الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتي مع الخدامة .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 11 / 16
الادب والفن


جو رمادي بارد .. وقفتُ خلف النافذة أُراقب زخات المطر .. إيقاعه يملأني بالحزن ويشعرني بالوحدة .. أفطن الى أن هناك طرقاً مرتبكاً على الباب .. أهمله .. لم تكن لدي رغبة في استقبال أحد أو الحديث مع أحد .. لكن الطرق يعاود من جديد ويشتد .. أجرجر أقداماً ثقيلة مترددة وأتوجه الى الباب وأفتحه ..
عقدت الدهشة لساني وأنا أراها تقف أمامي في ذل واستكانة .. ثيابها مبللة .. منكمشة على نفسها .. ترتعش من البرد وأسنانها تصطك .. خافضة وجهها الى الأرض وبيدها صرّة ملابسها :
— أنتِ مرة أخرى .. ؟ الم أطردكِ .. ؟ لماذا عدتِ .. ؟ قلت لك أن لا مكان لك في هذا البيت ..
تنفجر باكية .. تطيح دموعها بكل أسئلتي :
— ليس لي مكان آخر أذهب اليه .. أنت تعرف سيدي أني يتيمة .. لا أهل لي غيركم .. !
تعطس وتسعل .. تحاصرني .. وأنا أراها في هذا الحال .. اكتشف مدى سخف موقفي وأنا أسد عليها الباب بجسدي .. واضح أنها لا تفكر في الانصراف ولم تعد لدي الجرأة الكافية على اغلاق الباب في وجهها .. تراجعتُ خطوة صغيرة الى الوراء .. وأشرت لها بحركة باترة من يدي حتى لا يمتد الحوار بيننا أكثر .. بأن تدخل .. أسمعها تتنهد في ارتياح .. ثم قلت معاتباً :
— بعد كل تلك السنين التي عشتيها معنا .. كنا نعتبرك واحدة من العائلة .. وأخيراً تسرقيني ..
— أقسم بقبر أمي لم أفعل .. كيف لي أن أسرق نفسي .. أسرق بيتي .. انك تظلمني سيدي ..
— أين ذهب العقد اذن .. ؟ انه كل الذي بقي لي من رائحة المرحومة ..
يكتسب صوتها نبرة صادقة وهي تواصل الحديث :
— صدقني لا أعرف .. مثلما حضرتك تحرص على ذكرى المرحومة .. أنا أحرص عليه أكثر .. لقد جئت الى هذا البيت وانا طفلة في العاشرة أيام والدتك الله يرحمها وانا الان في الثلاثين .. عشرون عاماً آكل وأشرب معكم في نفس الطبق .. كيف اسرقكم بعد كل هذا .. سيدي بالله عليك حاول أن تتذكر .. ربما وضعته هنا أو هناك .. أو تصرفتْ به المرحومة وأنت لا تعرف ..
تسير أمامي وأسير خلفها .. تلتفت الي وتهمس :
— هل تريد مني أن أنصرف .. ؟
— لا داعي .. اذهبي وجففي نفسكِ ..
يعود الهدوء الى نفسها والألق الى عينيها والحنو الى صوتها .. أسمعها تلهج بالدعاء لي ولوالديّ .. يسري بيننا دفء من تواصل حسي غير مرئي .. ! كنت أتمنى فقط أن تصمت .. فكلماتها الصادقة تتحول الى إبرٍ تنهش في ضميري المتعب ..
لقد نزعت وفاة زوجتي المبرر لوجود سعدية معي في بيت واحد .. ففي اطار مساحة البيت المحدودة لابد لنا من أن نلتقي .. نتقارب في جلستنا أحياناً .. وأحياناً نتلامس من دون قصد .. أشم رائحة جسدها .. وعبير أنفاسها .. وفي النهاية .. أتكوم وحدي على فراش خالٍ بارد موحش .. محروم من الدفء .. كيف السبيل يا الهي لحماية نفسي من نفسي المنتفضة ومن الأقاويل والنظرات المرتابة .. ؟
طارت من رأسي كل الحجج التي أعددتها فلم أستقر إلا على حجة العقد .. فادعيت سرقتها له .. تنكرت لضميري .. وطردتها لأبعدها عني وعن ضعفي .. ! واليوم عادت وعدنا الى جحيم البداية ..
تناولتُ معطفي ووضعته فوق كتفيّ وهممت بالخروج كأني أهرب منها ومن نفسي ومن الصراع المشتعل أواره داخلي .. حتى وجدتها تقف أمامي كالطود :
— لا تزال تمطر بغزارة .. انتظر حتى تكف ثم أخرج ..
قلت في صوت حازم :
— كفي عن هذه الألاعيب .. لا تدعي الأوهام تراودكِ .. لم أنسى سرقة العقد بعد .. احمدي ربك أني لم أسلمك الى الشرطة .. !
إبتعدتْ وبعد لحظات عادت وبيدها المظلة .. قدمتها لي بصمت ورأيت دموعها تملأ وجهها .. خرجتُ ولم أكن أدري الى أين أذهب .. هل أذهب الى بيت صديقي حازم لاشكيه همي .. ؟ استثقلت الفكرة .. قادتني قدماي الى مقصف اعتدت أن أرتاده أيام الشباب وبدأت أطفئ ظمأي بكأس ثم بآخر ثم بآخر وصورة سعدية لاتفارق خيالي .. وعندما ثقل رأسي حتى كاد أن يسقط في حجري .. صرخت بلسان ملتوٍ للغاية .. وأنا أضرب على صدري :
— أتعرفون يا سادة .. أمامكم كائن حقير ونذل .. كل الرجال أنذال بالمناسبة .. كللللهم ..
هلل البعض ورفعوا الكؤوس .. وامتعض البعض الآخر .. حتى صاح أحدهم : تكلم عن نفسك يا صاح .. بادلتهم بعض الكلمات العابرة التي لا قيمة لها .. ثم أفرغت آخر جرعة من كأسي في جوفي .. وعدت الى البيت ثملا .. أطرق الباب بكل قبضتي .. مستنداً بيدي الأخرى على الجدار في إنهاك واضح .. محاولاً التغلب على حالة الغثيان الفظيعة التي تراودني .. أُمسك نفسي في صعوبة حتى لا أتقيأ .. لم أصمد طويلاً فسقطت على الارض .. لا أشعر بشيء !
وفي الصباح .. وصلني تيار هواء بارد مخترقاً عظامي .. تململت في فراشي .. فتحت عينيّ .. الغرفة غارقة في الصمت والضوء يملأها .. وعندما استرددت كامل حواسي وتذكرت ليلتي السابقة كدت أن أقفز من سريري .. وجدت نفسي نظيفاً مرتديا بجامتي .. تطلعت حولي .. كل شيء يبدو لي طبيعياً كأي يوم عادي في حياتي .. نظرت في ساعة الحائط انها العاشرة .. انتفضتُ مفزوعاً .. صرخت :
— سعدية ..
وما كدت أُكمل الأسم حتى وجدتها واقفة أمامي حافية القدمين .. بثوبها الواسع الهفهاف ..
— صباح الخير .. سيدي ..
— لماذا لم توقظيني الا تعرفين ان عندي دوام .. ؟
— رأيتك تعبان فقلت في نفسي لن تنقلب الدنيا اذا لم تذهب اليوم ..
— تعبان .. ؟!
— نعم سيدي .. البارحة .. استفرغت بالكامل على نفسك .. لقد اخفتني حتى الموت .. لم أكن أدري ماذا أفعل .. فكرت في أن أطرق الباب على جارنا أبو محمد واستنجد به .. و ..
قاطعتها بعنف وهتفت من بين أسناني :
— تريدين أن تفضحيني .. هيا اغربي عن وجهي .. واغلقي الباب خلفكِ .. الدنيا برد .. !
قبل أيام .. اقترح علي صديقي حازم أن أتزوج .. وقال .. أنت لاتزال شاباً .. من الغباء أن تزهد بالحياة من أجل شخص مات وانتهى حتى ولو كان عزيزاً .. لعل في زواجك الثاني فرصة لان تحقق حلمك الأول في أن تخلف ولداً .. !
ولم تمضي سوى أيام قليلة حتى جائني وأخبرني بأنه وجد لي زوجة .. قريبة زوجته .. مطلقة في الخامسة والثلاثين .. جميلة ومتعلمة .. وحدد لي يوما ألتقيها فيه وتم الإتفاق أن يكون اللقاء في بيته .. فذهبت بعد أن ارتديت أحسن ما عندي وتعطرت ..
اقتنعت بها من حيث المبدأ .. شكلها لطيف انيقة متكلفة تتكلم كثيراً .. لمحت في بعض تصرفاتها شيئاً من أنفة وهو ما لم يعجبني فيها .. طلبتْ أن تزور بيتي لتطمأن على المكان الذي ستعيش فيه .. حددنا موعد الزيارة بعد يومين .. وعند عودتي طلبت من سعدية أن ترتب البيت وتنظفه رغم انه نظيف يتلألأ كالكرستال ..
— عندك وليمة سيدي .. كم عدد أصدقائك حتى أحسب حسابي على الأكل ..
قلت انها سيدة تريد أن تزورنا ربما ستصبح زوجتي إن أعجبها البيت .. انسحبتْ الى المطبخ وواصلت عملها دون أن تتفوه بكلمة ..
وجاءت منى .. استقبلتها سعدية بالترحاب .. لكنها تجاهلتها .. ثم أخذت جولة في البيت وقالت إن البيت كبير وقديم .. قلت انه بيت العائلة تزوجتُ فيه بعد وفاة والديّ وانت تعرفين الباقي .. أومأت برأسها .. ثم قالت انه بحاجة الى ترميم وإعادة تأثيث على الطراز الحديث لأن كل ما فيه قديم ومستهلك وقد عفا عنه الزمن .. ثم أشارت الى صور لعائلتي كانت معلقة على الجدران وقالت نرفعها ونضع محلها لوحات لفنانين عالميين .. أُريد أن أرفض لكني أتذكر حاجتي الى زوجة لأنهي مأساتي .. فأقول نُبقي على صورة أبي وجدي ولك أن ترفعي الباقي .. واشترطتْ شرطا آخر بأن أتخلص من سعدية لأنها لا تثق إلا بخادمتها الخاصة .. رفضتُ المقترح فوراً ودون تفكير .. وفشلت المساعي في اقناعي بالتخلي عن سعدية أو اقناعها بالتنازل عن هذا الشرط .. فانهار المشروع ..
وزارتنا كورونا كما زارت الملايين من البيوت حول العالم واستطاعت بمنتهى السهولة أن تخترق حصوني الهزيلة وتدكها دكاً .. فسقطتُ طريح الفراش أعاني سكرات الموت .. لم يقترب مني أحد .. حتى الطبيب اكتفى بوصف العلاج وابداء النصائح عن بعد ..
لم يبقى لي سوى هذه المرأة التي بعثها الله لي لتكون سببا في بقائي حياً حتى اللحظة .. كانت الوحيدة التي تدخل علي متسلحة بعزيمتها وبوسائل الوقاية من كمامات وواقيات .. تمدني بالطعام وبحبات الدواء في مواعيدها دون أن تبالي بخطورة المكان .. مرت أيام مرضي الصعبة ووجه سعدية يطاردني .. أكاد أحس بأنفاسها قريبة مني .. وجودها يبعث الامل في نفسي .. تمسكت بأهداب الحياة من أجلها .. وتجاوزتُ مرحلة الخطر .. ثم بدأتُ أسترد عافيتي شيئاً فشيئاً .. !
وبمجرد أن تعافيت لم أستطع نسيان موقفها معي .. فأتخذت قراري النهائي ولا رجعة فيه .. استدعيتها .. انعكس نور النهار على وجهها ورأيته كأني أراه لأول مرة .. بدا جميلاً كحلم وردي دافئ .. شكرتها أولاً على موقفها النبيل أيام مرضي وقلت :
— سعدية ..
— ( تخفض رأسها ) .. نعم سيدي ..
— أولاً .. أرفعي رأسك ولا تطأطئ هامتكِ لأحد مهما كان .. فاهمة .. ثم قولي عادل بدون سيدي .. ( أكملتُ .. ) اسمعي .. انا عادل عبد الباقي .. أمام الله .. أطلبك من نفسك فهل توافقين أن تكوني زوجتي وانشاء الله أم أولادي .. ؟
بكت وقالت في همس كأنها نسيت نفسها :
— سأكون خدامتك طول العمر .. لا تتصور سيدي .. كم أحبك .. والله .. !
لم تُكمل .. هربت من أمامي .. لكني لمحت نظرة فرح طاغٍ في عينيها ..
اليوم أنا سعيد .. بل في منتهى السعادة .. اتصلت من فوري بصديقي حازم وقلت له أن يوقف مساعيه في ايجاد زوجة لي لأني وجدتها بالفعل .. هلل وقال :
— هل أعرفها أو أعرف أهلها ؟
قلت :
— تعرفها نعم أما تعرف أهلها فهذا مستبعد .. وحتى أختصر عليك الطريق .. انها سعدية ..
— الخدامة .. !
— أرجوك حازم .. ستصبح زوجتي ..
— ولماذا سعدية .. هل خلت البلد من النساء حتى تختار سعدية .. ثم أين الناس مقامات .. وأين التوافق الفكري .. اللذان صدعت بهما رؤوسنا .. أم نسيت .. ؟
— لا لم أنسى .. دعنا من المقامات الآن .. لا تكن طبقياً .. أما بالنسبة للتوافق الفكري وهو فعلا ما يثير قلقي .. سأنزل الى مستواها وأحاول أن أدفعها لتكمل تعليمها .. فهي ذكية .. والله يستر .. ألا تذكر المثل الذي يقول : تزوج التي تحبك ولا تتزوج التي تحبها ..
— قد أتفق معك في هذا .. لكن الحياة لا تمشي بالامثال .. ثم الزواج يا صديقي ليس مشروعاً خيرياً .. ممكن ترد لها الجميل بطريقة ثانية وليس بفاتورة الزواج منها .. أخشى أن يكون قرارك يا عادل انفعالي متسرع .. ومجرد نزوة .. أو اشتهاء ورغبة .. أخاف أن يتحول يوماً الى كابوس .. هذا رأيي وأنت حر ..
— يبدو لي أنك غير مقتنع .. ؟ ( لا أتلقى منه إجابة .. ثم أُكمل .. ) .. انشاء الله ما اقتنعت .. !
وانفجرنا ضاحكين .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