الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكتب لكم من الجنوب ( 8 )

علي فضيل العربي

2022 / 11 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


ما زلت أكتب لكم من الجنوب ، و هذا معناه ، في علمي الأحياء و الاجتماع ، أنّني مازلت على قيد الحياة . و لو أنّها لا تشبه حياتكم الحياة ، في كليّاتها و جزئياتها ، في إجمالها و تفاصيلها ، بل هي أكثر شبها و قربا من الموت .. سأوضّح لكم ذلك ، فعذرا إن انحلّت عقد لساني ، و تناسلت كلماتي و جملي .. فصبرا في مجال البوح صبرا .
لعلّ الأخبار الفظيعة قد بلغتكم من الجنوب ، عبر وكالات أنبائكم المنتشرة ، هنا و هناك كالفطريات في المناطق الرطبة ، و كالنجوم في الفضاء الشاسع - لقد حوّلتم الكوكب الأرضي إلى قرية صغيرة ، كما تدّعون ، و أطلقتم العنان لآلاف الاقمار الصناعية ، لخدمة البشريّة ، كما زعمتم ..
لقد غرق مركب القادمين إليكم ـ كانوا سبعين نفرا حسب شهود عيان ـ و طفت أجسادهم المنهكة ، بل هياكلهم العظميّة ، المتدثّرة بأهُب سوّدتها الشمس الحارقة ، و تقيّا البحر بعض الأجساد ، و دفعتها أمواج غربيّة أو شرقيّة نحو الشاطيء الجنوني . و كأنّ البحر يصرخ بأعلى أمواجه في وجه اليابسة : هذه بضاعتك رُدّت إليك ؟ فتردّ اليابسة غاضبة ، باكية : لا ، أيهّا البحر ، أرسلتهم إليك أحياء ، سعاة في كلب الحياة ، فتردّهم ، بل ترميهم لي أمواجك جثثا منتفخة ، بلا عيون . لا ، أيها البحر ، لقد خلقك الله لتكون مصدر جود ، تجري على ظهرك الفلك محمّلة بالخير و الحريّة من ضفة لأخرى ، لا لتمسي مقبرة لأبنائي المساكين ، الطين هربوا إلى أحضانك ، طلبا للحياة .
و يردّ البحر ، و قد أخجله كلام البرّ : أنا برىء ممّا تقولين ، أيّتها اليابسة . ليس أنا من أغرق أبناءك . بل أنت من أغرقهم . لو وفّرت لهم الحياة الكريمة ؛ حياة الحريّة و الكرامة ، ما فكّروا ، لحظة ، في امتطاء قوارب لا تصلح للإبحار البتّة . أيّتها اليابسة ، لا تجعليني شماعة لقذاك و عورك .
و هكذا ، حصد الموت أرواح المستغيثين بكم ، الهاربين من لظى القهر و الاستبداد و الجوع و المرض و جفاف الطبيعة ، و جفوة القلوب . و كان المركب الخشبي المهترىء غاصا حتى الحلق بالشباب و الكهول و النساء و الأطفال الرضّع . و هلكوا بين قيظ البرّ و أمواج البحر . منهم من ظهر جسده ، و منهم دُفن في لحد البحر بلا كفن ، بلا وداع ، بلا نظرة أخيرة .
أتعلمون يا سادتي الكرام ، لماذا ماتوا غرقا ، و من المتسبّب في ذلك ؟ و من المشتبه فيه ؟ و من المتّهم ؟ و من المستفيد ؟ أنا على يقين ، أنّكم تعلمون السبب . لم يكن الخبز هو السبب فقط ، رغم اشتياقهم إلى رائحته . لا ، يا سادتي الكرام ، لقد انتُزِعت منهم الحريّة . و سُلّطت عليهم الوحوش الضاريّة ، و نَهشت أرواحهم كلاب الاستبداد ، و دملت أجسادهم من ضربات الجلاّدين ..
إنّكم ، يا سادتي في الشمال ، منشغلون بالحرب الحاميّة الوطيس بين الإخوة الأعداء في روسيا و أوكرانيا . حرب ، سادتي ، لا تنتج سوى الموت و الخراب . في كلّ يوم نسمع عن مقدار الأموال التي ترصدها حكوماتكم لفائدة الحرب . ملايين الدولارات تأكلها نيران الحرب في كلّ يوم .
أمّا نحن ، أهل الجنوب ، فقد تحوّلت الحياة في أرضنا إلى سراب بذي قيعة ، نحبو خلفها و نزحف ، لعلّنا ننجو من طوفان الموت .
آه ، يا سادتي ، لو تكرّمتم - فضلا و ليس أمرا - و أوقفتم نيران هذه الحرب المجنونة . و عاد الناس إلى مساكنهم و ضياعهم و مدنهم و قراهم ، ليواصلوا إشعال شموع الحب ، و تبادل قصائد الغزل العفيف ، و يعود الفلاّحون إلى حقولهم لبذرها و حرثها ، و هم يترنّمون بأغاني الخريف ..
آه ، لو تُوقِفوا هذه الحرب الفظيعة ، كي يعود الأطفال إلى روضاتهم و مدارسهم و ألعابهم و قططهم . و يعود الشيوخ إلى ساحات المدن ، لينثروا الحب أسراب الحمام ، و يغرفوا من بحور الذاكرة حكايات الشباب و الكهولة و العشق و السلام ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر