الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جزيرة كالوبيوك

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 11 / 15
الادب والفن


شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اسكويرو

2 ـ أم اسكويرو

3 ـ دنيس ـ صديق اسكويرو

4 ـ اشلي

5 ـ بيكر ـ أبو اشلي

6 ـ أم اشلي

7 ـ شوشو ـ الساحرة

8 ـ كارمن

9 ـ والد كارمن

10 ـ كالوبيوك ـ وحش أسطوري
" 1 "
ـــــــــــــــــــ
عاد اسكويرو إلى البيت ، قبيل المساء ، كانت أمه كالعادة في سريرها ، وقد بدا عليها الوهن والشيخوخة ، فنظرت إليه ، وقالت : جاءت آشلي إليك .
وتسآل اسكويرو : ماذا أرادت ؟
فردت الأم قائلة : أبوها يريد أن يراك .
ولاذ اسكويرو بالصمت ، فقالت الأم : أبوها رجل طيب ، اذهب إليه ، ولكن لا تتأخر .
فاتجه نحو الباب ، دون أن يتفوه بشيء ، فقالت الأم بصوتها الواهن : سأعد لك طعام العشاء .
فردّ اسكويرو ، وهو يخرج إلى المساء : تعشي أنت ، إنني شبعان .
وذهب اسكويرو إلى بيت أبي آشلي ، وطرق الباب ، وفتحت آشلي له الباب ، فقال لها : جئتني اليوم إلى البيت ، وقالت لي أمي ، إن أباك يريدني .
وابتسمت آشلي له ، وقالت : أردت أن أراك ..
وقاطعها اسكويرو مغالباً ابتسامته : آشلي ..
فقالت آشلي : أبي ينتظرك .
ودخل اسكويرو ، فرحب بيكر ـ أبو آشلي به ، وقال : أهلاً اسكويرو ، تعال اجلس ، أم آشلي شوت هذا المساء سمكة لذيذة ، وأردت أن تتمتع بها معنا .
ونظرت آشلي إليه ، وقالت : اجلس .
وضحك بيكر ، وقال : كن مطيعاً ، قالت لك آشلي اجلس ، فاجلس في الحال .
وجلس اسكويرو مبتسماً وهو يقول : ها أنا أجلس .
وبعد العشاء ، جلسا قرب الموقد ، وجلست آشلي على مقربة منهما ، وانشغلت الأم بتنظيف سفرة الطعام ، ونظر بيكر إلى اسكويرو ، وقال : منذ يومين ، وربما أكثر ، قيل لي إنك لم تخرج للصيد .
ورمق اسكويرو بنظرة خاطفة آشلي ، ثمّ قال : سأخرج غداً ، وأصطاد ما أحتاجه .
وابتسمت آشلي فرحة ، وقال بيكر : أردت فقط أن أطمئن أنك بخير ، وبأنه لا يوجد ما يمنعك من الخروج إلى البحر والصيد مثل الآخرين .
وأطرق اسكويرو رأسه ، ثم قال : اطمئن .
ثم نظر إلى بيكر ، ونهض واقفاً ، وهو يقول : أمي تنتظرني ، عليّ أن أعود إليها .
ونهضت آشلي ، ونهض أبوها بيكر ، وقال : رافقتك السلامة ، سلامي إلى أمك .
وقبل أن يخرج ، وتخرج آشلي في إثره ، هتفت به الأم : اسكويرو ، تحياتي إلى أمك العزيزة .
فردّ اسكويرو قائلاً : أشكرك .
وسار اسكويرو ، وسارت آشلي إلى جانبه ، فالتفت إليها ، وقال : آشلي ..
وقاطعته آشلي قائلة : سأسير معك بعض الطريق ، ثم أعود إلى البيت .
وواصل اسكويرو سيره قائلاً : كما تشائين .
وسارا صامتين تحت سماء لا قمر فيها ، والنجوم تتغامز وتتحاور بأضوائها الخافتة البعيدة ، ورمقت آشلي اسكويرو بنظرة سريعة ، وقالت : اسكويرو ، إنني قلقة بسببك ، حدثني عما يشغلك ..
وابتسمت ، ثم قالت مازحة : حذار أن تكون في حياتك آشلي أخرى .
ونظر اسكويرو إليها ، وقال : تكفيني آشلي خاصتي ..
وبدت آشلي فرحة بكلامه ، لكنها قالت : هناك ما يقلقك ، وأنا أعرف أنك تجعل من الحبة قبة .
فقال اسكويرو : اشلي ، أنا قلق على أمي ، إنها مريضة ، وأخشى .. أن لا تتعافى من هذا المرض .
وقالت آشلي : أمك متقدمة في العمر ، لكن مرضها هين ، وستشفى بالتأكيد .
وتوقف اسكويرو ، محدقاً في آشلي ، ثم قال بصوت منفعل : إنني أخاف عليها ، وسأعمل المستحيل ، وأذهب إلى آخر الدنيا ، من أجل أن ترتاح ، وتتعافى من هذا المرض ، الذي لا يريد أن يرحل .
ولاذت آشلي بالصمت ، وقد شعرت بالقلق من انفعاله الغريب ، فالتفت اسكويرو إليها ، وهو يحاول أن يتمالك نفسه ، وقال لها بصوت متحشرج : أرجوك ، عودي إلى البيت ، يا آشلي .
وهزت آشلي رأسها ، وتراجعت قليلاً ، ثم استدارت ببطء ، ومضت عائدة من حيث أتت ، وهي تقول بصوت خافت : أراك غداً ، يا اسكويرو .
فردّ اسكويرو ، وهو يتابعها بنظره ، حتى غابت في الظلام : رافقتك السلامة .
ورافقتها السلامة ، ورافقته السلامة أيضاً ، حتى وصل إلى بيته ، لكنه طوال هذه الفترة ، التي قضّاها بعيداً عن البيت ، لم تفارقه أمه لحظة واحدة .
وتمنى ، وهو يدخل ، أن يرى أمه نائمة ، مرتاحة ، في سريرها ، لكنه ، وكما لم يتمنّ ، رآها تقف قرب الموقد ، تراقب الإناء الذي تعد فيه الطعام .
وما أن رأته يدخل من الباب ، حتى رفعت الإناء عن نار الموقد ، وخاطبته قائلة ، بصوتها الخافت المتعب : تأخرت ، يا عزيزي ، اسكويرو ، وها أنا أسخن الطعام للمرة الثالثة .
واقترب اسكويرو منها ، وطوقها بذراعيه الشابين المحبين ، وقال لها بلهجة طفولية : قلت لك ، يا أمي ، تعشي أنت ، فأنا شبعان .
ووضعت الأم رأسها على صدره ، وقالت بصوتها الخافت : أنت تعرف ، يا اسكويرو ، أنني لا أستطيع أن آكل وحدي ، مهما كنت جائعة .
وصمتت لحظة ، وهي تبتسم لها : كلْ معي .
فردّ اسكويرو مبتسماً : لقد أكلت ..
وقالت الأم معاتبة : طبعاً أكلت مع آشلي ..
واتسعت ابتسامة اسكويرو ، وقال لها ممازحاً : مع آشلي وأم آشلي وأبو آشلي أيضاً .
وفجأة انقبضت ملامح الأم الشائخة ، وندت عنها شهقة ألم ، فاتسعت عينا اسكويرو قلقاً ، وتسارعت نبضات قلبه ، وقال : أمي ، ما الأمر ؟
فردت أمه على الفور ، وهي تحاول أن تكبت ألمها : لا تخف ، يا بنيّ ، إنني بخير .. إنني ..
وتمتم اسكويرو : لابد أن أسأل الساحرة شوشو
ورغم تألمها الشديد ، تساءلت مرعوبة : شوشو !
فردّ اسكويرو كأنما يحدث نفسه : جاءتني في المنام ، امرأة موشومة ، تضع على عنقها قلائد ضخمة ، وقالت لي ، الحل عندي .
وهمت الأم أن تردّ عليه ، لكنها شهقت ثانية ، وبألم أشدّ ، فحملها اسكويرو بين يديه ، وأسرع بها إلى فراشها ، ودثرها بدثارها الثقيل ، وقال لها : حاولي أن تنامي ، يا أمي ، وستكونين بخير .
وأغمضت الأم عينيها ، وحاولت أن تنام دون جدوى ، وظلت تتململ وتتأوه متألمة متوجعة ، واسكويرو يتألم بل ويتمزق ألماً معها ، ولا يدري ماذا يفعل ليخفف عنها ، وشيئاً فشيئاً راحت أنفاسها تنتظم ، ويخمد جسمها الشائخ المتعب ، واستسلمت للنوم .
وهدأ اسكويرو قليلاً ، لكن ألمه وتوجعه لم يهدآ ، وببطء وهدوء شديدين ، نهض واقفاً ، واتجه إلى فراشه ، وتمدد فيه ، وتدثر بدثاره الثقيل .
لم يغمض عينيه ، رغم تعبه الشديد ، فأمه قد تستيقظ ، وتحتاجه في أية لحظة ، وهو يعرفها ، ستحاول أن تكتم ألمها ، مهما كان شديدا ، لأنها لا تريده أن يتألم ، آه .. لابد أن يفعل شيئاً ، لابدّ أن يبحث عن علاج لمرضها ، الذي طال أمده ، مهما كان الثمن ، لقد فقد أباه ، وهو مازال صغيراً ، ولكن أن يفقد أمه ، وهو في هذا العمر ، فهو الموت المحقق ، ويجب أن ..
وتراخت أجفانه ، التي أثقلها النعاس ، حتى انطبقت تماماً ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .






" 2 "
ـــــــــــــــــ
فزّ اسكويرو خائفاً ، بعد منتصف الليل ، على أنين متوجع ، مكتوم ، لم يعرف مصدره ، أهو من داخل البيت ، أم من الخارج ، من الليل والعتمة ، لعلها الريح الباردة ، التي تأتي من البراري المتجلدة ، أو من جبال الجليد ، أو .. ؟
واعتدل في فراشه ، إنها ليست من الخارج ، وليست من الريح ، أو جبال الجليد ، وإنما هي أمه العجوز المريضة ، فهبّ من فراشه ، وقد طاش عقله ، وأسرع إليها ، وهي في فراشها ، ومال عليها في الضوء الخافت للمصباح ، وهتف : أمي ..
وتوقفت الأم عن الأنين ، دون أن تفتح عينيها ، وبدا له أن الصمت يعم الليل ، والبراري الجليدية ، وجبال الجليد ، وهتف بها ثانية : أمي .. أمي ..
وفتحت أمه عينيها المتعبتين ، وحدقت فيه للحظة ، وبدا وكأنها لا تعي ما يدور حولها ، لكنها تمالكت نفسها ، وقالت بصوت واهن متحشرج : من ! اسكويرو ! ما الأمر ، يا بنيّ ؟
ومدّ اسكويرو يديه ، واحتضن يديها اليابستين المرتعشتين ، ومال على وجهها المتشنج ، وقال بصوت أراده أن يكون هادئاً : سمعتك تأنين ..
وحاولت الأم جهدها أن تتمالك نفسها ، و تبتسم ، وطفت على شفتيها المتصحرتين ما يشبه الابتسامة ، وقالت بصوت واهن : لا .. لا يا بنيّ اسكويرو.. إنني بخير .. ثمّ إنني .. كما ترى .. امرأة عجوز ..
وربت اسكويرو بيديه ، على يديها المتيبستين ، وقال لها : لستِ عجوزاً ، أنتِ أمي ، وستبقين أمي ، أنت مريضة ، نعم ، لكني سأقوم بالمستحيل لتستعيدي صحتك ، وتعودين إليّ أمّاً معافاة .
ومدت الأم يدها ، ولمست وجنته المنداة ، وقالت بصوتها الواهن : بنيّ ، أنت لم تقصر ، أوفيتني حقي ، من المحبة ، والرعاية ، لكن .. هذه هي الحياة .. وعلينا أن نتفهمها .. ونرضى بها .
وصمتت لحظة ، وبدا وكأنها تنظر إلى البعيد ، ثم قالت بصوتها الواهن ، المفعم بالذكرى : عندما كنت أمرض ، وأنا زوجة شابة ، كان أبوك يأتيني بفقمة ، اصطادها من البحر ، ويطعمني من لحمها ، فأشفى تماماً .
وربت اسكويرو على يد أمه المتيبسة ثانية ، وقال متحمساً : لا عليك ، يا أمي ، إذا كان أبي قد رحل ، فإنني موجود إلى جانبك ، أنا سآتيك بفقمة ، ولو من آخر الدنيا ، وسأطعمك من لحمها وستشفين .
وشهقت الأم مرعوبة ، وقد انتبهت إلى أنّ ما قالته ، قد يدفع ابنها إلى ما لا تحمد عقباه ، فتشبثت بيده ، وقالت : لا ، لا يا بنيّ ، لا أريد أية فقمة ، فأنا لا يهمني في هذه الحياة سوى سلامتك .
ونهض اسكويرو ، ووقف صامتاً قرب الموقد ، فتحاملت الأم على نفسها ، واعتدلت قليلاً في فراشها ، وخاطبته قائلة : بنيّ ، الوقت متأخر ، وأنت متعب ، نمْ يا عزيزي ، لعلك ترتاح قليلاً .
فالتفت اسكويرو إليها ، وقد تجمدت ملامحه ، وقال بصوت لا هدوء فيه : نامي أنت ، نامي وارتاحي ، وسأخلد أنا أيضاً للنوم .
وتمددت الأم ببطء وهدوء ، وأغمضت عينيها الغارقتين بالدموع ، وحاولت أن لا يصدر عنها أنّة واحدة ، مهما كان تألمها ، فاتجه اسكويرو إلى فراشه ، وتمدد فيه ، ثم تدثر بدثاره الثقيل .
ومنذ الصباح الباكر ، خرج اسكويرو من البيت ، بعد أن تناول الطعام ، الذي أصرت أمه أن تعده له ، رغم مرضها الشديد ، ومضى إلى صديقه دنيس ، وراح يبحث معه عن أشهر صيادي الفقمات ، من أصدقاء أبيه الراحل ، لعل أحدهم يدله على المكان ، الذي يمكنه فيه من صيد فقمة لأمه ، لكن دون جدوى ، فلا توجد فقمات الآن في الجوار .
وفي الأثناء ، وعند حوالي منتصف النهار ، ظهرت في الكوخ امرأة وسط ، موشومة ، وحول عنقها قلادات ثقيلة ، وفوجئت الأم بظهورها ، رغم أن الباب كان مغلقاً ، فشهقت قائلة : من ؟
فردت المرأة مبتسمة : شوشو ..
وشهقت الأم ثانية : شوشو !
وابتسمت شوشو ابتسامة غامضة ، وقالت بصوت أجش : وهل تخفى شوشو ؟
وتابعت الأم شهقتها : في بيتي ؟
ووقفت شوشو على مقربة من فراش الأم ، وقالت وما زالت ابتسامتها الغامضة تعلو شفتيها : أنا ، كما تعرفين ، أكون حيثما أكون ضرورية .
وصمتت الأم لحظة ، ثم قالت بصوتها الواهن : أهلاً ومرحباً بك ، تفضلي ، اجلسي .
وجلست شوشو على طرف الفراش ، وعيناها تحدقان في الأم ، ثم قالت لها : مازلت مريضة ..
فقالت الأم بصوت أشدّ وهناً : هذا قدري ..
لكن شوشو قالت : ستشفين .
ولاذت الأم بالصمت مذهولة ، فمالت عليها شوشو ، وقالت : ابنك اسكويرو ،ابنك الشاب ، البطل ، يبحث عن الدواء ، في المكان الخطأ .
ونهضت شوشو ، متهيئة للخروج ، وقالت بصوتها الأجش : الدواء الذي سيشفيك هو لحم فقمة ، وهذا الدواء عندي ، عندي وحدي ، وليس عند أحد غيري .
وتحاملت الأم على نفسها ، وحاولت جهدها أن تعتدل ، وهي تهتف : شوشو ..
فقالت شوشو ، وهي تجتاز الباب المغلق ، وتمضي إلى الليل : أرسليه إليّ ، غداً .
وارتمت الأم على الفراش مغتاظة ، متوجعة ، وأنفاسها تكاد تختنق في صدرها ، وصاحت بصوت غاضب : تباً لكِ ، يا شوشو .. تباً لكِ .
وصمتت الأم لحظة ، ثم تمتمت : لم أكن أعرف أن شوشو موجودة حقيقة .
وعاد اسكويرو إلى البيت ، عند حاول المساء ، متعباً ، محبطاً ، مقطب الجبين ، ورمق أمه ، التي كانت متمددة في فراشها ، بنظرة سريعة ، وتهاوى جالساً على فراشه ، دون أن ينبس بكلمة واحدة .
وتحاملت أمه على نفسها ، وأفرغت ما أعدته من طعام ، ووضعته على السفرة ، وقالت بصوتها الواهن : انهض ، يا اسكويرو ، الطعام جاهز .
ونهض اسكويرو ، وجلس إلى السفرة ، وراح يتناول الطعام صامتاً ، وحين انتهى من تناول الطعام ، نظرت إليه أمه ، وقالت : شوشو كانت هنا .
وحدق اسكويرو فيها ، وقال مندهشاً : شوشو !
وتابعت الأم قائلة : وقالت لي ، إنك تبحث عمن يدلك على مكان يمكنك أن تحصل فيه على فقمة .
ولاذ اسكويرو بالصمت لحظة ، ثم قال متعجباً : إنني لم أتحدث في هذا الموضوع إلا عدداً قليلاً جداً ، من أصدقاء أبي الصيادين .
وصمت لحظة ، ثم تساءل : ماذا قالت ؟
فردت الأم قائلة : دعك منها ، إنها ساحرة .
ومرة ثانية تساءل اسكويرو : ماذا قالت ؟ أخبريني .
فردت الأم قائلة : قالت لي ، أرسليه لي .
ولاذ اسكويرو بالصمت ، ثم تمتم بصوت لا يكاد يُسمع : حسناً ، سأذهب إليها غداً .









" 3 "
ـــــــــــــــــــ

في الغد ، عند الصباح ، ذهب اسكويرو إلى بيت شوشو ، وما إن طرق بابها ، حتى جاءه صوتها الأجش ، تقول : تعال يا اسكويرو ، ادخل .
ودخل اسكويرو ، وإذا الساحرة شوشو تجلس على مقعد وسط كوخها ، وعلى كتفها تقف بومة بيضاء بلون الثلج ، تحدق فيه بعينيها المستديرتين ، اللتين لا تطرفان ، فبادرها قائلاً : البارحة كنت عند أمي ، وطلبتِ منها أن ترسلني إليك ، ها أنا عندك ، تفضلي ..
وحدقت الساحرة شوشو فيه ، كما حدقت فيه بومتها البيضاء ، وقالت بصوتها الأجش : اسكويرو ..
وصمتت الساحرة شوشو ، فقال اسكويرو : نعم .
وتابعت الساحرة شوشو قائلة : أنت ابن بار ، أمك مريضة ، وأعرف ما تعنيه أمك لك ..
وتمتم اسكويرو : إنها حياتي .
وتابعت الساحرة شوشو قائلة : وأنت تريد لها الشفاء ..
فسارع اسكويرو إلى القول : اليوم قبل الغد .
ومرة أخرى تابعت الساحرة شوشو قائلة : البارحة طفتَ مع صديقك دنيس على بعض الصيادين ، تريد أن يدلك أحدهم على مكان تتواجد في الفقمة ..
وهزّ اسكويرو رأسه ، وقال : نعم ، هذا صحيح .
فقالت الساحرة شوشو : وطبعاً لم يدلك أحد ، لأنهم لا يعرفون ، ولن يعرفوا ..
ولاذ اسكويرو بالصمت منتظراً ، فمالت عليه الساحرة شوشو ، وقالت بصوت كالفحيح : كان عليك ، يا اسكويرو ، أن تأتي إليّ مباشرة .
فقال اسكويرو : ها أنا أتيتُ إليكِ .
وردت الساحرة شوشو قائلة بصوتها الأجش : وسأدلك ، وستتعافى أمك بالتأكيد .
وتساء اسكويرو بنوع من الرجاء : أنتِ تدليني ؟
فقالت الساحرة شوشو بصوتها الأجش : أنا ولا أحد غيري ، يا اسكويرو .
ومال اسكويرو على الساحرة شوشو ، وقال وكأنه يتشبث بها : أرجوكِ ، دليني ، فأمي كما تعرفين مريضة ، مريضة جداً ، وأخشى أن ..
وقاطعته الساحرة شوشو قائلة : لكن الفقمة ، التي ستشفي أمك ، في مكان بعيد جداً ، والوصول إليها ليس بالأمر الهين ..
فقال اسكويرو : حتى لو كان في آخر الدنيا ، سأصل إليه ، مهما كلفني الأمر .
وتابعت الساحرة شوشو قائلة بصوت كالفحيح : وخطر ، خطر جداً ، يا اسكويرو .
فردّ اسكويرو قائلاً : لا يهم ، حياتي فداء لأمي .
ولاذت الساحرة شوشو بالصمت ، وقد أغمضت عينيها ، ثم قالت بصوتها الأجش : اسكويرو ..
وقال اسكويرو : دليني على المكان ..
وتابعت الساحرة شوشو قائلة : المكان بعيد ، بعيد جداً ، لكن بما أملكه من قوى سحرية ، قادرة أن أجعلك تصل إليه بأسرع وقت ممكن ..
وصمتت الساحرة شوشو ، وقد أغمضت عينيها ، ثم قالت بصوتها الأجش : المكان جزيرة جليدية ، في أقصى الشمال المتجلد ، ستجد فيها بغيتك ، الفقمة الدواء الشافي ، ستمسكها ، وتأتي بالشفاء إلى أمك .
ولاذ اسكويرو بالصمت ، ففتحت الساحرة شوشو عينيها ، وحدقت فيه ، ثم قالت : لم تسألني عن تلك الجزيرة الجليدية البعيدة ، التي فيها شفاء أمك ..
ونظر اسكويرو إليها صامتاً ، فقالت بصوتها الأجش الفحيح : اسمها .. جزيرة كالوبيوك .
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : وكالوبيوك ، كما تعرف ، وحش قبيح يشبه الإنسان ، معقوف الظهر ، يتربص بالأشخاص ، ويسحبهم إلى أعماق البحر ، وبعدها لا يبقى لهم أثر أبداً .
وحدق اسكويرو فيها ، وقال : ليكن ، هذا لن يجعلني أتردد ، المهم أن تتعافى أمي .
وتابعت الساحرة شوشو ، بصوتها الأجش قائلة ، وبومتها البيضاء مازالت تحدق فيه ، بعينيه المستديرتين ، اللتين لا ترمشان : اسكويرو ، إن كنت خائفاً ، ولك الحق أن تخاف ، لا تذهب .
فقال اسكويرو : سأذهب .
ولاذت الساحرة شوشو بالصمت ، وقد بدا عليها الارتياح ، فحدق اسكويرو فيها ، ثم قال : لكن أريد أن أطلب شيئاً منكِ ..
فقالت الساحرة شوشو : اطلب .
وتابع اسكويرو قائلاً : أمي ..
فقالت الساحرة شوشو : اطمئن ..
وقال اسكويرو : إذا عدتُ إليها الآن ، قبل أن أبدأ رحلتي ، ستتشبث بي ، وتولول ، وتحاول منعي من القيام بهذه الرحلة ، مهما كان الثمن ..
فقالت الساحرة شوشو : إنها أم .
فقال اسكويرو : قاربي على الشاطىء ، سأذهب الآن ، وأبحر به إلى .. جزيرة كالوبيوك .
وحدقت الساحرة شوشو فيه ، لكنها لم تقل شيئاً ، فتابع اسكويرو قائلاً : اذهبي إليها ، بعد مساء هذا اليوم ، واخبريها بما أقدمت عليه .
وردت الساحرة شوشو قائلة بصوتها الأجش : سأذهب إليها كما تريد ، وسأخبرها .
وقال اسكويرو : لن أعود سريعاً ..
وتمتمت الساحرة شوشو بصوت لا يكاد يسمع : هذا إن عدت ، يا اسكويرو .
وقال اسكويرو : شوشو ..
وردت شوشو : نعم .
فقال اسكويرو : ارعي أمي ..
وابتسمت الساحرة شوشو ابتسامتها الغامضة ، وقالت : اطمئن ، يا اسكويرو .
واستدار اسكويرو ، ومضى مسرعا إلى قاربه ، الذي لم يصطد فيه ، أي شيء منذ عدة أيام من البحر ، فأغمضت الساحرة شوشو عينيها ، وبومتها البيضاء على كتفها ، وقالت بصوتها الأجش : وداعا اسكويرو .. وداعاً .. وداعاً .
أما أم اسكويرو المريضة العجوز ، التي تملكها القلق ، منذ أن خرج ابنها من البيت ، واتجه إلى بيت الساحرة شوشو ، فلم تصبر على البقاء في سريرها ، حتى قبل أن ينتصف النهار ، وتحاملت على نفسها ، وأطلت على الخارج عبر الباب الموارب ، وهي تتمتم باستمرار بصوتها ، الذي ازداد وهناً : اسكويرو .. اسكويرو ..
ورغم وضعها الصحي المتردي ، تحاملت الأم على نفسها ، بعد منتصف النهار ، وأعدت الطعام لاسكويرو ، فلابدّ أنه سيأتي جائعاً ، وعليها أن تعد له ما يعجبه من الطعام ، وما يسد به جوعه .
ونضج الطعام في الموقد ، لكن اسكويرو لم يأتِ ، وبرد الطعام مرات ، وسخنته الأم مرات ومرات ، ولم يأت اسكويرو ، بل وجاء الليل بعتمته الخانقة ، ولم يأتِ اسكويرو ، وشهقت الأم من أعمقها ، وقد جفت الدموع في عينيها : اسكويرو ، تعال ، يا بنيّ ، تعال ..
وفكرت الأم ، رغم وضعها الصعب ، أن تذهب إلى الساحرة شوشو ، هذا مستحيل ، لكن لو أتت شوشو ، كما فعلت سابقاً ، لسألتها : أين ابني .. اسكويرو ؟
وقد ترد الساحرة شوشو بصوتها الأجش : اسكويرو ذهب إلى جزيرة كالوبيوك ، ليأتيك بالفقمة ، التي ستشفيك من شيخوختك ومرضك .
عندئذ ستخاطبها الأم بغضب : أيتها الساحرة اللعينة شوشو ، سأمزقك بأظافري وبأسناني ، إذا أصيب ابني اسكويرو بأي قدر من الأذى .



