الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجه الخير بين إذاعتين

كمال جمال بك
شاعر وإعلامي

(Kamal Gamal Beg)

2022 / 11 / 17
الادب والفن


بمنكاشتي أسنان خشبيتين وخز خاصرتي ورقتين بطول سبَّابتين وعرض سبَّابة ووسطى، بعدما وشم عليهما علمين متكاتفين، علم استقلال بلاده وثورتها، وعلم البلاد التي احتضنته ومنفاه، وثبتهما بلاصق مستعار من غرفة الممرضات على باب غرفته من الداخل، وتركه مواربا أحيانا، ونصف مفتوح يترنَّح في ممر المشفى أحيانا ثانية.
وفي عمق الزاوية اليسرى البعيدة قبالة الباب، رست طاولته كمنصة استديو، وعلى سطحها كائناته الصحفية، كمبيوتره الشخصي، وموبايلاه السوري والسويدي، ونثار أشلائه من دفاتر، وقصاصات مجلات، ومحارم طعام، وقطع كرتونية لمواعيد الوجبات، وعليها كلّها آثار كتاباته المطلسمة بمجاذيف أقلام الرصاص.
********** **********
الرصاص!.. الرصاص! تردَّد أزيزه في غرفة مدير الأخبار، بعد أول قطرة دم سفكت في درعا: "يا أستاذ هشام هؤلاء أهلنا، والدم يستجلب الدم". الرصاص.. الرصاص استحالت حروفه بعد الثامن عشر من آذار، وما تبقى من فوارغ في وجه الخير.
********** **********
"هنا دمشق" لم يكن في زهوتها خيول ولا أمراء يعتلونها، ولا سيوف يقطعون الرقاب بها، ولم تكن فصائل وشعارات دينية، أو رايات سوداء وأخرى بيضاء، ومبكرا أكد مدير الإذاعة في إحدى التحقيقات بغرفته: سترونهم بعيونكم، وما كان يقرأ المجهول، بل كان يعرف ما يعد له من معلوم في أفرعه الأمنية. حتى صار ما فوق الخيال واقعا إجراميا مع إطلاق وحوش التطرف من سجون نظامي دمشق وبغداد. ومن أوائل ضحاياه في منطقة جديدة عرطوز حيث سيطرة جيش النظام، صديقه المذيع محمد السعيد الذي اختطفته مجموعة مسلحة وقامت بتصفيته، لا بالرصاص بل بوحشية السكاكين. وتبنت ذلك بمسمى "جبهة النصرة التابعة للقاعدة في بيانها الإرهابي رقم 10".
********** **********
"هنا دمشق/ الإذاعة السورية". حرّة باللونين الأبيض والأخضر.
هنا بأدوات تحريره ونشره وبثه وإرساله. وعلى صفحته الفيسبوكية الشخصية، وعلى أثير هواه، مطعَّمة بألوان خبرات موروثه الشعبي والديني، ودراسته الفلسفة وعلم الاجتماع، مما اختزنه وجدانه، لا من رماد ذاكرته في فرن الجحيم.
"هنا الجحيم" ليس قاعة أو قسم الأخبار، ولا الدائرة الثقافية، أو الموقع الالكتروني للإذاعة والتلفزيون، وليس الاستديو هات أو غرف اللقاء بالضيوف أو الاتصال بهم، ولا المكسر الفني لمتابعة البرامج في المراقبة العامة.
"هنا دمشق" وعلى سعيرها ما أدركت نفس نفسها، ولا أحسَّت بما ومن حولها، هنا اختلط الفجائعي واقعا مع الكابوسي في هلوسته، وارتدى الخذلان جبّة وعمامة في المنفى، ولبس الغريب طقما رسميا وبوطا جلديا من دون جوربين، وربط خصره بعلم الثورة من نسج أمه، ووقف ساعة صمت تحت الثلج، حدثه قلبه بأنها حداد على الشهداء، وسار على الأرصفة بمظاهرات فردية، تلا بها في سريرته آيات على نوله وخيوطه، ولاذ برفاقه وزملائه وجيرانه وجوه الخير، وفي كل هبّة استجار بهم، طلبوا له الإسعاف أو سيارة الشرطة لمساعدته للوصول إلى مبنى الإذاعة في المشفى.
********** **********
"هنا دمشق" والإرسال التجريبي مبحر بغزارة 24/ 24، منفلتا من دون بوصلة ولا أشرعة ولا صواري، صفرت به الريح إلى سطح المبنى المطل على ساحة الأمويين والسيف الدمشقي، السطح الذي سلخ من عمره في بداية عمله مؤقتا ست سنوات، السطح الذي احتلت عمائم سوداء ركنا منه، ونصبت فيه أجهزة إيرانية، السطح الذي تسلل فيه، بين أجهزة البث الستالايتات الضخمة بعيدا عن الأنظار، وكتم صفيره لهول ما شاهد من عصابات الشبيحة بأسلحتهم ودروعهم خلف سور الإذاعة، السطح الذي ما عاد له درج يوصل إليه تبعا لأوامر الحواجز العسكرية في كل طابق.
********** **********
"هنا دمشق" لقَّم الغريب موبايله السويدي، وطاف في الممرات وصالتي الاستراحة والمطعم، وعاد بصيد ثمين لزوايا متنوعة، ولنزلاء مختلفين، وبدأ نشرها تباعا، وفي إثر هاتف خارجي التقته ممرضة في الممر، وبين الكلام والإشارة تفاهما واتفقا:
- التصوير ممنوع مع إشارة (×) وإشارة إلى الموبايل.
* لا يوجد إعلان بذلك مع إشارة بتلويحة الراحتين وإشارة مربع إلى الحائط.
هرولت الدقائق فعلقوا إعلانات كأنها جاهزة، الإعلان مربع أبيض في داخله دائرة حمراء، في داخلها كاميرا فوقها إشارة (×) حمراء، قرأها مرتين، ذهاباً: ممنوع التدخين. وإياباً: دائرة مربَّعة. سمع هذه الجملة في دراسته الجامعية في المنطق غير أنه - يا للجحيم - قالها هذه المرة ونسي الضحكة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي