الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الظاهرة المحفوظية

عبدو أبو يامن

2006 / 10 / 6
الادب والفن


جاء في الأثر : ( الناس كإبل مئة لا يوجد فيها راحلة ) . وقالوا : رجل يساوي ألف رجل، ورجل لا يساوي رجلا..
ويعلق الجاحظ على ذلك بقوله : ( فكل ذلك يراد به أن الفضل قليل والنقص كثير لا على نسب ما يتلقاه الاجتماع من هذه الأعداد؛ لأنا قد نجد الرجل يوزن بالأمة، ونجد الأمة لا تساوي قلامة ظفر ذلك الرجل). انتهى ( كتمان السر وحفظ اللسان).
وأقول : إن الناس حين تبحث لهم عن منازل تنزلهم إياها، وتضعهم حيث وضعوا أنفسهم أو حيث أرادت لهم أقدارهم فإنه ليس أعدل لهم من أمهم الطبيعة، فهم بها أشبه وإليها أقرب، فمنها خرجوا وإليها يعودون. الطبيعة بكائناتها وحيواناتها وجبالها وسهولها وبحارها وأنهارها؛ لذلك تجد فيهم الثعلب في الروغان، والكلب في الوفاء، والأسد في الشجاعة، والنحلة في نفعها، والنملة في دأبها، والضبع في فسالته، والصقر في تعاليه، والغراب في تسافله..
تجد منهم النخيل السامق في عزة النفس وحفظ الكرامة، والنجيل في حقارته وارتمائه تحت أقدام السائرين، تجد منهم الجبل الأشم علوا ورفعة، والوهدة هوانا وضعة..
منهم الريح الزعزع العاصفة، ومنهم النسيم المنعش الرقراق، منهم سحابة الصيف التي سرعان ما تقشع، ومنهم ديمة الشتاء الحنون الوانية الدائمة، منهم السموم اللافح الذي لا يطالك منه إلا الغبار والتراب والحرور، والبرد القارص الذي لا ينالك منه إلا اللذع والقرص والكآبة، منهم البحر الهائج المائج، ومنهم النهر الساكن الوادع..
فهم كالبراكين ثورة وخمودا، وكالليل بهيمية وغموضا، وكالنهار صفاء ووضوحا، وكالنجوم دليلا ومرشدا، وكالقمر ضياء وجمالا، وكالشمس دفئا ونورا...
وصاحبنا ( نجيب محفوظ ) لا شك أنه ظاهرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فأنى طفت به من أقطاره فلا شك أنك واقع فيه على شيء يستلفت النظر ويسترعي الاهتمام.. فحياته كلها ظاهرة، ظاهرة متعددة الأبعاد مختلفة الزوايا، ظاهرة فيها من العمق الكثير، وفيها من الفناء الكثير، وفيها من ا لشهادة الكثير، وفيها من الرجولة الكثير، وفيها من العبر ما هو أكثر من الكثير.
رجل خرج إلى الدنيا وفن القصة لا يكاد يسفر عن نفسه حياء وخجلا، فالقصة في عهده كانت محبوسة في دور الحريم والجواري، لا يسمح لها أن تخرج إلى العلن لأنها عورة، ولأنها قمينة بأن تجلب لصاحبها سوء القالة والسمعة، الشعر والمقال فرضا عليها هذا الحجاب القسري، وأجبراها على أن تبقى قعيدة البيت تشكو فلا يسمع شكواها، وتستغيث فلا يصان شرفها، وإن حملتها النشوة يوما على الخروج، بفعل التيارات القادمة من وراء البحار، فإنها تتخفى تحت الأسماء المستعارة، أو تعرض نفسها في معرض لا تحسد عليه بهرجة وزيفا وسطحية وتفاهة..
خرج نجيب محفوظ وهو يرى كل هذا، بل وما هو أبعد من هذا؛ إذ عندما التفت إلى الماضي البعيد والتراث التليد يستنطقه شيئا لعله يستوحيه ويبدأ منه ويبني عليه، شيئا يلبي مطالب القصة فنيا كما وصلت عند الغرب، فإنه خاب أمله، ووجد التراث لا يكاد ينطق، ولم يجد بالربع من أحد. وجد المقامة المثقلة بقيود السجع والتكلف وإظهار البراعة اللغوية، والمترعة بفنون الزخرف والعظة والعبرة، ووجد إلى جانبها الحكايات الفجة الساذجة التي لا تغني غناء ولا تسقي ماء..
عندها فقط أيقن الرجل أن الطريق طويلة، والمسيرة عسيرة والمهمة ثقيلة، ولكنه كان على قدر المسؤولية وعند العظائم تستبين العظماء، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
ومن عام ( 1938 ) تاريخ نشر أول مجموعة قصصية له ( همس الجنون ) إلى حين وفاته هذا العام ( 2006)
ما خلا فترات انقطاع قصيرة، وهو يواصل الكتابة، حوالى سبعين عاما من الكتابة، فأي جهاد هذا وأي صبر على متاعب الكتابة في هذا العالم العربي الذي لا يعرف بعد كيف يكرم مبدعيه وكيف يصون حقوقهم ويحفظ أقدارهم ومقاماتهم، في هذا العالم العربي الذي كل ما فيه لا يعين على الإبداع من قيود على حرية الإبداع، من قمع وتسلط، من المجتمع ومن السلطة ومن الهيئات الدينية، ومن التجاهل والتحامل، من الشللية والمحسوبية، ومن ومن... حتى تتوجت هذه الرحلة الميمونة المباركة بفوزه بجائزة ( نوبل 1988) ونوبل ليست نهاية المطاف ولا آخر المشوار فإنه ظل يواصل الكتابة حتى فارق دنيانا، فارقها بجسده لا بروحه، بشخصه لا بفنه، بظله لا بحقيقته، فارق الدنيا وقد ترك فيها دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر.
وسامحك الله يا نجيب فارقتنا إذ فارقتنا ولم تدعنا نعيش في دعة وهدوء بل لم ترحل عنا حتى تركت لنا علامة استفهام كبيرة، كأنها قوس قزح غب المطر، أو كأنها هالة القمر التي تحوط به في ليالي سفوره، علامة استفهام كبيرة تقول:
كيف حدث هذا؟ وهل يعقل أن ينجز كل هذا الكم والكيف إنسان واحد، وليست هيئة أو مؤسسة؟ هذا إذا أخذنا في حسباننا أعباء الوظيفة التي بقيت فيها حتى أحالوك على المعاش، الوظيفة التي_ باعترافك _ أفادتك وأضرتك؛ أفادتك حين استوحيت من بعض الموظفين في الوزارات التي عملت بها بعض أبطال رواياتك وقصصك، وأضرتك حين جارت على وقتك الثمين التي كنت تخشى عليه غائلة المناسبات الاجتماعية والسهرات الطويلة، والمجاملات الفارغة،هذا بالإضافة إلى هم الأسرة والأولاد والبيت، وهموم الحياة الأخرى.
إني لأشهد أن حياتك لعجبا وفوق العجب، لذلك استحققت بحق أن نقول عنك إنك ظاهرة، ظاهرة في هذا الزمن العربي الذي حمل كثيرين على هجر الأدب والإبداع مكرهين غير طائعين، حملهم عليه ضيق ذات اليد، وتفاهة العائد من وراء الفن، والتجاهل ونقص القراء، وهجر القراءة، وأخطار الرقابة والسلطة السياسية والدينية، فما للإنسان ووجع الدماغ، وصداع الرأس، وماله وللهم والقلق وللخوف والترقب!!
على أننا نحب ختم هذا المقال بكلمة توضيحية نزيل بها ما قد يلتبس أو يعترض من الآراء..
فلعل بعض القراء يظن أن مثل النوع من الاحتفاء بالعظماء والمبدعين فيه نوع من التأليه والمديح والتعالي، وأنه لون من النرجسية وحب الذات وعبادة الفرد، وكل هذا مناف لأعراف العصر ومناقض لروح الحضارة الحديثة، حيث أن الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان تحارب مثل هذه التوجهات وتقف بالمرصاد لكل ألوان التحزبات والتعصبات والشوفينيات، وتؤمن بمبدأ المساواة وأن الناس خلقوا سواسية لا فرق بينهم في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية..
فأقول في الرد على ذلك : إن معاملة الإنسانية من حيث تساويها في الحقوق الطبيعية والواجبات ومن حيث الكرامة الإنسانية شيء وإعطاء الحقوق لأصحابها وإنزالهم منازلهم وحفظ أقدارهم شيء آخر، وإلا كيف يستوي في العقل والدين والعرف والأخلاق المحسن والمسيء، ومن ينفع البشرية وينير دروبها ومن يضرها ويطمس آثارها، وكيف يستوي من يزرع الحب والمحبة والصداقة والتعارف ويمد الجسور بين البشرية، ومن يغرس الكراهية والعداوة والقطيعة واليأس ويقطع الجسور، وكيف يستوي من يبذر الأمل في غد أفضل ويبشر بالسلام والتسامح، ومن يبذر الخوف والقنوط ويروع البشرية بالحروب والدمار والهلاك، كيف يستوي هتلر وموسوليني وهولاكو وجنكيز خان مع تولستوي وبتهوفن وغاندي وشكسبير؟؟ وكيف يستوي التبر والتراب والصعيد مع السحاب؟؟
إن هذه المساواة لا يقول بها عاقل، والبشرية مذ كانت لم تخلوا من عظماء وإن شئت مبدعين كانوا علامات على طريق الحضارة، ونجوم يهتدى بها في المسير والمصير، هؤلاء العظماء التي بفضلهم تقدمت البشرية في معارج المدنية والتقدم، وما زال الناس يتطلعون إليهم ويستهدون بهديهم ويترسمون دروبهم وهم في قرارة نفوسهم موقنون أنهم الأمثلة الخالدة التي تمسك على الدنيا تماسكها وتحفظ على الحياة معناها؛ ولذلك هم يحتفلون بهم كل عام، يبحثون في آثارهم وينقبون في حياتهم علهم يكتشفون جديدا أو يعثرون على مجهول.
وأنا أزعم أن محفوظ كان أحد هؤلاء النوابغ الذين تزول الجبال ولا تزل آثارهم وأعمالهم، وحتى لا أرمى بأني أكيل المديح الأجوف جزافا، وأغني بذكر المحبوب صباحا ومساء بالحق حينا وبالباطل أحيانا سأحاول أن أتلمس جوانب هذه العظمة وأطوف بهذه الظاهرة أردها إلى أسبابها وأجعل لها مبررا ومستساغا فيما يلي من المقالات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظروا لقاء مع أبطال مسلسل دواعي السفر وحوار مع الفنان محمد


.. فاكرين القصيدة دى من فيلم عسكر في المعسكر؟ سليمان عيد حكال




.. حديث السوشال | 1.6 مليون شخص.. مادونا تحيي أضخم حفل في مسيرت


.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص




.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..