" 4 "
ــــــــــــــــــ
دفع اسكويرو قاربه الصغير ، الذي يصيد فيه السمك ، إلى عرض البحر ، وصعد إليه بسرعة ، وراح يجذف مبتعدا به عن الشاطىء ، لابدّ له أن ينطلق بهذا القارب ، حتى يصل إلى جزيرة كالوبيوك ، ويحصل على تلك الفقمة ، التي ستحقق الشفاء لأمه .
وراح قاربه الصغير ، المصنوع من جلد الفقمة ، عندما كانت الفقمات تتواجد على الشواطىء ، يشق طريقه في مياه البحر الهادئة الصافية ، نحو هدف ليس له أن يتوانى ، في العمل على تحقيقه ، مهما كلفه الأمر .
وتراءت له أمه ، وهي تنتظره ، ثم وهي تستقبل الساحرة شوشو ، أمي ، لا تلعني شوشو ، نعم هي قبيحة ، بل لا تقل قبحاً عن بومتها البيضاء ، لكنها هي التي أعطتني الأمل ، وسأحققه عاجلاً أو آجلاً .
وانتبه اسكويرو ، عند حوالي منتصف النهار ، إلى أنه لم يتزود ، لرحلته الطويلة هذه ، لا بالطعام ولا بالماء ، ولا حتى بأي سلاح للصيد ، يا لغبائه ، كيف سيدبر أمره في هذه الرحلة الطويلة الشاقة ؟
وحانت منه التفاتة ، وشعر بالراحة والاطمئنان ، فقد رأى في طرف القارب صرة من الطعام ، وقربة من الماء ، وكذلك هراوة لصيد الفقمة ، آه شوشو ، حقاً إنها ساحرة ، لا يفوتها شيء ، ويبدو أنها سترعاه حتى يصل إلى جزيرة كالوبيوك ، ويحصل عل الفقمة ، التي ستشفي أمه من شيخوختها ومرضها .
ومرت الساعات وهو يجذف ، والشمس ترتفع في السماء شيئاً فشيئاً ، وبعد منتصف النهار ، سحب المجذافين من الماء ، وتوقف ليرتاح قليلاً ، ويحتسي بعض الماء ، أما الطعام فأرجأه إلى المساء ، فالطريق طويل ، ولابدّ من الاقتصاد في الطعام .
وشرب قليلاً من الماء ، ثم نظر حوله ، الماء في كل مكان ، لا أثر لليابسة في أي أفق ، ماء وسماء فقط ، وبعد أن ارتاح بعض الشيء ، أعاد المجذافين إلى ماء البحر ، وراح يجذف من جديد ، وليس في مخيلته إلا جزيرة من الجليد ، تقف فوق إحدى قممها اللامعة ، فقمة فتية ، بدا وكأنها تناديه .. تعال .
وواصل اسكويرو تجذيفه نحو حلمه ، وواصلت الشمس طريقها نحو سريرها الدافىء وراء الأفق ، وتهاوت في أسفل السماء ، وغاصت في أعماق البحر المظلمة ، عندئذ توقف اسكويرو ، وسحب المجذافين من الماء ، ثم فتح صرة الطعام ، وراح يأكل مما فيها ، يا للساحرة ، إن طعامها ساحر أيضاً ، لكن طعام أمه كان ألذّ ، ويسكت صراخ جوعه مهما كان شديداً .
وبعد غروب الشمس ، وقد أرخى الظلام سدوله القاتمة ، وقبل أن يظهر القمر في السماء ، ارتدت الساحرة شوشو ملابسها الثقيلة ، وقلائدها حول جيدها ، وخرجت من البيت ، وراحت تسير في الظلام ، وكأنها شبح فاحم من أشباح الليل البارد المتجلد .
وتململت الأم ، وهي راقدة في فراشها ، وعيناها مفتوحتان على سعتهما ، دون أن تدع النعاس يقترب منها ، فهي تنتظر ابنها اسكويرو ، الذي خرج من البيت منذ الصباح ، ولم يعد حتى الآن ، ولن تسمح له بالاقتراب من عينيها الناعستين ، حتى يعود اسكويرو ، وتطمئن عليه .
وفوجئت الأم بظهور الساحرة شوشو ، في منتصف الكوخ ، بملابسها الثقيلة ، والقلائد الغريبة حول عنقها ، رغم أن الباب ، كان مغلقاً .
فتحاملت على نفسها ، واعتدلت في فراشها ، وقالت مندهشة بصوتها الواهن : شوشو !
فردت الساحرة قائلة : نعم ، شوشو .
وحدقت الأم فيها ، وعيناها تغرقان بالدموع ، وقالت بصوتها الواهن : ابني اسكويرو ، خرج من البيت منذ الصباح ، وقال أنه سيذهب إليك ..
وردت الساحرة شوشو ، دون أن ترفع عينيها ، الشبيهتين بعيني بومتها البيضاء ، وقالت : نعم ، جاءني في الصباح .
وتابعت الأم قائلة بصوتها الواهن ، الغارق بالدموع : اسكويرو لم يعد حتى الآن ، أين هو ؟ أين ابني ، يا شوشو ؟ أخبريني وإلا جننت .
فردت الساحرة شوشو ، دون أن تتحرك من مكانها : لا تخافي عليه ، اسكويرو شاب شجاع ، يُعتمد عليه ، أنت مريضة ، وهو يخاف عليك ، وسيشفيك .
واتسعت عينا الأم الغارقتين بالدموع ، وصاحت بصوت واهن متحشرج : أيتها الساحرة ، أيتها الشريرة ، أين أرسلته ؟ أين أرسلت ابني اسكويرو ؟
فردت الساحرة شوشو بصوت ثابت : اسكويرو ذهب لإنقاذك ، ولن يعو حتى يحصل على الفقمة ، التي تشفيك من مرضك ، الذي طال أمده .
وهبت الأم من فراشها ، كما لو كانت لبؤة جريحة ، تعرض شبلها للخطر ، على يد صياد بلا قلب ، وهمت أن تنقض على الساحرة شوشو ، ولكنها فوجئت باختفاء الساحرة ، وبدا لها وكأنها لم تكن موجودة أمامها قبل لحظة واحدة لا أكثر .
وتلفتت حولها ، وقد اشتعلت عيناها وحواسها بنيران الغضب ، أين هي ؟ أين تلك الساحرة اللعينة شوشو ؟ لو وقعت بين يديها لمزقتها بأظافره وأسنانها ، كما مزقتها هي بإرسال ابنها اسكويرو إلى المجهول ، لكن لا جدوى ، فلا أثر للساحرة شوشو .
وتوقفت مترنحة ، والنيران تكاد تخمد في عينيها وأحاسيسها ، لكن هل للساحرة شوشو وجود ؟ لعلها واهمة ، وما رأته ربما كان من صنع خيالها المريض ، وخوفها على ابنها .. اسكويرو .
وتحاملت على نفسها ، وخطت ببطء وصعوبة إلى فراشها ، وألقت نفسها فيه ، ثم سحبت فوقها غطاءها الثقيل ، وأغمضت عينيها المتعبتين ، لا ، لا تريد أن تنام ، كيف يمكن أن تنام ، وابنها اسكويرو ليس إلى جانبها ، ولا تعرف أين هو الآن ؟
وأطل القمر من أعالي السماء ، على قارب صغير ، لا يكاد يرى ، وسط البحر ، يرقد فيه إنسان شاب ، ينظر إليه ، تتراءى له أمه العجوز المريضة ، تتمدد في فراشها ، وتفكر فيه ، آه لا تقلقي ، يا أمي ، سأعود إليك سريعاً ، ومعي ما يشفيك من شيخوختك ومرضك ، الذي طال أكثر مما ينبغي .
وتململ اسكويرو في قاربه الصغير ، وقد هصره البرد الشديد ، ونظر إلى القمر المبحر في أغوار السماء المعتمة ، آه ما أشدّ البرد ، وربما حسد القمر ، لأنه بعيد في السماء ، عن هذه المياه ، التي تكاد تتجمد من البرد ، والتي لا تحدها حدود .
وأشرقت الشمس ، بعد أن غاب القمر ، وتطلعت بعينيها المتقدتين إلى ما حولها ، ولمحت قارباً صغيراً ، بدا وكأنه حبة رمل ، وسط صحراء مترامية الأطراف من المياه ، يشق طريقه ، أو هذا ما يتوهمه ، للوصول إلى مكان يحلم بالوصول إليه ، وراء حلم مستحيل .
وراحت الشمس تتسلق أدراج السماء ، في طريقها الذي يتكرر كلّ يوم ، والقارب الصغير مازال يشق الماء ، وكأنه يراوح في مكانه من البحر ، الذي بدا وكأنه لا بداية له ولا نهاية .












" 5 "
ـــــــــــــــــــ
غالبت الأم النعاس ، بكل ما تملك من تعلق بابنها اسكويرو ، وحاولت أن لا تسمح لجفنيها أن يغمضا ، لكنهما كانا ، بالرغم منها ، يتقارب أحدهما من الآخر للحظات ، وسرعان ما تبعد أحدهما عن الآخر ، في عتمة البيت ، الذي لا يضيئه غير مصباح صغير خافت الضوء ، وتتمتم : لن أنام حتى يعود اسكويرو .
وفي الساعة الأخيرة من الليل ، وبدون إرادة منها ، غطست في أعماق الليل والبحر الهائج ، لكن تناهى إليها من الأعماق المظلمة الهائجة ، صوت يستنجد بها ، أهو ابنها اسكويرو ؟ من يدري ، يهتف بها : النجدة .. يا أمي .. النجدة ، أنقذيني .. أنقذيني .
وهبت الأم من فراشها كالمجنونة ، ونسيت أنها مريضة ، وأنها على شفا حفرة من النهاية ، لابد أن تنقذ ابنها اسكويرو ، قبل أن يبتلعه الليل والبحر الهائج ، كما ابتلعا أباه فيما مضى ، وفتحت الباب ، وانطلقت في عتمة آخر الليل ، نحو البيوت الصغيرة ، المتجمعة قرب بعضها ، كما تتجمع الفقمات على صخور الشاطىء .
وراحت تركض بين البيوت ، التي لم تستيقظ بعد ، وليس في السماء غير نجوم قليلة ’خافتة الضوء ونصف قمر صغير ، وهي تصيح بأعلى صوتها الواهن المتحشرج : النجدة .. النجدة .. النجدة ..
وعلى الفور ، فتحت البيوت أبوابها ، باباً بعد باب ، وتدفق الرجال والنساء ، وحتى بعض الأطفال ، إلى الخارج ، وتحلقوا حول الأم العجوز ، ومن بينهم الصياد الشاب دنيس ، وظلت الأم تصيح بأعلى صوتها الواهن المتحشرج ، وهي تترنح : النجدة .. النجدة .. النجدة ..
وتساءل أكثر من رجل : ماذا جرى ؟
وخاطبتها أكثر من امرأة ، وقد تأثرن لما هي عليه ، قائلات : أخبرينا ، ما الخطب ؟
وقالت امرأة عجوز : يبدو أنها فقدت عقلها ، لقد عانت أمها في شيخوختها من مثل هذه الحالة .
واقترب منها الصياد الشاب دنيس ، وقال لها : توقفي أرجوكِ ، توقفي .
لكن الأم لم تتوقف ، وظلت تصيح " النجدة .. النجدة .. النجدة .. " فاقتربت امرأة متقدمة في العمر منها ، وخاطبتها قائلة بصوت رقيق : توقفي ، يا أختي ، أنت مريضة ، عودي إلى بيتك .
وتوقفت الأم ، وسكتت عن الصياح ، والنار تتقِد في عينيها ، وخاطبت الجميع قائلة : بدل أن تقولوا لي ، عودي إلى البيت ، وارقدي في سريرك ، قفوا إلى جانبي في محنتي ، أنجدوني ..
واقترب منها رجل ، وقال : نحن معك ، ولن نتأخر في نجدتك ، لكن أخبرينا أولاً ، ما الأمر ؟
والتفتت الأم إليه ، وخاطبته قائلة ، وهي تكاد تنهار : ابني .. ابني اسكويرو ..
وتساءل الرجل : ما خطبه ؟
فتابعت الأم قائلة بصوت باك : خرج صباح الأمس إلى البحر ، ولم يعد حتى الآن ..
وتساءل أحدهم : هل خرج لصيد السمك ؟
وترددت الأم ، ثم هزت رأسها ، وقالت : كلا ..
وتبادل الوقفون رجالاً ونساء النظرات المندهشة ، الحائرة ، واقترب أخر منه ، ومال عليها ، وقال متسائلاً : لماذا خرج إلى البحر إذن ؟
ولاذت الأم بالصمت ، فخاطبته امرأة قائلة : تكلمي ، أخبرينا ، أين ذهب ابنك ؟
فأدارت الأم عينيها الحائرتين في الملتفين حولها من الرجال والنساء ، وقالت بصوت متردد واهن : اسكويرو .. ذهب إلى .. جزيرة كالوبيوك .
وفغرت بعض النساء أفواههن ، وتمتمت واحدة مذهولة : جزيرة كالوبيوك !
وقالت امرأة لمن حولها من النساء : لا توجد جزيرة بهذا الاسم ، لقد كبرت هذه المرأة ، وبدأت تخرف .
وتساءلت امرأة أخرى : يا للعجب ، ما الذي دعاه للذهاب إلى هذه الجزيرة ؟
وأجابت الأم : قالت له الساحرة شوشو ..
وفغر البعض نساء ورجالاً أفواههم ، وتساء لت أكثر من امرأة بذهول : الساحرة شوشو !
وتابعت الأم قائلة : أن هناك فقمة في تلك الجزيرة ، إذا اصطادها لي، وأكلتُ من لحمها ، أشفى تماماً .
وهزت امرأة رأسها ، ونظرت إلى من حولها ، وقالت : لقد جنت هذه المرأة .
وأبعد دنيس المرأة عن الأم ، وقال لها : لا عليك ، عودي أنت إلى البيت ، وسنخرج بعد شروق الشمس إلى البحر بقواربنا ، ونلحق باسكويرو ، ونعيده إليكِ .
وصاحت الأم باكية : كلا .. كلا .. اذهبوا الآن .. قبل أن يغرق في البحر .. كما غرق أبوه من قبل .
ونادى دنيس امرأة مسنة ، وقال لها : فلنأخذها إلى بيتها ، وابقي أنت عندها ، حتى نعود من البحر .
ومال دنيس على الأم ، وقال لها برفق : تعالي معنا ، سنأخذك إلى البيت ، وانتظري هناك ، سنخرج بقواربنا غداً إلى البحر ، وسنعود باسكويرو .
ونظرت الأم إليه ، بعينين متعبتين غارقتين بالدموع ، وخاطبته قائلة بصوت واهن يكاد ينطفىء : كلا ، دعني هنا ، أريد ابني ، اريد اسكويرو ، سأموت إذا لم يعد ابني لي ، سأموت ..
فأمسك دنيس يدها ، واحتضنتها المرأة ، وسارا بها ببطء ، نحو بيتها ، والمرأة تقول لها بصوت هادىء : تعالي نذهب إلى البيت ، أنتِ متعبة ، هيا لتنامي في فراشك ، سيخرج الرجال ، إلى البحر ، عند شروق الشمس ، ولن يعودوا إلا ومعهم ابنك .. اسكويرو .
وفي اليوم التالي ، ومع شروق الشمس ، خرج حوالي عشرة صيادين بقواربهم إلى البحر ، معظمهم من الصيادين الشباب ، ومعهم دنيس ، صديق اسكويرو ، وقد قرروا أن يبحثوا عن اسكويرو في طول البحر وعرضه ، حتى يعثروا عليه .
وبين حين وآخر ، كانت الأم تعتدل في فراشها ، وتسأل المرأة العجوز ، التي رافقتها إلى البيت ، وبقيت معها ، ترعاها ، وتهدئا : هل عاد الصيادون من البحر ؟
فتجيبها المرأة العجوز قائلة : لا تستعجلي ، الشمس لم تغرب بعد ، إنهم يبحثون عنه ، وسيأتون لك به حتماً ، اهدئي فقط ، واصبري ، يا عزيزتي ، ابنك سيعود لك .. اليوم ، وستفرحين به ، اصبري فقط .
وطوال النهار ، منذ الفجر ، والساعات التالية ، حاولت المرأة العجوز ، أن تجعل الأم تأكل شيئاً من الطعام ، الذي أعدته لها ، لكن دون جدوى ، وكانت تردّ قائلة : سآكل ، ولكن حين يعودون لي بابني من البحر ، لن آكل وهو غائب ، مهما كلفني الأمر .
وبعد منتصف النهار ، توافد العشرات من الرجال والنساء والأطفال ، على الشاطىء ، وراحوا ينتظرون عودة الصيادين الشباب ، وهم يأملون ، من أجل الأم الطيبة ، التي تذوب في غياب ابنها ، أن يعودوا ، ويعود معهم ابنها الصياد الشاب ..اسكويرو .
وعند المساء ، لاحت القوارب من بعيد ، فتزاحم الرجال والنساء والأطفال ، على شاطىء البحر ، ها هم الصيادون عائدين ، لكنهم ، وحتى وهم يقتربون من الشاطىء ، لم يلح ما يدعو إلى الفرح .
ماذا ؟
ماذا يحدث ؟
أين الصياد الشاب دنيس ؟ أين اسكويرو ؟
لا اسكويرو .
لقد وصلت جميع القوارب ، قارباً بعد قارب ، ووصل جميع الصيادين إلا دنيس ، صديق اسكويرو ، فقد أصرّ أن يبقى في البحر ، مهما كلفه الأمر ، حتى يعثر على صديقه الأثير .. اسكويرو .



" 6 "
ــــــــــــــــــ
بزغ القمر وأفل أكثر من مرة ، والشمس أشرقت وغربت أكثر من مرة ، واسكويرو يجذف بقاربه ، حتى تمكن الارهاق منه ، وأرقده في قعر قاربه الصغير، وراحت الأمواج تهدهده ، وتدفعه مرة إلى اليمين ، ومرة إلى اليسار ، وهو وسط مياه لا حدود لها .
وذات صباح ، أم ذات مساء ، أم .. ذات ليل ، مهما يكن من أمر ، فاسكويرو لا يعرف الوقت بالضبط ، اقترب منه قارب ، يبدو أن صاحبه لمحه من بعيد ، ونظر إليه ملياً ، وهو يرقد في سباته العميق في قعر قاربه الصغير ، وبدا له جثة شبه هامدة ، لكن مع ذلك ، قطر قاربه بقاربه ، وسحبه عبر مياه البحر إلى الشاطىء .
وهناك استقبلته ابنته الشابة كارمن ، بطولها الفارع ، وعينيها السوداوين ، وشعرها الأشقر ، الذي يشبه شعر أبيها ، نعم ، كانت من الاسكيمو ، لكن شعرها لم يكن أسود مسترسلاً ، كما الاسكيمو جميعاً ، وإنما كان أشقر ، واقتربت كارمن من أبيها ، وخاطبته قائلة : لقد تأخرت ، يا أبي ، وها هي الشمس تكاد تغرب .
وترجل أبوها ـ بيكر من قاربه ، وسحبه بشيء من الصعوبة إلى الشاطىء ، وهو يقول لابنته : كارمن ، تعالي ساعديني .
وانتبهت كارمن إلى القارب الصغير ، الذي قطره أبوها إلى قاربه ، وقالت : يبدو أنك اصطدت قارباً تائهاً في البحر ، يا أبي .
وردّ أبوها ـ بيكر عليها قائلاً : أنتِ لم تري بعد ، ما في قعره ، يا كارمن .
وتوقفت كارمن لحظة مفكرة ، ثم أشارت إلى القارب الصغير ، الذي كان ما يزال مقطوراً إلى قارب أبيها ـ بيكر ، وقالت : هذا قارب غريب ، لا يبدو أنه لصياد من قريتنا أو أهلنا .
وردّ بيكر قائلاً ، وهو منشغل بسحب قاربه إلى الشاطىء : نعم ، فصاحبه ، على ما يبدو ، أتى من بعيد ، وضل الطريق في البحر .
ونظرت كارمن إلى القارب الصغير ، وقد اقترب من الشاطىء ، ونظرت إلى قعره ، وإذا هي تشهق مذهولة خائفة ، وتتراجع إلى الوراء ، فقد رأت شاباً ، بدا لها أنه ميت ، وصاحت ، دون أن تلتفت إلى أبيها : أبي ، من هو هذا الشاب ؟ يبدو أنه ميت .
وافترب بيكر من القارب الصغير ، وهو ينظر إلى اسكويرو وقال : لا ، ليس ميتاً ، يبدو أنه قد أغمي عليه ، لسبب من الأسباب .
وصعد بيكر إلى القارب الصغير ، وانحنى على اسكويرو ، وخاطب ابنته قائلاً : كارمن ، تعالي عاونيني ، يجب أن ننقله إلى البيت .
وشهقت كارمن قائلة : بيتنا !
فردّ بيكر قائلاً : طبعاً ، لن نتركه هنا ، يا كارمن .
ومدّ بيكر يديه ، ورفع اسكويرو من كتفيه قليلاً ، وهو يقول : هيا يا كارمن ، عاونيني .
وعلى الرغم من عدم ارتياحها ، عاونت كارمن أباها ، ونقلاه إلى البيت ، ووضعاه في الفراش ، ودثراه بدثار ثقيل ، من جلد الدب القطبي الأبيض .
واعتدلت كارمن ، وحدقت في اسكويرو ملياً ، ثم خاطبت أباها قائلة : أبي ، لا فائدة من رعايته ، انظر ، يبدو جثة هامدة ، لا حياة فيها .
وردّ أبوها بيكر عليها قائلاً ، وهو يغذي النار في الموقد ، بقطع جافة من الخشب : لا يا بنيتي ، إنه إنسان شاب صلب ، ويبدو أنه بقي في البحر أياماً عديدة ، وعانى الأمرين من البرد الشديد والجوع ، وسيسترد عافيته إذا وفرنا له الدفء وبعض الطعام .
وراحت ألسنة اللهب ، ترتفع في الموقد شيئاً فشيئاً ، وبدأ الدفء يشيع في جو البيت ، ثم جاء بيكر بقدح من الماء ، وانحنى على اسكويرو ، وحاول أن يسقيه شيئاً من الماء ، وكارمن تراقبه ، لكن معظم الماء سال على ذقن اسكويرو وصدره وملابسه ، فقالت كارمن : لا فائدة ، يا أبي ، إنه يحتضر ، وربما لن يبقى حيّاً حتى الغد .
والتفت بيكر إليها ، وقال لها ، دون أن يحفل بما قالته عن اسكويرو : أعدي بعض الحساء ، فقد يفيق في جو البيت هذا الدافىء ، فنعطيه شيئاً منه ، عسى أن يسترد به بعض عافيته .
وتوقفت كارمن ، وقد لاذت بالصمت ، فخاطبها أبوها قائلاً : كارمن ، أعدي لنا حساء ، وسنسقي الشاب شيئاً منه ، إذا أفاق ، هيا ، تحركي .
وتحركت كارمن بشيء من الحماس ، وراحت تعدّ الحساء ، على نار الموقد ، وهي ترمق اسكويرو بين حين وآخر ، لعلها ترى ما يدل على بوادر عودة الحياة إليه ، لكن دون جدوى .
وفي الأثناء ، خرج بيكر من البيت ، وسحب القارب الصغير إلى الشاطىء ، بعيداً عن ماء البحر ، ثم عاد إلى البيت ، ونظر إلى اسكويرو ملياً ، ثمّ قال وكأنه يحدث نفسه : يبدو أنه لم يتحرك .
وردت كارمن ، دون أن تلتفت إليه : ولن يتحرك .
وهزّ بيكر رأسه ، لكنه لم يردّ عليها ، وجلس على مقربة من اسكويرو ، وراح يراقبه بدقة ، وشعر ببعض الارتياح ، لتراجع بعض الشحوب ، الذي كان يعلو وجهه ، وحلّ محله شيء من الاحمرار ، ربما بسبب حرارة الجو في البيت ، بفعل نار الموقد .
وهبط المساء ، وخيم الليل ، وبدأت الريح الباردة تئن في الخارج ، ربما تنذر بهبوب عاصفة ، والتفتت كارمن إلى أبيها ، وقالت : أبي ..
وردّ بيكر عليها ، وعيناه مشغولتان بالنظر إلى اسكويرو
: نعم .
فتابعت كارمن قائلة : لقد نضج الحساء .
وتنهد بيكر ، ثم نهض ، وقال : فلنأكل ، لكن ابقي بعض الحساء في القدر ، لعل الشاب يفيق .
وجلس بيكر وكارمن إلى السفرة متقابلين ، يتناولان الحساء ، ويتبادلان الحديث ، عما يدور في القرية ، وحانت من كارمن نظرة إلى اسكويرو ، وتوقفت عن لوك اللقمة في فمها ، وقد اتسعت حدقتا عينيها ، وتمتمت بصوت متحشرج : أبي ..
وردّ بيكر ، وهو يلوك اللقمة في فمه : نعم .
وتابعت كارمن قائلة بصوتها المتحشرج : إنه يتحرك .
وعلى الفور ، التفت بيكر إلى اسكويرو ، ثمّ هبّ من مكانه ، وانحنى عليه ، يدقق فيه النظر ، وخفق قلبه فرحاً ، حين رأى رموش عينيه تتحرك حركة طفيفة ، فخاطبه قائلاً : أيها الشاب ..
لم يرد اسكويرو عليه ، وظل جامداً في مكانه ، فقالت كارمن : أبي ، لعلنا مخطئين ، إنه لا يتحرك بتاتاً ، دعنا نكمل تناول طعامنا .
لكن بيكر انحنى عليه ثانية ، وخاطبه بصوت أعلى : أيها الشاب ، هل تسمعني ؟
وثانية ظلّ اسكويرو جامداً ، فقالت كارمن : الطعام سيبرد ، لنكمل طعامنا الآن .
فردّ بيكر قائلاً ، دون أن يتحرك من مكانه : اذهبي أنتِ ، وأكملي تناول طعامك ، سأبقى إلى جانبه طول الليل ، لعله يفيق ، فأقدم له بعض الحساء .
وأكملت كارمن تناول الطعام ، ثم أوت إلى فراشها ، وبقي بيكر إلى جانب اسكويرو ، يغالب النعاس ، بينما استغرقت ابنته قي نوم عميق .
وأفاقت كارمن صباحاً ، وإذا أبوها بيكر ، مازال يجلس إلى جانب اسكويرو ، وهو مستغرق في النوم ، وأفاق على حركتها في البيت ، فنظر إليها ، وقال : خيل إليّ أن الشاب حرك شفتيه ، عند منتصف الليل ، لكن .. لا أدري .. ربما كنت واهماً .
فاقتربت كارمن منه ، وقالت : أبي ، أنت متعب ، ليتك ترتاح قليلاً في فراشك ، سأبقى أنا إلى جانبه ، وسأوقظك إذا أفاق .


" 7 "
ـــــــــــــــــــــ
لم تُطفأ النار في الموقد ، ظلت متقدة على الدوام ، يغذيها بيكر ، أو ابنته كارمن ، بالخشب الجاف ، ليظل جوّ البيت دافئاً ، رغم برودة الجو في الخارج ، لعله يوقظ اسكويرو من سباته العميق .
وتناوب بيكر ، وابنته كارمن ، على مراقبته طوال ساعات الليل والنهار ، ليكونا على أهبة الاستعداد ، في أية لحظة ، تبدر منه حركة ، مهما كانت طفيفة ، ليسارعا إليه ، ويقدمان له الماء والطعام .
كما تناوبا بين حين وآخر ، على أن يبللا شفتيه بالماء البارد ، ومحاولة سقيه الماء ، وإطعامه شيئاً من الحساء ، وفرحا حين راح الماء والحساء ، ينسابان شيئاً فشيئاً ، إلى جوفه ، بالرغم من أنه لم تبدر منه أية حركة ، أو يرف له جفن ، ولو للحظة واحدة .
وذات يوم ، عند حوالي منتصف الليل ، وقد أغفى بيكر ، وهو جالس إلى جانبه ، وكارمن تغط بالنوم في فراشها ، فتح أسكويرو عينيه ، لم يرّ غير عتمة يشوبها ضوء خافت ، صادر عن المصباح الزيتي الصغير ، فأغلق عينيه ثانية ، وغطس في نوم عميق .
وفي اليوم التالي ، عند حوالي الضحى ، وقد خرج بيكر إلى الصيد في عرض البحر ، تناهت إلى كارمن ، وهي تغالب النعاس في فراشها ، ما يشبه الأنين ، أهي الريح أم .. ؟ وأرهفت سمعها ، وقد طار النعاس من عينيها ، كلا ، إنها ليست الريح ، وإنما ..
وهبت من فراشها كالريح ، الأنين من داخل الكوخ ، وليس من خارجه ، وأسرعت إلى اسكويرو ، وفوجئت به ، وقد فتح عينيه الداكنتين ، وخفق قلبها بشدة ، وراحت تتمتم : أين أبي ، ليراه حياً مستيقظاً ؟ لولاه لكان يرقد الآن في قعر القارب وسط البحر .
وعلى الفور ، جاءت بقدح من الماء ، وقربته من شفتيه المتشققين ، وقالت له بصوت فرح : اشرب ولو بضع قطرات ، لابد أنك الآن عطشان .
وفتح اسكويرو شفتيه ، وراح يشرب الماء ببطء ، ثم أطبق شفتيه ، وقد انتعشتا بالماء ، ودارت عيناه المتسائلتين في الأرجاء ، وتساءل : أين أنا ؟
وابتسمت كارمن له ، وردت قائلة : اطمئن ، أنت بخير ، وفي مكان آمن .
ونهضت كارمن مسرعة ، وجاءته بإناء الحساء ، وكانت قد أبقته دافئاً على الدوام ، وجلست قربه ، وهي تقول : لابدّ أنك جائع جداً ، والآن يجب أن تأكل جيداً ، لتسترد قوتك وعافيتك .
ووضعت في فمه ملعقة مليئة بالحساء ، وقالت : تذوقه ـ إنه حساء لذيذ .
وشرب اسكويرو الحساء ببطء ، فعاودت كارمن الكرة ، ووضعت في فمه ملعقة أخرى من الحساء ، فشربها اسكويرو ، وشرب أخرى وأخرى وأخرى ، ثم أطبق شفتيه ، وحاول أن يبعد الملعقة عنه ، فقالت كارمن مبتسمة : اشربها ، ولتكن الأخيرة الآن .
وفتح اسكويرو شفتيه مرة أخرى ، وشرب ما في الملعقة من حساء ، ، وقال : أشكرك .
وأطبق عينيه ، وهو يتمتم بصوت خافت : من أنتِ ؟
وقبل أن تجيبه كارمن ، من هي ، ومن أبوها ، ومن .. سمعته يغط في نوم عميق ، فلاذت بالصمت ، ثم نهضت ، وأعادت إناء الحساء إلى مكانه ، وجلست في فراشها ، تنتظر أباها لتزف له هذه البشرى .
وعند المساء ، عاد بيكر من عرض البحر ، ومعه ما اصطاده من الأسماك ، فأسرعت كارمن إليه فرحة ، وهتف بها أبوها ، وهو يسحب القارب إلى الشاطىء : الصيد وفير اليوم ، تعالي وساعديني .
وبدل أن تحمل كارمن بعض ما اصطاده أبوها من الأسماك ، قالت له : أبي ، لقد أفاق .
واعتدل بيكر ، وحدق فيها ، ثم قال : ماذا !
فردت كارمن فرحة : الشاب الغريب ..
وقاطعها بيكر ، وقد أدرك ما تعنيه : الشاب !
وتابعت كارمن قائلة : نعم ، لقد أفاق ، وأسقيته ماء ، وأطعمته بعض الحساء .
وألقى بيكر في القارب ما يحمله من أسماك ، وهمّ بالاتجاه إلى البيت ، وهو يقول : هذا ما كنت أنتظره ، تعالي نذهب إلى البيت ، ونره .
فمدت كارمن يدها ، وأمسكت بذراع أبيها ، وقالت : أبي ، لندعه الآن ، لقد عاد إلى النوم .
وتوقف بيكر ، ونظر إلى كارمن ، وقال لها : لا بأس ، المهم أنه حيّ ، وقد أفاق .
وربتت كارمن على ذراع أبيها ، وقالت بصوت هادىء : سيفيق ، ربما قريباً ، وسنتبادل الحديث معه ، ونعرف عنه كلّ شيء .
والتفت بيكر إلى السمك ، الذي في القارب ، وهو يقول لكارمن : بنيتي ، هيا ننقل السمك ، الذي اصطدته اليوم ، إلى داخل البيت .
ونقلا السمك إلى داخل البيت ، وانتقت كارمن سمكة كبيرة ، وراحت تنظفها ، ثم وضعتها على النار داخل الموقد ، حتى نضجت ، وجلسا إلى السفرة ، على الضوء الخافت للمصباح الصغير ، والسمكة المشوية بينهما ، وراحا يتناولان عشاءهما صامتين .
وقبل أن ينتهيا من تناول طعام العشاء ، تناهت إليهما أصوات أنين ، وتوقف بيكر عن تناول الطعام ، وراح ينصت ، في حين ألقت كارمن ما في يدها من طعام ، وهتفت : هذا الغريب ، إنه يستيقظ .
وهبت نحو اسكويرو ، وفي أثرها هبّ بيكر ، ومالت كارمن على اسكويرو ، وخاطبته قائلة : نحن إلى جانبك ، أنت بخير ، افتح عينيك .
وفتح اسكويرو عينيه المتعبتين ، وراح ينقل نظره بين كارمن وأبيها بيكر ، ثم قال بصوت واهن ، وكأنه آتٍ من بعيد : من .. أنتما ؟
وابتسمت كارمن لأبيها ابتسامة واسعة فرحة ، ثم قالت لاسكويرو : أنا كارمن ..
وأشارت إلى أبيها ، وقالت : وهذا أبي ، بيكر ، لقد أنقذك من موت محقق في البحر ..
وحدق اسكويرو في بيكر ، دون أن يتفوه بكلمة ، فمال عليه بيكر ، وقال بصوت هادىء : لقد رأيتك في قاربك ، وأنت تكاد تكون جثة هامدة ، فأتيت بك إلى هنا ، إلى بيتي ، ورعيناك أنا وابنتي كارمن ، وها أنت تفيق ، وستتعافى بعد أيام تماماً .
وتنهد اسكويرو ، ثم قال : أنا .. جائع .
وابتسمت كارمن فرحة ، وقال بيكر لاسكويرو: أرأيت ؟ أنت تريد طعاماً ، وهذا يعني أنك بخير حقاً ..
وصمت بيكر ، ثم خاطب اسكويرو قائلاً : يبدو أنك أتيت من مكان بعيد ، فأنت لا تشبهنا ، وقاربك لا يشبه قواربنا في هذه الجزيرة المنعزلة ..
وصمت ثانية ، ثم قال متسائلاً ، وهو مازال يحدق فيه : من أين أنت ؟
ولاذ اسكةيرو بالصمت ، وبدا لبيكر وكارمن أنه يفكر ، ثمّ هزّ رأسه ، وقال : لا أدري ..
وتظر بيكر إلى كارمن ، التي انحنت عل اسكويرو ، ثم سألته قائلة : ما اسمك ؟
ومرة ثانية ، لاذ اسكويرو بالصمت ، وفكر .. وفكر .. ثمّ هزّ رأسه ، وتمتم بصوته الواهن الآتي من بعيد : اسمي ! لا أدري .
والتفتت كارمن إلى أبيها ، وقالت : يبدو أنه متعب جداً ، لنكتفِ الآن بتقديم الطعام والشراب له ، وسنتحدث إليه عندما يتماثل للشفاء .
ونهضت كارمن ، وجاءت له بقطعة من السمك المشوي ، وراحت تطعمه بيدها حتى شبع ، وأغمض عينيه بعد حين ، وسرعان ما غطس في أعماق النوم .





" 8 "
ــــــــــــــــــ
مع مرور الأيام ، وبفضل رعاية كارمن وأبيها بيكر ، راحت صحة اسكويرو تتحسن ، اعتدل في فراشه ، ثم جلس إلى جانب الموقد ، ثمّ تمشى في البيت ، وتطلع عبر الباب إلى الفضاء الخارجي ، وأخيراً خرج من البيت ، وجلس في الشمس ، قبالة البحر ، البحر الواسع ، الذي لا تحده إلا السماء .
وطوال هذه الفترة الصعبة ، راحت كارمن ، وكذلك أبوها بيكر ، يتبادلان الحديث مع اسكويرو ، وحاولا أن يعرفا منه ، بصورة غير مباشرة ، أيّ شيء عنه ، لكن دون جدوى ، رغم الجهود التي بذلها هو أيضاً ، ليعرف عما يحاولان السؤال عنه .
وذات صباح ، والشمس تسطع فوق البحر ، خرج اسكويرو من البيت ، وجلس قبالة البحر ، وجاءت كارمن ، وجلست على مقربة منه ، ونظرت إلى البعيد ، وقالت : الجو دافىء بعض الشيء اليوم ، تعال نتمشى على الشاطىء ، ولن نذهب بعيداً حتى لا تتعب .
ورفع اسكويرو عينيه إليها ، وقال : يبدو لي ، أنني كنت أحب الشاطىء ، هيا نتمشى .
ومدت كارمن يدها ، وأمسكت يده ، وساعدته على النهوض ، وراحا يتمشيان جنباً إلى جنب ، والتفت كارمن إليه ، وخاطبته قائلة : مادمت قد تذكرت أنك كنت تحب الشاطىء ، فلابدّ أنك عشت إلى جانب شاطىء ما ، وأنك جئت من ذلك الشاطىء ..
وصمتت كارمن لحظة ، وبدا أن اسكويرو بدأ يفكر ، وربما يحاول أن يتذكر ، فتابعت كارمن قائلة بصوت هادىء : أخبرني ، من أنت ؟
ونظر اسكويرو إليها صامتاً ، وتابعت كارمن قائلة بنفس صوتها الهادىء : ما اسمك ؟
وتساءل اسكويرو مفكراً : اسمي ؟
فردت كارمن قائلة : نعم ، ما هو اسمك ؟
وهزّ اسكويرو رأسه حائراً ، ثم قال : لا أعرف .
وتوقف اسكويرو صامتاً ، فابتسمت كارمن له ، وقالت : يبدو أنك تعبت ..
وظلّ اسكويرو صامتاً ، فأمسكت كارمن يده ، وقالت : هيا نعد ، ونجلس داخل البيت .
وقفلا عائدين إلى البيت ، وجلسا جنباً إلى جنب قرب الموقد ، فابتسمت كارمن له ، وقالت : عفواً ، لقد أتعبتك بعض الشيء ، لكن غداً سنسير أكثر .
وابتسم اسكويرو بدوره ، وقال : أنت تدربينني ، وستنجحين في تدريبي .
ورفعت كارمن عينيها إليه ، وتأملته ملياً ، ثم قالت له بصوتها الهادىء : انظر إليّ ..
ونظر اسكويرو إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : تأملني ، تأملني جيداً ..
وتأملها اسكويرو ، تأملها ملياً ، ثم قال لها : أنت لا تشبهينني ..
وصمت لحظة ، وهو مازال يتأملها ، ثم تابع قائلاً : أنا بشرتي سمراء ، وشعري مسترسل ، وبشرتك أنت ليست سمرء ، وشعرك ليس أسود ، وإنما ..
وابتسمت كارمن ، وقالت : شعري أشقر .
وحدق اسكويرو في شعرها ، ثم قال : شعرك جميل .
لم تبتسم كارمن ، وإن بدا أنها فرحت بتعليقه ، وأطرقت رأسها لحظة ، ثم نهضت ، وقالت : النهار يقترب من منتصفه ، عليّ أن أعد طعام الغداء .
وعاد بيكر من البحر ، والشمس تكاد تغرب ، واستقبلته كارمن عند الشاطىء ، وساعدته على حمل ما اصطاده من سمك إلى البيت ، وفي الطريق ، حدثته كارمن بما دار بينها وبين اسكويرو ، فقال بيكر : يبدو أن بقاءه وحده في القارب ، وربما لفترة طويلة ، بدون طعام أو شراب ، قد أفقده الذاكرة .
وردت كارمن قائلة : أنت على حق ، يا أبي ، ومن يدري ، لعلّ بقاءه عندنا ، وتماثله للشفاء التام ، يعيد له ما فقده من ذاكرته ، فيتذكر ما نسيه ، ونعرف من أين أتى ، فنساعده على العودة إلى أهله .
وفي تلك الليلة ، بعد تناول طعام العشاء ، جلسوا على مقربة من الموقد ، يتبادلون أطراف الحديث ، عندئذ نظر بيكر إلى اسكويرو ، وقال : أيها الشاب ..
ورمقه اسكويرو بنظرة خاطفة ، وقال : نعم .
فتابع بيكر قائلاً : أنت الآن في صحة جيدة ، تعال غداً معي بقاربك ، ولنصطد الأسماك سوية .
ونظر اسكويرو إلى كارمن ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت كارمن بحماس : هذه فكرة جيدة ، أريد أن آكل سمكة مما تصطاده أنت .
وابتسم اسكويرو ، ونظر إلى بيكر ، وقال : حسناً ، سآتي غداً معك ، وسترى أنني صياد ماهر .
وفي اليوم التالي ، قبل شروق الشمس ، خرج بيكر ومعه اسكويرو إلى البحر ، وراحا يصطادان كلّ في قاربه ، وقد اصطادا عدداً كبيراً من الأسماك .
وعند المساء ، قفلا عائدين ، واستقبلتهما كارمن فرحة عند الشاطىء ، وحين رأت ما اصطاداه ، قالت ضاحكة : هذه الكمية من الأسماك ، تفيض عن حاجتنا ، فلنوزع بعضه على الجيران .
وبعد العشاء ، جلسوا يتجاذبون أطراف الحديث ، فنظر بيكر إلى اسكويرو ، وقال له : يجب أن أعترف ، أنت أمهر شاب عرفته في صيد السمك .
وضحكت كارمن فرحة ، وهي تنظر إلى اسكويرو ، وقالت : اسمه منذ الآن .. الصياد الماهر .
وابتسم أسكويرو فرحاً ، وقال : أشكركما ..
ثم نظر إلى كارمن ، وقال : أبوك يجاملني .
فقال بيكر : كلا ، إنها الحقيقة .
وبدا على اسكويرو أنه يفكر ، ومن يدري ، لعله يحاول أن يتذكر ، كيف تعلم الصيد ، ومن علمه ، لكن دون جدوى ، وأخيراً طفت على شفتيه المتعافيتين ابتسامة فرحة ، وقال : مهما يكن ، لست بمهارتك .
ونهض بيكر ، وهو يتثاءب ، وقال : إنني متعب ، ولابدّ أن أنام ، تصبحان على خير .
وردّ اسكويرو وكذلك كارمن : وأنت من أهله .
وأوى بيكر إلى فراشه ، وتدثر بدثاره الثقل ، ونظرت كارمن إلى اسكويرو ، وقالت بصوت خافت : أخشى أنك متعب أنت أيضاً ، وتريد أن تنام .
فنظر اسكويرو إليها ، وقال مبتسماً ، وبصوت خافت : لن أنام قبل أن تنامي .
ونظرت كارمن إلى الخارج ، عبر الباب المغلق ، وقالت : يبدو أن الليلة مقمرة .
ونهض اسكويرو ، وقال : لنخرج إلى الشاطىء قليلاً ، ونتمتع بهذه الليلة المقمرة .
وخرجا معاً ، ووقفا صامتين تحت ضوء القمر ، وهما يصغيان إلى وشوشة مويجات البحر ، التي تتناهى إليهما عبر عتمة الليل وصمته العميق .
وفوجئت كارمن باسكويرو ، يلتفت فجأة إليها ، ويخاطبها قائلاً بصوت غريب : كارمن ..
والتفتت الفتاة إليه متسائلة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فقال لها : تزوجيني .
وفغرت كارمن فمها ، وقالت : ماذا ؟
فقال اسكويرو ثانية : أتتزوجينني ، يا كارمن ؟
وابتسمت كارمن بفرح ، وقالت : نعم ، أتزوجك .
وصمتت كارمن لحظة ، ثم قالت : الفتاة هنا لا تتزوج ، إلا إذا أتاها فتاها بفقمة .
وأمسك اسكويرو يديها ، وقال : سآتيك غداً بفقمة .
وفي اليوم التالي ، استيقظ بيكر ، وتلفت حوله ، ثم تساءل : أين الصياد الماهر ؟
فأطرقت كارمن باسمة ، وقالت : خرج ليأتيني بفقمة .





" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
أقفر شاطىء البحر من المنتظرين ، بعد أن عادت القوارب ، التي خرجت للبحث عن اسكويرو ، إلا من الأم وآشلي ، اللتين ظلتا على الشاطىء ، حتى غابت الشمس ، وأسدل الليل سدوله .
وعادت الحياة ، منذ اليوم التالي ، كما كانت دائماً ، الصيادون خرجوا للصيد بقواربهم ، المصنوعة من جلود الفقمة ، والنساء انصرفن إلى أعمالهن المنزلية المعتادة ، والأطفال يضجون ويلهون ، تحت أشعة الشمس ، رغم برودة الجو .
عدا آشلي ، فرغم انشغالها برعاية الأم ، التي انزوت مصدومة في البيت ، لا تتحدث ، بل لا تكاد تتحرك من مكانها ، فقد كانت تتحين الفرص ، بين وقت وآخر ، وتذهب إلى الشاطىء ، وتتطلع إلى الآفاق البعيدة ، لعلها ترى قارب اسكويرو ، يبزغ من بين الأمواج ، كما يبزغ القمر من بين الغيوم .
وذات يوم ، عند الضحى ، والشمس تطلّ ساطعة على البحر ، جلست آشلي قرب الموقد ، في بيت اسكويرو ،
والأم متمددة في فراشها ، وقد أغلقت عينيها ، المسكينة ، أهي نائمة ؟ من يدري .
وصدرت أنّة طويلة متوجعة عن الأم ، وهي خامدة في فراشها ، وعيناها مغلقتان ، فالتفتت آشلي إليها ، تحدق فيها ، وقد جفت الدموع في عينيها ، وانتفض قلبها الشاب ، عندما ندت شهقة عن الأم ، وهتفت بصوتها الواهن المجروح : اسكويرو .
ثم غطست مرة أخرى ، في أعماق النوم المدلهمة ، ونهضت آشلي ، ورمقت الأم بنظرة سريعة ، تأكدت منها أنها مستغرقة في النوم ، فتسللت بهدوء ، وفتحت الباب ، وخرجت من البيت .
وعلى الفور ، انطلقت مسرعة نحو الشاطىء ، كأنها تلبي أمر نداء ، جاءها من أعماق الأم ، وهي تتمتم باسم ابنها الغائب اسكويرو .
ووقفت آشلي على الشاطىء ، ونظرت إلى الآفاق البعيدة ، البحر هادىء ، والشمس تسطع في أعالي السماء ، والمياه البريئة ، التي تقتل بصمت ، تمتد بعيداً حتى آفاق السماء الصافية كالبحر .
وأطرقت رأسها المثقل ، وهمت أن تستدير ، وتقفل عائدة إلى البيت ، حين انبثقت من داخلها شهقة الأم ، وهي تتمتم .. اسكويرو ..
فرفعت رأسها ، ونظرت إلى البعيد ، وشهقت هي هذه المرة ، فقد بزغ كما القمر ، قارب تعرفه ، إنه قارب دنيس صديق اسكويرو ، الذي لم يعد مع الصيادين ، الذين خرجوا للبحث عن اسكويرو .
واقترب القارب شيئاً فشيئاً ، وراح دنيس يلوّح لها فرحاً ، وقد قطر قارب اسكويرو بقاربه ، وجنّ جنونها ، وراحت تركض على الشاطىء ، وتصيح بأعلى صوتها : عاد اسكويرو .. عاد اسكويرو ..
وتدفق من البيوت ، أعداد من الرجال والنساء والأطفال ، ووقفوا على الشاطىء حول آشلي ، ينتظرون مهللين فرحين قارب الصياد الشاب دنيس ، لكنهم صمتوا الواحد بعد الآخر ، حين اقترب القاربان ، ولمحوا اسكويرو يرقد دون حراك ، في قعر قاربه الصغير .
ورفع الشباب اسكويرو على أكتافهم ، يتقدمهم دنيس ، وساروا به مبتعدين عن شاطىء ، والجميع يسيرون وراءهم حزانى ، وأقبلت الأم من البيت ، وتوقفت تنظر إلى ابنها اسكويرو محمولاً على أكتاف الشباب ، وحين وصلوا إليها ، توقفوا صامتين .
وتقدمت الأم من دنيس، وقد بدا وكأنها استعادت بعض عافيتها ، وقالت له : اشكرك ، يا دنيس ، لقد عدت بابني اسكويرو من الأعماق ..
وردّ دتيس قائلاً : اسكويرو بخير ..
وخاطبت الأم الشباب قائلة : تعالوا يا أحبائي ، وادخلوا بابني إلى البيت ، وضعوه في فراشه .
ودخل الشباب باسكويرو إلى البيت ، تتقدمهم آشلي ودنيس ، ووضعوه في فراشه ، ثمّ انسحبوا الواحد بعد الأخر ، ولم يبقّ في البيت سوى الأم واشلي ودنيس واسكويرو المتمدد في فراشه ، الذي لا تبدر منه حركة واحدة ، تدل على أنه حيّ .
والتفتت الأم إلى دنيس ، وقالت له : أشكرك ، يا بنيّ ، لقد أعدت لي ابني اسكويرو .
فردّ قائلاً : اسكويرو أخي ..
وصمت لحظة ، ثم قال : رأيته في قاربه ، وسط البحر ، يكاد ينطفىء ، فرعيته ، وأسقيته قليلاً من الماء ،اطمئني ، اسكويرو سيتعافى .
فردت الأم قائلة : أشكرك ، يا بني .
ونظرت آشلي إلى اسكويرو بعينين دامعتين ، وراحت تتمتم : اسكويرو بخير ، نعم ، نعم ، إنه بخير .
ونظر دنيس إلى الأم ، وقال لها : اسمحي لي ، لابدّ أن زوجتي وأطفالي ينتظرونني الآن .
ورافقته الأم حتى الباب ، وقالت له : أشكرك ، يا بنيّ ، رافقتك السلامة .
وعادت الأم إلى ابنها اسكويرو ، المتمدد في فراشه ، دون حراك ، فالتفتت آشلي إليها ، وقالت لها : عودي إلى فراشك ، أنت مريضة ، واتركي اسكويرو لي ، سأعتني به حتى يفيق .
لكن الأم انحنت على اسكويرو ، ومررت أصابعها على خديه ، اللذين بدآ يتعافيان ، وهي تقول : لم أعد مريضة ، يا آشلي ، وأنا أشكرك على ما تقدمينه له ، لكن أنا أمه ، ولي أن أرعاه أيضاً ، مهما كانت حالتي ..
وصمتت لحظة ، ثمّ نظرت إلى آشلي مبتسمة ، وقالت : بيد أني أعرف ، أن اسكويرو ليس لي فقط ، وكأم هذا في الحقيقة يفرحني جداً .
وبدا الفرح على آشلي ، فمدت يديها ، وعانقت الأم ، وقالت : أشكرك ، سأفديه بحياتي .
ثم تراجعت ، وقد أبعدت عينيها الفرحتين عن الأم ، وقالت : ربما يستيقظ اسكويرو بعد قليل ، ولعله يكون جائعاً ، فلأعد له بعض حساء السمك .
وقالت الأم بصوتها الذي بدأ يستعيد عافيته : سأبقى أنا إلى جانبه ، ريثما تعدين أنت الحساء .
وانهمكت آشلي بإعداد الحساء ، على النار في الموقد ، لكن هذا لم يشغلها عن آسكويرو ، فراحت ترمقه بين حين وآخر ، بنظرات سريعة ، لعلها تراه قد استيقظ من نومه العميق ، فتهرع إليه ، وتقدم له ما يحتاجه إليه من طعام أو شراب .
وعند حوالي منتصف النهار ، تململ اسكويرو ، وندّت عنه أنّة عميقة ، فألقت آشلي من يديها ما كانت تعده من طعام ، ومسحتهما على عجل ، وأسرعت إليه ، وهي تتمتم : انظري ، إنه يفيق .
وردت الأم ، وهي تحدق فيه ، وقطعة القماش المبللة بالماء في يدها ، وقالت : نعم ، إنه يتململ ، ويئن ، وهذا يعني أنه سيفيق .
وانحنت آشلي على اسكويرو ، وخاطبته : اسكويرو ..
وعلى الفور فتح اسكويرو عينيه ، وحدق فيها مندهشاً ، وقال بصوت غريب : أين أنا ؟
ودمعت عينا آشلي ، وقالت الأم بصوت باك : أنت هنا ، في البيت ، وأنا أمك ، يا اسكويرو .
وانحنت آشلي عليه ثانية ، وقالت : وأنا .. آشلي ..
وتمتم اسكويرو مندهشاً : آشلي !
فردت آشلي بصوت باك : نعم ، آشلي ..
وهزّ اسكويرو رأسه ، وقال : كلا ، أنت لستِ هي ، أنت شعرك أسود ، وهي شعرها أشقر ..
وتبادلت آشلي والأم نظرات سريعة مذهولة ، وقالت آشلي : ماذا يجري ؟ اسكويرو يتحدث عن فتاة ، يبدو أنه يعرفها ، ويقول إن شعرها أشقر ..
فردت عليها الأم قائلة بصوت خافت : دعك منه ، إنه ليس على طبيعته ، انهضي ، وأكملي إعداد الحساء ، وربما سيفيق يعد أن يأكل .


" 10 "
ــــــــــــــــــــــ

بملعقة صغيرة ، وضعت آشلي شيئاً من حساء السمك في فم اسكويرو ، وهمست له بصوتها المحب الدافىء : تناول هذا الحساء ، يا اسكويرو ، أنا أعددته خصيصاً لك ، أنا .. آشلي .
وغمرها الفرح ، عندما نجحت في إطعامه عدة ملاعق من حساء السمك ، ثم جاءته بقدح من الماء ، وسقته منه جرعة بعد جرعة ، حتى ارتوى ، وسرعان ما تراخى جسمه ، واستغرق في نوم عميق .
وحوالي المساء ، مالت الأم على آشلي ، وكانت ما تزال تجلس على مقربة من اسكويرو ، وهمست لها : آشلي ، ليتك تذهبين ، وترتاحين بعض الشيء في بيتكم ، أخشى أن تكون أمك بحاجة إليكِ .
ورفعت آشلي عينيها إلى الأم ، وردت بصوت خافت : أمي تعرف حاجتك إليّ ، وهي في الحقيقة ، من يشجعني على البقاء هنا .
ولم تتراجع الأم ، بل قالت بصوت خافت : مع ذلك ، اذهبي إلى أمك ، وتعالي غداً صباحاً .
ونهضت آشلي ، وقالت للأم : سأذهب إلى البيت ، لكني لن أبات هناك ، سأعود بعد العشاء .
وسارت معها الأم إلى الباب ، وقالت لها : خذي رأي أمكِ ، اذهبي الآن ، تحياتي لأمك .
لم تغب آشلي طويلاً ، إذ سرعان ما عادت ، وهي تحمل سمكة مشوية ، قدمتها للأم ، وهي تقول : أمي شوت لي هذه السمكة ، لكني أتيت بها لنأكلها معاً .
وابتسمت الأم ، وقالت : يا بنيتي ، طلبت منك أن تباتي الليلة عند أمك .
فردت آشلي قائلة : أمي نفسها لم تقبل ، أن أنام الليلة بعيداً عنك وعن اسكويرو .
ثمّ أشارت إلى السمكة ، وقالت : هيا نأكل هذه السمكة المشوية الآن ، وإلا بردت .
وجلستا متقابلتين حول السفرة ، والسمكة المشوية بينهما ، وراحتا تتناولانها ، وهما تتجاذبان أطراف الحديث ، وتوقفتا فجأة عن تناول الطعام ، إذ ندّ عن اسكويرو أنّة متوجعة ، فألقتا ما في أيديهما من طعام ، وهبتا مسرعتين إليه .
ومالت الأم عليه ، وهتفت منفعلة : بنيّ ..
وهتفت آشلي : اسكويرو ..
وفتح اسكويرو عينيه ، وحدق فيهما الواحدة بعد الأخرى ، ثمّ قال : إنني جائع .
وهتفت الأم بآشلي : هاتي السمكة .
وأسرعت آشلي ، وجاءت بالسمكة ، وراحت تقطع منها ندفاً ، وتدسها في فم اسكويرو ، وهي تقول مع كلّ لقمة : كلْ ، كلْ يا اسكويرو ، إنها سمكة مشوية لذيذة .
وأكل اسكويرو عدة لقيمات ، ثم أمسك بيد آشلي ، وقال لها : أين شوشو ؟
ورمقت آشلي الأم بنظرة سريعة ، ثمّ عادت تحدق في اسكويرو بذهول ، وتساءلت : شوشو !
وردّ اسكويرو قائلاً : الساحرة شوشو .
وتبادلت الأم وآشلي نظرات مذهولة ، فتابع اسكويرو قائلاً : الساحرة التي جاءت إلى أمي ، وقالت لها ، أن أذهب إليها في بيتها ، وذهبت ..
ورمقت الأم آشلي بنظرة سريع ، ثم قالت : جاءت إليّ ! إنني لم أرَ هذه الساحرة في حياتي .
وحاول اسكويرو أن يعتدل ، وهو يقول : نعم ، ذهبت إليها في بيتها ، وقالت لي ، لا علاج لأمك غير لحم فقمة ، موجودة في .. جزيرة كالوبيوك .
وتمتم الأم وآشلي مذهولتين : جزيرة كالوبيوك !
وتابع اسكويرو قائلاً : وأخذت قاربي ، دون أن أعلم أمي ، واتجهت إلى جزيرة كالو بيوك ، وأنا مصمم أن أصل إليها ، مهما كلف الأمر ، لكني على ما يبدو ، ضللت الطريق ، وتهت في عرض البحر .
وصمت اسكويرو ، ثم تابع قائلاً كأنما يحدث نفسه : وأنقذني صياد سمك ، وأخذني إلى بيته ، ورعاني هو وابنته الشابة .. ذات الطول الفارع .. والبشرة الصافية .. والشعر الأشقر ..آه .. كان اسمها .. كارمن ..
واتسعت عينا آشلي ، وصاحت : كارمن !
وتابع اسكايرو قائلاً : وحين تعافيت ، بفضل رعايتها ، عرضت عليها الزواج ، فوافقت ..
وصاحت أشلي ثانية : وافقت !
وتابع اسكويرو قائلاً : وطلبت مني أن أخرج للبحر ، وأصيد لها فقمة ..
وتراخت يدا آشلي ، وتنهدت منهارة : آآآه ..
وتوقف اسكويرو عن الكلام ، وعيناه المجنونتان تدوران فيما حوله ، ثم صاح : أين شوشو ؟ أريد كارمن .. ذات الشعر الأشقر ..
وسكت فجأة ، ثم تهاوى في مكانه ، وقد خارت قواه ، وسرعان ما غطى في نوم عميق ، ونظرت آشلي إلى الأم ، وقالت ، وهي تغالب دموعها : يا ويلي ، كارمن ! الويل للساحرة شوشو ، سأمزقها بأسناني .
ونظرت الأم إليها ، وأرادت أن تهدئها ، فقالت : بنيتي ، كوني عاقلة ، إنه يهذي ، ليس هناك ساحرة اسمها شوشو ، وبالتأكيد ليس هناك فتاة اسمها كارمن .
لكن آشلي لم تهدأ ، ولم يخفف عنها ما قالته الأم ، فهزت رأسها ، والدموع في عينيها ، وقالت : لا .. لا .. شوشو الساحرة .. دلته على كارمن .. ومن يدري .. لابدّ أنه تزوج منها فعلاً .. و ..
ومدت الأم يديها ، وضمت آشلي إلى صدرها ، وقالت : كفى يا بنيتي ، كفى يا آشلي ، أنت فتاة عاقلة ..
وتمتمت آشلي من بين دموعها بصوت متحشرج : كارمن ! وشعرها أشقر ! لقد تزوجها اسكويرو ، وإن كنت لم أرَ في حياتي فتاة ذا شعر أشقر .
وتغاضت الأم عما تقوله آشلي ، إنها الغيرة ، والأم نفسها امرأة ، وتعرف معنى الغيرة ، وتابعت قائلة : المهم الآن ، يا آشلي ، أن اسكويرو أفاق ، وبدأ يتعافى ، وإن كان يهذي ، وسينسى كلّ ما هذى به عن الساحرة شوشو ، وعن الفتاة ذات الشعر الأشقر ، ما اسمها ؟
ومسحت آشلي دموعها ، وقالت : اسمها كارمن .
ثم ربتت الأم على خدي آشاي ، وقالت : هيا أغسلي وجهك ، ثم أخلدي للنوم ، أخشى أن يفيق ليلاً ، فلا نجد وقتاً للراحة ، نامي ، وسأنام أنا أيضاً .
وأوت آشلي إلى فراشها ، وهذا ما فعلته الأم أيضاً ، وظلت الأم مستيقظة ، تغالب جهدها النعاس ، حتى سمعت آشلي تغط في نوم عميق .
وأفاق اسكوير مبكراً ، صباح اليوم التالي ، وإن بدا متعباً بعض الشيء ، وتلفت حوله كأنما يستطلع المكان ، وتمتم بصوت واهن : أمي ..
وهبت الأم من فراشها ، ومعها هبت آشلي ، وأسرعتا إليه ، وأطلتا عليه صامتتين ، ونظر اسكويرو إلى أمه أولاً ، ثم نظر إلى آشلي ، ولاحت فوق شفتيه بوادر ابتسامة ، وقال : آشلي ..
وانتفض قلب آشلي في صدرها فرحاً ، لكن الفرح أمسك لسانها ، ونظرت بعينين لامعتين إلى الأم ، لكن الأم حدقت في اسكويرو ، وقالت : بل كارمن ..
وقطب اسكويرو بين حاجبيه مفكراً ، ثم قال : عن أي كارمن تتحدثين ؟ هذه آشلي ..
ثم نظر إلى آشلي ، وقال : يبدو أنك جئت مبكرة هذا اليوم ، يا آشلي .
وردت آشلي قائلة ، وعيناها تتنديان بالدموع : لم أذهب إلى البيت ، لقد نمت هنا .
واعتدل اسكويرو في فراشه ، ونظر إليهما ، وقال بصوت بدأ يتعافى : إنني جائع جداً ، يبدو وكأنني لم آكل أي شيء منذ مدة طويلة .

10 / 7 / 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد