الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وحيداً على قرن وحيد القرن

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 11 / 17
الادب والفن


الضفادع مصطلح نحتته الثورة السورية -باقتدار- كرد فعل لمعاني الغدر والخيانة وذهنية الاستسلام لمشيئة الطاغية، ولوصف أولئك الذين يستسهلون الحياة فيقدمون على التضحية بإنسانيتهم ليتحولوا إلى "ضفادع". ومع الإقرار بعبثية هذا الوصف وغرائبيته، إلا أنه يعبر عن عمق المعاني التي أوجدته، فآلية الاستحالة إلى ضفدع تشبه كثيراً ما طرحه يوجين يونيسكو* قبل نحو ستين عاما في مسرحيته الشهيرة "وحيد القرن أو الخرتيت". وكان يونيسكو قد وظف "الخرتيت" كمجاز للتعبير عن وحشية البشر وعبثية الوجود الإنساني ككل ضمن إطار لاواقعي يتحول فيه البشر إلى خراتيت كاستعارة عن الطغيان والاستبداد. وبهذا المعنى يكون "التضفدع" معادلاً موضوعياً "سورياً لفعل وآلية" الخرتتة كمعيار لتجسيد ملموس يعبر عن انحلال القيم الإنسانية، وتدهور معناها والانحدار بها نحو "الحيونة" كما يعرفها ممدوح عدوان. ورغم كل تقدم وصلت له البشرية مازالت عقلية الضفدعة والخرتتة متأصلة ونراها ماثلة أمامنا.
من البديهي القول أن معظمنا لم يعش صعود الحركات الشمولية الكبرى "الشيوعية والفاشية والنازية" في بداية القرن الماضي، وما خلفته من خرتتة للفرد والمجتمع. لكننا -جميعاً- عشنا، وما زلنا نعيش أحداث المشهد السوري الذي خلق، فضلاً عن كارثيته، من بين أشياء عدة خلقها، التضفدع كأسلوب حياة وبائي معدي يقتات به البعض، فالتضفدع- الخرتتة ليست سوى أحد أوجه التشريع الشمولي لحكم البشر الذي تتجلى تعابيره الفظة في مقولات تقع في أقصى التطرف الإنساني مثل ".. أو لا أحد" و".. أو نحرق البلد"و ".. أو الركوع".. وغيرها من صيغ المفاضلات التي على السوري أن يعيشها اليوم كواقع يعبر عن الجوهر الحقيقي لما كانت تعنيه النازية أو الفاشية، أو أحد صور الشيوعية المتمثلة في عبادة الشخصية، إذ يحفظ لنا أرشيف الدولة الروسية الكثير من الخطابات المرسلة إلى ستالين من قبل رموز داوئر الحكم في الاتحاد السوفييتي، مثل تلك التي قام "الضفدع" ميكويان بكتابتها بمناسبة عيد ميلاد رئيسه (ستالين) حين يقول: "أفعل أي شيء من أجل أن ألتقط كل الدروس المستخلصة من انتقاداتك القاسية والمحقة في آن لتساعدني على العمل تحت راية حكمتك وقيادتك الأبوية". أو تلك الشهادة التي ترويها ابنه ستالين عن رئيس المخابرات السوفيتية "الضفدع" لافرينتي بيريا لحظة دخوله على أبيها فتقول: "عندما صحا لوهلة من غيبوبته.. انحنى (بيريا) على ركبتيه يقبلهما، وما إن عاد إلى غيبوبته، وقف على قدميه وبصق عليه".
يحفظ لنا تاريخ الإبداع العديد من الأعمال التي عالجت موضوعات الشمولية والاستبداد والطاغية، بل ربما كانت هذه أكثر المواضيع التي شغلت عقول الكتاب والفلاسفة والفنانين وغيرهم من المبدعين في المجتمعات المختلفة. وإذا كان الأصل في الإنسان هو انتمائه للمملكة الحيوانية -كتصنيف بيولوجي- فإن مثل هذا التصنيف يستوجب النظر له، من هذه الزاوية، من منظور "القطيع" كسلوك وغريزة. ولكن [دائما هناك ولكن]، طالما اعتبر الإنسان نفسه أذكى "الكائنات"، فلذلك قام باختراع آلية التصنيف تلك فنأى بنفسه بعيداً عن نمط القطيع الغريزي "غير المفكر"، وعن صورة الحشد الذي يتنافس على "المرعى".
