الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة لحظة المغادرة وثقافة لحظة الانبهار

جعفر المظفر

2022 / 11 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


أولئك الذين هاجروا من العراق وظلوا بعيدين عنه لفترة طويلة قد يكونوا أسرى لثقافةٍ أسميتها سابقاً (ثقافة لحظة المغادرة).
كان السيد (س) قد غادر العراق هرباً من جحيم الحروب والحصار والإحتلال وأيضاً سنوات العصف الطائفي يوم كان القتل يجري على الهوية ويوم صار البقاء على قيد الحياة هو الإستثناء وليس القاعدة. وفي مهجره ظل الرجل حبيس اللحظة التي غادر بها العراق غير قادرٍ على نسيان ما رآه أو عايشه فهولا يلتقي سوى برجال من نفس الطائفة, يأكل ويعمل معهم ويتداخل إجتماعياً ويصلي معهم في نفس الجامع أو الحسينية.
بعد مغادرته العراق بعدة سنين اجتاز الناس المحنة الطائفية المرعبة التي عصفت بالبلد والتي دفعته للهجرة. وجد العراقيون فرص التنفس من جديد من خارج حلبة الصراع والمواجهات الطائفية التي كانت تغذيها أحزاب الدين السياسي قبل وصول هذه الأحزاب إلى تحاصصها المُرْضي والمَرَضي.
أما السيد (س) فقد ظل في مهجره الطائفي يعيش (ثقافة لحظة المغادرة). لقد تشكل وعيه ولا وعيه وذاته الشخصية والجمعية من خلال حالة صراع طائفي دامي, وفي مهجره حمل السيد (س) معه أيضاً حشداً من المشاهد التي تؤكد له أن العراق قد دخل مرحلته السريرية البائسة نتيجة تفشي الفساد والسرقة والرشوة والانهيار الاجتماعي والقيمي والبطالة والفقر والعوز ثم انعدمت فيه كل فرص التغيير بعد أن تمزقت وتعطلت الإرادة الشعبية وجرى تغييب المؤسسة العسكرية التي عادة ما كان يخرج من بين صفوفها عسكريو البيان رقم واحد.
ولم يعد السيد (س) قادراً على تصور العراق إلا بهيئة البلد الذي يعيش آخر أيامه وغالباً ما كان يشارك اصحابه القول: ما كو فايدة ! فالعراق في نظرهم قد بات بحكم الميت سريرياً, وقد كان يكفيه تصفح الصور التي تعرض مآلات شارع الرشيد, رئيس شوارع العراق, لكي تنطبع في ذهن (س) ما يؤكد له على ان ذلك الشارع الذي ظل طوال عمره يقطعه يومياً بلا ملل قد صار مكباً للزبالة. وقد عادت الناس إلى عصر الشمعة والفانوس, أما مدنه فقد خرّبت معظمها الحروب المتناوبة, وصار البلد على ابواب الحرب الأهلية, وقد خضعت ثروته النفطية بشكل اساسي للنهب والسرقة. وبالنتيجة لم يعد العراق في نظره سوى خرابة تلعب فيها الضباع والغربان.
بعد عقدين من الزمن, ولسبب ما, قرر (س) أن يقوم بزيارة سريعة إلى العراق طالباً من اصدقائه الدعاء له بسلامة العودة وأن يبرؤه الذمة. لكن ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت أقدامه مدينة بغداد, التي تركها مخربةٌ يعبث فيها اللصوص وأدعياء الدين وعصابات القتل على الهوية, فقد خطفت أنظاره صور مدينة غير تلك التي إحتلت ذاكرته طوال زمن الغربة.
ها هي بغداد تتزين بألوان اللافتات الضوئية لمحلات تجارية تمتد على طول البصر وبينما كان الناس في زمنه يغادرون تلك الشوارع قبل غروب الشمس وكأنهم يهربون من شبح (فرانكشتاين) رأهم يظلون في تلك الشوارع حتى ساعة متأخرة جداً من الليل. والنساء اللواتي كُنّ على أبواب الدخول في عصرهن (القندهاري) أذهله منظرهن وهن يتجَولْن في شارع بغداد ويعملن في مقاهيها ومطاعمها وفنادقها ويشاركن الرجال تدخين النارجيلة, كما وأذهلته بشكل خاص مطاعم بغداد المرمرية ونظافتها ووجباتها العراقية الشهيرة كذلك فعل منظر السيارات الفخمة التي راحت تزيح من ذاكرته صور الفوكس واكن البرازيلي التي إعتاد الناس على تسميتها بـ (وحش الشارع).
وحينما عاد السيد (س) إلى مهجره الغربي بعد زيارته الخاطفة إلى بغداد فقد راح يتحدث لأصحابه عن العراق الجديد الذي لا يشبه مطلقاً العراق الذي هجروه ويدعوهم إلى التخلي عن أحكامهم السابقة التي تأسست على (ثقافة لحظة المغادرة) المثقلة حد التخمة بصور الموت والمعاناة المدمرة ويستبدلوها بأخرى مرمرية زاهية وفاتنة.
في الحقيقة لقد انتقل السيد (س) من النقيض إلى النقيض دون أية استراحةٍ بين النقيضين, فمن (حالة لحظة المغادرة) إلى (حالة لحظة الإنبهار) كلاهما صارا يؤسسان لأحكام خاطئة وإن جرت الأولى عكس الثانية. الأولى كانت قد حرّمت عليه النظر إلى العراق من خارج مساحة الدمار والثانية منعته من رؤية العراق من خارج حدقته المتحجرة على مشهد المطاعم المرمرية ونساء الشيشة والنارجيلة.
لم يعد راغباً برؤية العراق من خارج حالة الانبهار, وهي حالة حرمته من تقديرأن يكون المشهد الذي حسبه تقدماً بمثابة دليل مضاف على قائمة التخلف التي يطول تعداد ووصف مكوناتها.
لقد كان عليه أن يحسب أن الأموال التي شيدت أغلب تلك المطاعم المرمرية والبنايات السكنية والتجارية العالية هي أموال مسروقة أُعيد تبييضها في نشاطات تجارية مضمونة وسريعة الفائدة بدلاً من المساهمة في بناء قاعدة اقتصادية حقيقية تساهم في إعادة بناء الوطن من جديد لا بناء حارات (كلمن إيدو إلو).
وهو لم يلتقي بآلاف العراقيين الذين دخلوا عالم التحشيش بعد أن فقدوا القدرة على مجابهة واقعهم المؤلم. ولا حَسَبَ إنهيار التعليم الذي تضخم عدد جامعاته الأهلية وتحولت إلى مجرد دكاكين تجارية. ولم يكن لديه الوقت الكافي لزيارة مخيمات الهجرة والإطلاع على بؤس ساكنيها ولم يتعرف على حقيقة أن السكون السياسي على السطح يخفي تحت قشرته الهشة عوامل صراع سياسي وميليشياوي قد يتفجر في أية لحظةِ إختلالٍ داخلي أو إقليمي, وإن القوى التي تقاسمت السلطة غير راغبة بالأصل ببناء دولة لذلك فهي غير مهتمة ببناء بنىً تحتيةٍ متماسكة.
في حقيقتها تشكل (ثقافة لحظة المغادرة) حالة انقطاع عن واقعٍ بدأ يتشكل بإتجاهات جديدة, إذ أن هناك أجيالا قد ولدت من خارج المعاناة القديمة. أما الكاتب والإعلامي الذي لا صلة حقيقية له بمعطيات الداخل العراقي المتغيرة فقد يجد نفسه يخاطب جيلاً على أبواب الإنقراض ويكتب بلغة سياسية لم تعد تناسب إدراك المتلقي.
أما (ثقافة لحظة الإنبهار) فهي حالة هروب إلى الأمام قد يكون عقل السيد (س) قد لجأ إليها دفاعاً عن ذات أرهقتها ثقافة لحظة المغادرة وجعلتها تعيد إنتاج نفسها بطريقة سلبية خاطئة.
إنها بمثابة الهروب من النقيض إلى النقيض دون أية استراحة بين النقيضين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية