4 ـــ ابسوليوت هو البلشفى ى . د . ستاسوفا.
5 ـــ محاكمة شيمياكين، محاكمة غير عادلة، من عنوان قصة روسية قديمة عن القاضي شمياك.
6 ـــ سوباكيفيش – شخصية في رواية جول "النفوس الميتة"، تقدم نموذج المالك العقاري المتنمر البخيل.
7 ـــ يتعلق الأمر بإمكانية مثول لينين أمام محاكم الحكومة المؤقتة بتهمة التجسس لصالح ألمانيا منذ الأيام الأولى للحرب، فقد بادرت الأوخرانا القيصرية باتهام البلاشفة - اللذين كانوا يبحثون عن تحويل الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية، ومن ثمة يتبنون فكرة هزيمة الحكومة القيصرية- بالخيانة العظمى لصالح ألمانيا (ملاحظة الناشر).
ــــ ـــــ ــــ
هذا النص موجود بصيغة ب.د.ف. ومرفق بمجموعة من الصور على موقع 30 غشت.
http://www.30aout.info








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شرطة نيويورك تعتقل عددا من الطلاب المتظاهرين في جامعة كولومب


.. الشرطة في جورجيا تشتبك مع متظاهرين خرجوا ضد مشروع قانون -الع




.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطيني


.. فاتح مايو 2024 في أفق الحروب الأهلية القادمة




.. اعتداء واعتقالات لطلاب متظاهرين في جامعة نيو مكسيكو