وهذه الآلية هي التي يدعوها هيغل التمايز بين الطبيعي والثقافي من جهة، وبين الموروث البيولوجي والاجتماعي من جهة أخرى. والقدرة على التثبت البنيوي في جعل الموضوع الطبيعي طبيعياً والثقافي ثقافياً، بمعنى اكتساب الأسماء للصفات التي يسبغها الإنسان عليها (بوصفه أذكى المخلوقات). وفي المقابل، تقوم الخرتتة- التضفدع على سلسلة من اللامعقولات لتخلق "زمن ثقافي" أو "زمن مدني" أو "زمن اجتماعي" لها، كما طرحه جورج أورويل في مزرعة الحيوانات، في تضاد واضح مع المأثرة الهيغلية التي تصر على ربط الزمن بالإنسان بوصفه [أي الزمن] عنصر"طبيعي" يختص به الإنسان وحده عن سائر الكائنات التي تنتمي لزمن خطي أحادي الجانب ووحشي. زمن فيزيائي لا يحتمل الإشكاليات الجدلية المتعلقة بحالته الوجودية والتي يراعى فيها الثابت البنيوي البيولوجي والموروث الاجتماعي -الثقافي.. فالقيم التي ننسبها عقلانياً إلى "العقلانية" ليست سوى قيم بنيت رويداً رويداً على أنقاض هيكل إرادة الحياة بالمعنى النيتشوي، وكذلك على أنقاض الغرائز باعتبارها أكثر الأشياء حميمية من مكوناتنا كاللذة والشبق والليبيدو والتملك والتدمير (وهذه الأخيرة تبدو كاستلهام فرويدي بامتياز).
فالأصل هو أن نقول أن الفكر البشري لا يتوقف عن الإنتاج، طالما بقي إنسان على هذه الأرض، بل ينساب بزخم مثل أمواج تتقلب وراء بعضها البعض وتتداعى فيها، بصورة حرة، معاني العلاقة المترابطة بين القرائن والدلائل ذات الإيحاءات المتعددة. ووحيد القرن، بهذا المعنى، كهاجس ذهني هو أحد هذه الدلائل الذي يمكن تناوله في أكثر من مستوى؛ فهو حيوان، ضخم، ذو منظر مرعب أو على الأقل غير مريح (مثله مثل الضفدع)، وهو دكتاتور، وأب "بمعنى بطريركي عشائري" وهو فكرة طاغية وشمولية وهو سلطة أو قوة السلطة.
وهذه الصورة التي تمثل الإنسان المقهور كانت قد عبرت عنها الروائية الإيطالية فرانشيسكا بيللينو في روايتها عن أحداث الثورة التونسية "على قرن وحيد القرن" التي صدرت في العام 2015، وتستعيد بها الروائية بيللينو وقائع الثورة التونسية من خلال العلاقة التي تربط ماريا الإيطالية بصديقتها مريم التونسية، التي كانت قد هاجرت إلى إيطاليا بحثاً عن حياة أفضل فتصطدم هناك بواقع الغرب رغم توهمها أنها حققت خلاصها عبر "الجنس والعمل والتنورة القصيرة" فتعود إلى بلدها متحدية وحيد القرن (وهو هنا زوج أمها الذي حول الأسرة إلى قطيع مسلوب الإرادة، لا حول له ولا قوة) لتموت هناك.
تقرر ماريا القدوم إلى تونس للمشاركة في جنازة رفيقتها فتباغتها الثورة فتقوم برصد تطلعات الناس الذين يبدون مثلهم مثل غيرهم في أمكنة أخرى من حيث تداخل الخاص والعام في حياتهم بطريقة يصعب الفصل بينهما على اختلافهم وتباينهم لحد التناقض، ومن خلال تتبع يوميات الثورة يظهر لنا في سياق الرواية عمق الخوف الكامن في عقول الناس من الطغيان والفساد الذي زرعه وحيد القرن الأكبر (الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي). فوحيد القرن هنا ذو وجه مزدوج، فهو من جهة النظام البطريركي المهيمن على العلاقات الإنسانية، وهو من ناحية أخرى صورة السلطة المتمثلة في استبداد الحاكم وحاشيته. وهي صور تتشارك فيها جميع الدول العربية سواء التي قامت فيها ثورات أم لا. وهذا لا يختلف جوهريا عما كتبه يونيسكو؛ الذي يتلاعب بعقولنا حين يسائل بعض الصفات البيولوجية لوحيد القرن لأنسنتها، فمن المعروف أن حيوان وحيد القرن يمتلك قدرة بصرية ضعيفة للغاية مما يجعله يستخدم الهجوم، قبل معرفة هدفه، كأسلوب دفاعي مبدئي، وكثيراً ما يكون وحيد القرن نفسه أحد ضحايا هذا الهجوم لتسرعه واندفاعه الناتج عن "قصر نظره"، ولاننسى أن هذه الميزة تقلل من قدرته اعلى استغلال مزايا أخرى هامة لديه مثل "ثقله"، أي وزنه الضخم وسرعته في الجري، وتشير بيانات موقع "ناشيونال جيوغرافيك" على أن هذه الخاصية المتعلقة بقصر نظره تجعله يميل للعيش منعزلاً بصورة تامة "مثل الدكتاتور؟" ورغم عزلته هذه فهو لا يستطيع الهرب من العلائق والطفيليات التي تعيش عليه وتمتص من جسده ما يعادل 4 لترات من الدم يومياً، مما يؤدي هذا به إلى الغضب السريع، وهذه إحدى الصفات التي كونها البشر أولاً عن وحيد القرن مما يجعله أيضاً -نتيجة هذا الغضب- أحد أكثر الحيوانات غباءً (وتلك صفة يحلو للبعض وصف الدكتاتور بها).
جميع هذه الصفات يطرحها يونيسكو بأسلوب يمزج بين التهكم والكوميديا (سيهمس لنا، دون أن يصرح، وهو يحاول أن يفسر آليات التحايل العقلي لقبول الاستبداد، أن خطر وحيد القرن على الإنسان أقل بكثير، موضوعياً، من خطر أولئك الذين قرروا أن يتخرتتوا "اقرأها أيضاً يتضفدعوا" بمحض إرادتهم).
و إذن؛ لم يعد النقاش يدور حول من هو المستبد بقدر ما يدور حول من يقبل أن يكون مَداساً للمستبد. ولتوسيع الرؤية أكثر، القبول به [المستبد] وبما يمثله من "حيونة" لكل المعاني والقيم الإنسانية النبيلة، فعلى مر العصور عرف البشر الطغاة وعانوا منهم ، وعلى مر العصور كان هناك من يفرش الدرب الإنساني لحيونته وخرتتته .
لقد استجاب سكان بلدة يونيسكو لنداء الفكر الشمولي فتحولوا طواعية إلى خراتيت مثلما استجاب البعض لذات النداء، فتحولوا إلى ضفادع. لايهم الآن أي قول أو تبرير، أو حتى تفسير، فالواقع يشير إلى أن "تطبيع" التحول إلى الخرتتة.
فما العمل؟
هل سنجتمع لنسأل عن جنس الملائكة ومدينتنا يحاصرها الأعداء؟
ماذا يفيد السؤال عن عدد قرون الخرتيت أو جنسها أو عدد الضفادع في سياق الهذيان السائد؟.
يزيد يونيسكو من عبثية واقع البلدة حين تقول إحدى السيدات لرب عملها أن زوجها لن يستطيع الحضور لأنه تحول إلى خرتيت فيرد عليها رب العمل بتهكم بأنه يمكنها أن تطالب شركة التأمين بمبلغ التأمين على الحياة. ويبلغ التهكم ذروته -لدى يونيسكو- عند هذا الحد الأعظمي من الانحراف عن جوهر المشكلة بالسؤال عن جنسية الخرتيت، هل هو آسيوي أم أفريقي؟ وهل مثل هذا السؤال ينطوي على تعصب عنصري بطريقة ما؟ أم السخرية من المتضفدعين بالسؤال عن طريقة تكاثرهم
...............
*كتالوج تعريف يوجين يونسكو على مواقع الإنترنت يقول أنه ولد سنة 1909 في رومانيا لأب روماني وأم فرنسية، وتوفي سنة 1994. يعد -مع صموئيل بيكيت- من أبرز من كتبوا في مسرح اللامعقول، وتصف أعماله -بطريقة لاتخلو من السخرية و التهكم- عبثية أوضاع الحياة وعزلة الإنسان وعدم الجدوى و الغاية من وجوده على هذه الأرض. من اهم أعماله: "المغنية الصلعاء"، "وحيد القرن أو الخرتيت"، "مكبث" [وهذه الأخيرة اقتباس حر من شكسبير]، وغيرها من الأعمال المسرحية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل