الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النبوءة ... قصة قصيرة

منى نوال حلمى

2022 / 11 / 17
الادب والفن


النبوءة .. قصة قصيرة
-----------------
أتى المساء،
وتلألأت أضواء كـون غير مُبالٍ هل يسكنه بشـر أم حجر ، سيان لديه الحزن والفـرح .. أفاقت السماء من خمرة ألـوان تثير في النفس ألف إيحاء ..
غرد الكروان أغنيات تلقي الحكمة للشجر..
أتى المساء،
وتهيأ النيل لشكواه الصامتة ، لاحتضان أمنيات العشاق وعابري سبيل لا ينتهي ولا يبين ..
تجملت المدينة وللجمال قسوة لا يخفيها..
تتراقص الأنجم ، وتجذب من النفس إيقـاعـا منسيـا تتمنـاه الذاكرة ..
أتى المساء،
يناديني الثوب الأسود الجديد أن أرتديه ..
حاصرتني علامات الاستفهام . لِمَ ارتباكي .. لِمَ الذكريات .. والكون بأسره لا يبالى .
أتى المساء،
أتي يذكرني بالموعد.
ضيف قادم بعـد لحظـات . أعرفه ولا أعرفه. لِمَ دعـوته الليلة ؟ . أي حـوار يمكن أن يجمع بيننا ؟. مـا الـذي يمكن أن نفعله معاً الليلة ؟ . ما الذي يمكن أن تفعله امرأة مثلي مع أي رجل ؟.

أتى المساء،
أطل على وحدتي بقامته الفارعة .
بثقة النبي المـؤمن برسالته ، القادر على صنع المعجزات ، دخل محرابي .
- :« هل تتقبلين هديتى يالبسيطة ؟ ».
- : « هدية ؟! ما المناسبة ؟ » .
- : « أول مرة تسمحين لي بـالـدخـول إلى محرابك ، ألا يستحق الأمر هدية ؟ ».
- : « لِمَ تتعجل الحكم ؟ .لا نعرف بعد هل يستحق أم لا ».
- :« ألا تعرفين أني مغـامـر كـبـيـر ، أعشق الخطـر ومستعـد لكل احتمال» .
هديته تزعجني ، فهي تَنُم عن رقة لستُ مُهيأة لتحمل تَبِعاتِها .
ينظر إلى الكأس الفارغ ، ومنه إلى عينيَ ويقول :
- : « هل لنا أن نشرب نخب أول مرة أتأكـد فيـهـا مـن لـون عينيك ؟ . كم اشتقت لهذه الكأس المشتركة » .
يتكلم بسلاسة ، كأنه يعرفني منذ أول كأس بين عاشقين .
يتحرك كأن المكان بيته المفقود في العالم .
أرفع كأسي ، يرفع كأسـه ، لكن الكلفة بين العيـون ، لم تُرفع بعد .
رنة الكأسين تـوحي إليَ برعشـة . أرتعش ، وإذ تواجهني عيناه العسليتان يسري دفء يستغربه جسدي .
- : « ماذا تقرئين هـذه الأيام ؟ » . يسألني متخـذآ مكـاناً أقرب إليَ .
أســـألــه: « وهل يهمك الأمر ؟ » .
متحمسـا يقـول: « بالطبع ، أعندك شك ؟ » .
قلت : « ولماذا يهمك الأمر ؟ » .
بابتسامة يـرد : « الدخول إليك يبدأ من العقل ، وأنا مصر على الدخول إليكِ ».
أقــــــــــــول : « أقرأ عن حياة فرجينيا وولف » .
يأخذ رشفة من كأسه ويقول : « كان يجب أن أتوقع هذا؟ ».
أســـــــــألـــه : « ماذا تقصد؟ ».
يقــــــــــــول : «أنت وهي متشابهتان . غموض الأطوار ، عشق البحر ..
ارتباك الصحة .. حزن شارد بين السطور .. تمرد جامح ..
عقل لا يروض و ...
يصمـــــــــــت
تسأله نظرة عينيَ أن يكمل .
- : « ورفض الأنوثة . لكن أرجوكِ لا تسيئي فهمي » .
- : « أسيء فهمك ؟! الأمـر بسيط لا يحتاج لفهم أو سوء فهم . ألست
رجلا ؟ . هذا يشرح كل شيء .. » .
منفعـــلا :« لا ، لا ، أرجوك .. أنا أفضل من فهمك هذا بكثير ».
- : « قد تكون مختلفا بعض الشيء عن بقية الرجال . لكنك في النهاية
رجل ، ويهمك أن أقوم بدور الأنثى » .
- : « لا ، لا ، أرجوك .. ليس الأمر هكذا » .
أخذ رشفة .. رشفتين . أحدق في عينيه متسائلة :
« ما الأمر إذن ؟ » .
- : « ألديك شك في أنني أفهمك أكثر من هذا الحد ؟ . أعرف سبب
رفضك للأنوثة وأحترمه أيضاً ... لكنكِ لا تمارسين أنوثتك الخاصة ".

- : « لا أنتظر رجلا ليصنع مني أنثى ».
يرفع كأسـه قائلا: « أنا موافق. لنشرب نخب الأنوثة المختلفة » .
رفعت كأسي قـائـلـة: «مـوافـقـتـك أو عـدم مـوافقتك سيـان. لنشـرب نخب انتصاف الليل».
ينظر في ساعته ويقول : « حقا انتصف الليل ».
رنة الكأسين هذه المرة ، ترسل إليَ ألفة ، أسـأل- ما زلت - عن مبررها .
أحس أنـه يبذل جهـداً ، لكي أصـدق نبوءة عينيـه العسلستين . يا لجرأته في زمن لا يفهم لغـة العيـون ،لا يصلح للنبوءات .
شردت في التساؤل .
أفقت على يده تأخذ مني الكأس .
قــلــــــت : « كثيرون ممنْ نعرفهم يموتون هذه الأيام » .
- : « صحيح . وكأن القرن الواحد والعشرين يرتب لبداية جديدة من البشر ».
- : « ومن أين تأتي ثمار جديدة ، والبذرة لم تتغير ؟ » .
- : « لم أعرف أنك بهذا التشاؤم » .
- : «أتسمي رؤية الحقيقة تشاؤماً ؟ » .
- : «الموت يجدد خلايا الحياة » .
- : «أهكذا تفلسف الموت ؟ » .
يصب لي كأساً آخرى ، وهو يقـول : « وما العيب في هـذا ، ألست عاشقـة كبيرة للتفلسف ؟».
أسدد دين الرقة ، وبدوري أصب لـه كأساً آخرى وأقول : « خيط رفيع بين التوهم والتفلسف».
يبتســم قـــــائلا: هذا صحيح . لكـن المشكلة منْ يمتلك وحـده الحقيقة ليرسم الحـد الفاصل بين الأوهـام والفلسفة . منْ يحكم ويقول أنني رجل متوهم ، وأنكِ امرأة متفلسفة ؟ » .
أقـــــــــــول : « بالطبع هناك حدود فاصلة ».
قـــــــــــــال : « وبالطبع هناك زجاجة أخرى ؟ » .
فرغت الزجاجة ، وامثلات نفسي بحنين . غامض لا أدرى أين منتهاه .
- : «أخذت كفايتي » .
- : " وأنا أيضاً . لكن أحقا أخذت أنتِ كفايتك ؟".
- : « نعم أخذت حقا كفايتي » .
- : «شيء غريب لا أصدقه ».
أسأله مندهشـــة: «وما الغريب في هذا ؟ » .
- : « أنتِ لا تأخذين أبـداً كفايتك ، أنت عدم ارتـواء متنكرفي شكل
امرأة ، وأتصور لو أنكِ ارتويت يوماً ، أو أخذت كفايتك ، لكانت
نهايتك .. هل أنا مخطئ ؟ »
أصابني حـديثه بدهشة ، كيف يعرفني حتى هذا العمق ، ولا أدري ؟.
كيف عبـر إلى ما تحت جلدي ، ولم أشعر بجسم غريب ؟.
كيف لمس شريان وجودي ، ولم يقشعر دمي ؟.
يســــألنـــي : «لِمَ صمتك ؟ هل أخطأت ، هل بالغت ؟ » .
- : « لا ، لست مخطئاً ».
يعيـد الســــؤال : « أحقا أخذتِ كفايتك ؟ » .
أقــــــــــول: « أكره الحرمان . لكنني أيضاً أنفـر من الارتواء .. تألقي هـو البقاء في المنتصف بين الـحـرمـان والارتواء .. بالـحـرمـان تـذبـــل وتجف أوراقي ، مع الارتواء تتساقط وتموت . وحين أقول أخـذت كفايتي ، أعني أنني أتوقف عند ذلك الحـد في المنتصف . لا هـو النقـص ولا هـوالكفاية . لابد من بقية يجب ألا تأتي أبدا » .
قـــــــــــــال : « كفايتك هي ألا تكتفي . لكن ماذا عن البقية ؟ » .
- : « تلك البقيـة هي الحلم .. هي الخيـال.. هي الفن .. وهي سر
السعادة ..»
- : « كلي آذان صاغية » .
- : « السعادة هي الدهشة المستمرة ، تألق لا يفتـر ، هى تجـدد عنيد ..
السعـادة بقـاء على حافة الخطـر .. هي التأرجح مـا بين الرجوع
والسفـر . فهل بقـدرة الحرمـان الكامل ، أو الارتواء الكامل أن
يسعد؟».
يقـــــــــول : « الحرمان الكامل ؟ . بالطبع لا . لكن الارتواء الكامل .. "
أقـــاطعــــــه : « أنت مع الارتواء الكامل ، تغتـال الـدهـشـة ، .. تلغي احتمالات
التجـدد .. تحكم على العقل بالرتابة وعلى الإحساس بالفتور ، تعيش
الملل والأمان .. أي حياة وأى سعادة ، بل أي فضيلة في الارتواء
الكامل ؟».
يصمت لحظة ثم يقول : « لم أتصور الارتواء الكامل من قبل بهذا الشكل ».
امتزج نسيم مـا بعد انتصـاف الليل ، بصمت يكمل بيننا حـوارا ، أخـذ من مـلامحـه العـذوبـة ، ومنحني فرحـة الإصغاء.
أســـألـــــــــــه : « لماذا تريد معرفتي ؟ » .
فوجئ بالسؤال . وأنا مثله.
يقـــــــــــــول : « السؤال خاطئ . ولن أذكرك بما تقولين دائماً .. الأسئلة الخاطئة تقود إلى إجابات خاطئة » .
- : « لماذا أنا بالتحديد ؟ » .
- : « من الطبيعي أن يتحمس رجـل عـادي ، لمعـرفـة امـرأة
استثنائية . السؤال هـو .. لماذا تريدين أنتِ معرفتي ؟ . لماذا تريد امرأة استثنائية ، أن تعرف رجلا عاديا ؟".
- : " لست رجلا عاديا . لا يمكن أن تكون ".
- : والله رجل عادي ، أتعرفينني أكثر من نفسي ؟ .
- : « بل أعـرف نفسي . و إصراري على كـونك رجـلا غيـر عـادي ، هو تأكـد مني أكثر منه تـأكد منك . بـداخلي حساسية مرهفـة تلتقط غـيـر العـاديين من البشر . أنالا أسمح للرجل العـادي أن يزورني في محرابي .. ولا أشـرب نخـب منتصف الليل مع الـرجـل العـادي .. ولا أتأمل جمال المساء مع الرجــال العاديين . قد لا تكون استثنائيا ، لكنك بالتأكيد لست عاديا ».
- : « في الماضي ، عشت في وهم أنني غيـر عـادي لكنني الآن ... ".
- : « ليس من المعقول أن نتحاور كل هـذه الفترة وبهـذا الشكل ، وتكون رجلا عاديا .. لا أتصور أن يحضر رجل عادي هديتـك الرقيقة .. كيف تكون عاديا وقد اقتحمت- بكل اختياري - محرابي ؟".
- : « أهكذا الأمر؟ . قلت لكِ أنني تخلصت ونهائيا من هذا الوهم ».
- : « ولمِ لا تكون حقيقتك هي التي تخلصت منها؟ ».
- : «أريد أن أكون عادياً ، أليس كذلك؟ ».
- : «نعم .. تهرب من حقيقتك ..؟».
- : " وفي رأيك ، لماذا أهرب منها ؟ ".
- : « لأنك لا تستطيع تحملها ».
يتنهد .. يصمت .
لصمته حون يزيد ملامحه عذوبة، تقلل بين روحينا المسافات. مرة أخرى، تداعبني الألفة. لكنني هذه المرة ، لا أسأل عن مبررها.
يخرج الغليون ويبدأ في إشعاله.
كلي دهشة متسائلة: " أتدخن الغليون؟".
يرد وهو مستغرق في إشعاله : " أتضايقك رائحته ؟ ".
أقـــــــــــول : أبداً .. على العكس .. لم أر شابا في عمرك يدخن الغليون .. صدفة غريبة .. هل تعرف أن الغليون نقطة ضعف في حياتي .. كم يشدني الرجل الذي ..
مقاطعاً وتاركاً الغليون : " الذي يدخن الغليون .. أهذا صحيح ؟ ".
قلــــــــت : " نعم .. ".
قــــــــــــال : " أشكرك .. وأشكر الغليون .. ".
أســــــألـــه : " ما رأيك في رقصة؟ ".
قـــــــــــال : « وكيف لي أن أرفض ؟ » .
أعددت الموسيقى ، مددت يدي إليه .. أخذها .
ولا أدري كم من الوقت مضى ، والنغم ثالثنا . حقا حينما تعجز الكلمـة ، تبدأ المـوسيـقـى ، كما قـال الشاعر « هايني » .
مع الــرقص أصبحتـ نـبــوءة عينيـه أجمل ، وأولى بالتصديق .
- : « أترقص بهذه الرقة وتكون رجلا عاديا ؟ » .
- : « أنت التي تضطرينني .. معـكِ فقط أحس أنني مجبرعلى أن أكون رقيقا وجميلا وحساسا . معكِ فقط أحس أنه لا مفر من الرقة .. » .
- : « معي فقط ؟! » .
- : « مع النساء الأخريات ، لست مضطرا لأي شيء . معكِ فقط أشعر أنني لابد أن أحسب كل كلمـة وكل حركة .. معكِ فقط أحس أنني في اختبار عسير» .
- : " هذا بالتأكيد ليس إحساسا مريحا .. ".
- : « ولكنه يمتعني ويسعدني .. أعـرف نـسـاء أعيش معهن إحساس الراحة أما أنتِ .. أنتِ .. أنتِ ".
- : « أنا ماذا ؟ » .
قـــــــــــال : « أنتِ التعب الجميل .. أنتِ القلق الممتع » .
قلــــــــــت : « وتصر على كونك رجلا عاديا ؟! » .
لا تتردد عيناه في منحي ابتسامة لها ألف احتمال . أما أنا فابتسامتي مترددة. لـمِ التـردد ؟ . وهـو الذي في اختبـارعسير لا أنا.
تأخذنا الأنغام في رحلة لم نرتب لها . تلف بنـا الكون وتدور وتخلق لنا بين النجوم مكاناً ومبررا .
ويفاجئني بسؤال أحببته : « ما آخر أخبار الصداع ؟ » .
- : « ما زال ضيفاً منتظماً . هاجمتني بالأمس نوبة شرسة » .
- : « كم يعــذبني أن أقف متفـرجـاً . ليس عـدلاً أن يـؤلـم الصداع امرأة استثنائية ".
- : " لم أعد أبحث عن عـلاج ، لقد فلسفت الأمـر .. صحبته الآن تؤنسني في وحدتي ".
- : " لست مندهشاً .. هل أقول لكِ كيف ؟".
- : " أتعرف ؟".
- : " ثمن الاستثناء " .
- : وتصر على كونك رجلا عاديا ؟!
أتى المســـــاء ،
شيء ما بيننا يولد مع نسيم الليل ، والنغم الحزين .
شيء مـا يـؤكـد ، أنني لم أعـد في حيـاد مع نبـوءة عينيـه العسليتين .
أتى المســــاء ،
شيء مـا يـمـزج داخـلي التحسر .. بالتمني ، التـذكـر بالتردد .
مـــرْ المســــاء ،
كم أحببت صُحبته .
******************************************








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل