الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نَـقْد عَـقْـل النُّـخَـب

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2022 / 11 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


من مِيزَات أفراد النُخَب أنهم يَـعْتَزُّون بِأَشْخَاصِهِم، وَيُـفْـرِطُون في ثِـقَـتِـهِم في أَنـفُسِهَم. بَل يعتـقدون أنهم وحدهم كائنات بَشَرِيَة خَاصَّة، أو مُمْتَازَة، أو خَارِقَة لِلْـعَـادة. وَيَظَنُّون (في داخل أنفسهم) أنهم يَتَـفَوَّقُون على بقية المُوَاطِنِينن في مُجمل المَيَادِين. وَيَتَوَهَّمُون أنهم يُـثْـقِـنُـون المَنْطِق الذي تَـشْتَـغِلُ به عُـقُـولُهُم. ويستخدمون «حُجَّة السُّلْطَة» (argument d’autorité). حيثُ يَـعْـتَـقِـدُون أن الشخص الذي هُو أَعْلَى مَرْتَبَةً في هَرَم السُلُطَات، أو في هَرَم الطَبَـقَات المُجتمعية، هُو دَائِمًا على حَـقِّ، أَيْ أنّهُ أكثرُ صَوَابًا بِالمُـقَارَنَة مَعَ الأشخاص الذين هُم أَقَلُّ مَرْتَبَةً في هذا الهَرَم المُجتمعي المذكور. وَيَظُنُّون أن آراء الشخص المَسْئُول أو المُسَيِّر أو القَائِد هي دائمًا أكثرُ عَـقْـلًا، وَمَنْطِـقًـا، وَسَدَادًا، وَحِكْمَةً، وَخِبْرَةً، وَعَدْلًا، بالمقارنة مع آراء الأشخاص المُسَيَّرِين أو المَـقُـودِين.
وفي المُناقشات، وخاصة منها تلك الحِوارات التي تَكُون ذَات أَبْـعَـاد مُجتمعية، أو سياسية، يَـفْـتَـرِضُ دائمًا أفراد النُخَب أنهم على حَقٍّ ضِدَّ أي شخص يُخَالِـفُهم في الرَّأْي. ويرفضون الشَكَّ في، أو يُحْجِمُون عن الاِحْتِيَّاط مِنْ، مَا يؤمنون به. لكن أفراد النُخَب لَا يُدْرِكُون أنهم يجهلون «قَانُون الصَّوَاب في المَنْطِق». حيثُ يَنْسَى أفراد النُخَب، أنه لا يُمْكِن لِأَيِّ شخص أن يكون على حق بشكل مُطْلَق. وحيثُ أنه لا يُمكن لأيّ شخص أن يكون مُحِـقًّـا (أو مُخطئًا)، إِلَّا وِفْـقًـا لِمَنْظُومَة مَرْجِـعِـيَّـة (référentiel) فِكْرِيَة أو نَظَرِيَّة مُحَدَّدَة. وَمَنْ هُو على حَقٍّ، طِبْـقًـا لِمنظومة مَرْجِـعِـيَة مُحَدَّدَة، سيكون مُخْطِئًا وِفْـقًـا لِمَنْظُومَة مَرْجِـعِـيَـة مُخَالِـفَـة. أي أن الصَوَاب هو نِسْبِيٌّ (خاصة في مُجتمع طَبَـقِـي، يَتَطَوَّر من مُجتمع شِبْه إِقْطَاعِي إلى مُجتمع رَأْسَمَالِي تَبَـعِـي، مثلما هو وَضْعُ مُجتمعنا الحالي).
وكلّ شخص (أو جماعة، أو مُؤسَّـسَة) يَـعْـمَل بِمَرْجِعِية فكرية مُصَابَة بِمَـعَـارِف نَاقِصَة، أو بِمَنَاهِج خَاطئة، أو بِمُـعْـتَـقَـدَات مَـغْـلُوطَة، فإنّ أفكاره، أو اِقْتِرَاحَاتِه، أو سُلُوكِيَّاته، أو اِنْجَازَاتِه، سَتَكُون هي أيضًا نَاقِصَة، أو بَاطِلَة، أو فَاسِدَة، أو فَاشِلَة، وذلك نتيجةً لتلك المَرْجِـعِـيًة المُستَهْتِرَة التي يَـعْـمَلُ بها.
وهكذا، كُلَّمَا وُجِدَ شخصان، يَحْمِلُ كل واحد منهما (في عَقْلِه) مَنْظُومَة مَرْجِـعِـيَـة نظرية مُتَـعَارِضَة مَع المَرْجِـعِـيَـة التي يحملها الشخص الآخر الذي يَتَحَاوَرُ مَـعَـه، فإنهما سَيَنْزَلِـقَان في سُوء تَـفَـاهُم، وَسَيَـعْـجِزَان على الاتفاق على نفس الرَّأْي. لأن ما هو صَوَاب لَدَى شخص وِفْـقًـا لِلْمَرْجِـعِـيَـة المُحَدَّدَة التي يُـفَـكِّـرُ بها، هو خَطَـأٌ لَدَى شخص آخر يَعْمَل بِمَنْظُومَة مَرْجِـعِـيَة مُخَالِـفَـة. والعكس بالـعَـكْـس. وإذا اِعْتَبَرْنَا أَزْوَاجًا (couples) من الأشخاص المُتَـعَارِضِين في المُجتمع، مثل السَّائِد والمَسُود، أو المُسْتَـغِـل والمُسْتَـغَـل، أو الغَـنِـيّ والفَـقِـير، أو المُشْتَـغِـل والعَاطِل، أو العَالِم والجَاهِل، أو المُدْمَج في المُجتمع والمُهَمَّـش فيه، أو المُتَدَيِّن وَغَيْر المُتَدَيِّن، أو التَـقَدُّمِي والمُحافظ، أو الرَأْسَمَالِيّ والاشتراكي، إلى آخره، سَنَجِدُ أن أفراد هذه الأَزْوَاج (couples) يَحْتَلُّون مَوَاقِـعَ طَبَـقِـيَـة مُخْتَلِـفَـة نِسْبِيًّا، وَيَـعْـمَلُون بِمَرْجِعِيَّات فِكْرِيَة مُتَبَايِنَة، أو مُتَـفَاوِتَة، أو مُتَنَاقِضَة.
أَمَّا التَـفْـكِير (في القضايا السياسية، أو المُجتمعية) بِمَنْهَج مَوْضُوعِي، وَمُحَايِد، وَمُسْتَـقِـلّ عن كل مَرْجِـعِيَة فِكْرِيَة شَخصية، أو ذَاتِيَة، أو خُصُوصِيَة، فَهُوَ ليس في مُتَنَاوَل عَامَّة البَشَر. لأن كلّ شخص بشري يَنْطَلِـق تِلْـقَائِيًّا في تفكيره مِنْ ذَاتِه، أو من عَائِلَتِه، أن من قَبِيلَتِه، أو مِن طَبَـقَـتِه المُجتمعية، أو مِن أُمَّتِهِ.
وَمَا دَام المواطنون يَتَمَوْقَـعُـون في مَوَاقِـع طَبَـقِـيَـة مُخْتَلِـفَـة في التَرَاتُبِيَة المُجتمعية، فالاحتمال الأكبر هو أن مَرْجِـعِـيََـاتهم الفِكْرِية ستكون مُتَـفَاوِتَة، أو مُخْتَلِفَة. وَتَبَـعًـا لِذَلِك، ستكون كذلك أفكارهم أو آرائهم مُتَـفَاوِتَة، أو مُتَبَاعِدَة، أو مُتَنَاقِضَة، أو مُتَصَارِعَة.
فَـلَا يُمكِن تَـقْـرِيب آرَاء المُواطنين دُون تَـقْـرِيب مَرْجِـعِـيَّـاتهم الفكرية. وَلَا يُمكن تَـقْـرِيب مَرْجِعِيَّاتهم الفكرية دُون العَمَل على تَـقْـريب أَوْضَاعِهم الطَبَـقِـيَـة، أو المُجْتَمَعِيَة. وهو ما لَا يُدْرِكُه، أو لَا يَـقْـبَـلُه، أفارد النُخَب السَّائِدَة، أو النُخَب المناصرة لِلطَّبَـقَة السَّائِدِة. ولماذا ؟ لأن أَنَانِيَتَهُم تجعلهم يُـفَـضِّلُون خِدْمَة مَصَالحهم الخُصُوصية على خِدْمَة المَصَالِح المُشْتَرَكَة أو المُجتمعية.
وعلى مستوى التَوَاصُل المُجتمعي، أو على مُستوى المُمارسة الثَـقَافِيَة، يَكُون من بين واجبات أفراد النّخب، أن يُسَاهِمُوا في تَنْوِير وَتَـثْـقِيف جماهير شعبهم، عبر اقتسام معارفهم، وعبر تـعميم خِبَرَاتِهِم، لِإِيصال أكبر جزء مُمكن مِنْ جماهير الشعب إلى أرقى مستوى في المعرفة العلمية، والوعي السياسي، والقُدرة على المُسَاهَمَة في الانتاج المُجتمعي.
وحسب الفتـرات التاريخية، يمكن لِأَفْرَاد النُّخَب أن تـقوم بدور تثـقـيفي، أو تـقدّمي، أو تَنْوِيرِي. كما يمكنها أن تـقوم بدور مُحافظ، أو مُخادع، يُـنَـوِّمُ جماهير الشعب، أو يُسَهِّلُ مُغَالَطَتَهَا، أو تَـرْوِيضَهَا، أو إِخْضَاعَهَا، أو اِسْتِـغْـلَالَهَا. ويحدث عبر التاريخ الدور الثاني المُنَوِّم، أكثر مِمَّا يحدث الدور الأوّل التَنْـوِيرِي.
ومن الممكن أن يتحوّل جزء هام من ”النّخب“ إلى نـقيضه. حيث يُصبح هذا الجزء مُسَخَّرًا من طرف الطبقة السّائدة من أجل تبليد الشعب، أو قَمْعِهِ، أو تَدْوِيخِه، أو تسهيل إِخْضَاعِه واستـغلاله.
وفي كلّ مجتـمع، إذا كان العقل الذي تَـشتـغل به غَالِبِيَة المواطنين ضعيفًا، أو ناقصًا، أو مِثَالِيًّا، أو متخلّفًا، أو رديئًا، أو طُوبَاوِيًّا، فذلك يرجع على الخصوص إلى الدّور النَاقِص، أو السّلبي، أو الانتهازي، أو المُسْتَلََب (aliénant)، الذي تـقوم به النّخب. وإذا كان العقل الذي تَـشتـغل به غَالِبِيَة المواطنين سليمًا، أو متـقدّمًا، أو عِلْمِيًّا، أو ثَاقِبًا، فذلك يرجع أيضا، وبقدر كبير، إلى الدّور التنويري، أو التحرّري، أو الثوري، الذي تَضْطَلِـعُ به النّخب.
قد تبدو مسألة عَـقْـل النّخب للبعض كأنها فقط قضية معرفة، أو تكوين، أو ثـقافة، أو أخلاق، وليست قَضِيَة قِيَم اِقْتِصَادِيَة أو مَادِّيَة. لكن إذا فكّرنا في انعكاسات مسألة عقل النُخَب، أو في امتداداتها، في مختلف مجالات الإنتاج، والتَوْزِيع، والتِجَارَة، سندرك أن أيّ نَـقْص في جودة عقل النّخب، سينتج عنه بالضّرورة نـقص هائل في كَمِّ، وفي كَيْفِ، ”الإنتاج الداخلي الخام (PIB)“ للبلاد. وهذا النـقص سَيُـقَـدَّرُ بأموال طائلة. بِمَعنى أن مسألة عقل النُخَب، ليست فقط قضية نظرية، أو فكرية، وَإِنَّـمَـا هي أيضًا قضية إنتاج، وَمَادّة، وَثَرَوات، وَرَفَاه، وَقد تَتَحَوَّلُ كذلك إلى قضية قُصُور مُجتمعي، أو تَخَلُّف، أو فقر، أو مُعَانَاة.
وفي المغرب، يُنْـبِـئُ العقل الذي تشتـغل به النخب بِعدة مشاكل. وتتشابه في هذا المجال نُخب المغرب مع نخب معظم البلدان المُسلمة، أو الناطقة باللغة العربية :
والمشكل الأول لَدَى أفراد النّخب، هو أنهم بِدَائِيِّين (primitifs)، أَيْ ضَعِيفِـي العقل السياسي(1)، وَلَوْ أن جُزْءًا منهم يعيشون في أَرْقَـى دَرَجَات الرَّفَاه الاستهلاكية (consumérisme) الرَّأْسَمَالِيَة. حيث يَـعِيشُون بشكل فَرْدَانِـي أَنَـانِـي، وَيَنْـكُـرُون، أو  يَتَجَاهلون، الشّـعْـبَ المُحَدَّد الذي يَـعِيشُون في إِطَارِه. وَيَتَنَاسَوْن أنّ مَصِيرَهم الشخصي (كَأَفْرَاد نُخَب) سيكون حَتْمًا جُزْءًا من مَصِير مُجتمعهم، وجزءًا من مصير شعبهم، سَوَاءً كان هذا المَصِير حَسَنًا أم سَيِّـئًا.
وَيَـعرف أفراد النُخَب كيف يُــفَكِّـرُون مِنْ مُنْطَلَق فَرْدِي (individualiste)، لكنهم لا يَـعرفون كيف يُـفكّرون بِمنهج مُجتـمعي (sociétal) شُمولي(2). وَيَسْهُلُ على أفراد النُخَب أن يُـفَـكِّرُوا بِمَنْهَج أَنَانِي، لكنه يَصْـعُبُ عليهم أن يُـفَـكِّرُوا بِمَنْهج تَضَامُنِي مُجتمعي. وَيَنْـفُـرُ أفراد النُخَب من أيّ شَيْء يَسْتَوْجِب بَـذْلَ مَجْهُودَات مُضْنِيَة. وحتّى إذا أَدْرَك أفراد النُخَب بعض مَسَاوِئ مُجتمعهم، أو بعض المَظَالِم الموجودة فيه، فإنهم لَا يَجْرُؤُ على الإفصاح عن أفكارهم الطَمُوحَة، أو المُعارضة، أو النّاقدة. حيث يَخَافُون من تَـعَـرُّضِهِم لِلْقَمْع، أو لِخَفْض مُسْتَوَاهُم المُجتمعي. ولا يـقدر أفراد النُخَب على الاضطلاع بالواجبات الأخلاقية التـي تـفرضها المُواطنة المُشْتَرَكَة، في مُجتمع مُشترك.
والمشكل الثاني لدى أفراد النُخَب هو أنهم يَتَخَيَّلُون أنهم أَشْخَاص مَسْئُولُون، وَأَحْرَار، وَنُبَـغَـاء، وَأَقْـوِيَّـاء، وَأَشِـدَّاء، بَيْنَمَا هُم في الواقع مثل دُمْيَات تَائِـهَـة، يَـتَـلَاعَبُ بها النظام السياسي القائم، وكذلك القِوَى الإِمْبِرْيَالِيَات الغَربية، والكِيَّان الإسرائيلي الصَهْيُونِـي (في إطار التَطْبِيع البَلِيد). وَيَخْدُم بِإِخْلَاص أفراد النخب النظامَ السياسيَ القائم الذي يُوَظِّـفُـهُـم. وَيَـعْـمَـلُ أفراد النُخَب لِـفَائِـدَة هذا النظام بِحَمَاس وغَيْرَة فِعْلِيَتَـيْن. لكن أفراد هذه النخب لا يَهْتَـمُّـون بِحَمَاسَة مُماثلة بِإصلاح المُجتـمع، أو بِخِدْمَة حاجيّات الشَّعْب، أو بِتَحْرِيرِه من الجَهل، والقَـهْـر، والتَخَلُّـف، والاِسْتِـغْـلَال، والاستبداد. وبالتَّالِي، وَبِـفْـعْل دِينَامِيَة الصراع الطبقي التاريخي، فإن أفارد النُخَب لَن يَـقْدِرُوا على الإفلات مِن أَنْ يُصْبِحُوا، هم كذلك، مَسُودِين، وَخَاضِعِين، وَمُسْتَـغَـلِّين، وَمَـقْـهُورِين، وَمُهَانِين. وسيكون مصيرهم الحَتْمِي، وَضِدًّا على تَوَهُّمَاتِهم، هو عِيشَةُ مُـعَـانَاة وُجُودِيَة مُشَابِهَة نِسْبِيًّا لِلُمُعَانَاة التي يَتَأَلُّمُ فيها أفراد الشعب، نَتِيجَةً لِلْاِسْتِـغْـلَال والحِرْمَان والاستبداد والتَهْمِيش. لأن غِنَى أفراد النُخَب النِسْبِـيّ، لَا يَـقْدِرُ على حِمَايَتِهِم من الاِحْسَاس، في سِرِّ مَا بِدَاخِلِهِم ، بِـعَـبَـثِ حَيَاتِهِم، وَبِحَقَارَة اِنْتِهَازِيَتِهِم، وَبِخَجْلَان خِدَاعِهِم، الذي مَارَسُوه وأَخْـفَـوْهُ طِوَال حَياتهم. وَيمكن لِأَفْراد النخب أن يَجدوا عِبَرًا مُـفِـيدة في تَجارب نُخَب مجتمعات مثل لُبْنان، وسوريا، والعراق، ومصر، وتونس، ولِيبيا، والسودان، والصومال، واليمن، الخ، بين سنوات 2011 و 2020.
والمشكل الثالث لدى النخب، هو أنها تشتـغل بعقل فَـرْدَانِي رَأْسَمَالِي، وليس بِـعَـقْـل مُجْتَمَـعِـي، أو اِشْتِـرَاكِـي. ولا يُدرك أفراد النُخَب أن أساس الحضارة، ليس هو فقط العمل الفَرْدَانِي، وَإنَّمَا هُو خُصُوصًا العَمَل الجَمَاعِي، أو العَمَل المُجْتَمَعي. وبدون تَـرَاكُـم مُجْتَمَـعِـي وَتَارِيخِي في مَجَالَات المَـعْـرِفَـة، والـعُـلُوم، والتِـقْـنِـيَّات، وَتَـقَالِيد التَضَامُن الإنساني، والعَدَالَة المُجْتَمَعِيَة، لَا يُمكن لِأَيّ مُجتمع أن يَتَحَضَّر، أو أن يَتَـقَـدَّم.
وَتَـعْمَل النُخَب بِـعَـقْـل ضعيف، أو ردئ، أو غير متوازن. حيث أنها تـعمل بمنطق الزّبُونية (clientélisme) تُجاه السلطة السياسية المركزية (الملك، أو رئيس الدولة). فَلا تـقدر على نـقْد، أو تـقْـوِيم، خُطَط، أو مشاريع، أو مُنْجَزَات، أو نَـقَـائِص، السلطة السياسية. كأن عقل هذه النخب يَتَــقَـيَّـد بِـ «إجماع وطني إِجْبَارِي» في العديد من القضايا، أو يحتـرم ”طَابُوهَات“ (tabous)، أو يلتزم بِـ «خُطُوط حَمراء» يُحَرَّمُ عليها الاقتـراب منها(3). فَلا تَجْرُؤُ هذه ”النّخب“ على تجاوز هذه الحدود المَمنوعة. ولا تـعرف هذه ”النّخب“ أن تـقول سوى «نَعم يا مولاي»، ولا تتجرّأ على قول «لَا». حتى ولَوْ كانت بعض ممارسات السلطة السياسية أو مشاريعها غير ملائمة، أو طائشة، أو ظالمة، أو غير شَرْعِيَة. وَتَـقْمَعُ هذه النخب ضَمِيرَها، وتبتلع لسانها، ولا تـغامر بقول «لَا». وَتَرْتَـعِدُ مِن خطر تَـعَرُّضِهَا لِـقَـمْع سِيَّاسِي.
(ومن بين القضايا التـي تصرّفت، أو تتصرّف، فيها السلطة السياسية بعقلية رديئة، نجد مثلاً: قضية الصحراء؛ وَخدمات التـعليم؛ والصحة؛ والتـعامل مع القطاع الاقتصادي «غير المُهيكل»؛ والفَسَاد الاقتصادي، والظُّلْم الضَرِيبِي، وتوقيع اتـفاقيّات التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الاتحاد الأوروبي، ومشروع القطار الفائق السرعة بين مدينتـي طنجة والدار البيضاء(4)؛ ومشروع «التـرام» (tramway) كوسيلة للنـقل الجماعي داخل مدن مزدحمة، ومُرَكَّزَة، مثل الدار البيضاء والرباط. إلى آخره. وهذان الاستثماران الأخيران هما هديتان قدّمتهما السلطة السياسية إلى فرنسا الإمبريالية، مُقابل أشياء غامضة، أو مجهولة، قد تكون مِن قَبِيل الحِمَايَة السياسية).
وبهذا العقل الرَدِيء، تُساهم ”النّخب“ في تـرسيخ الرَدَاءَة، وتـعميمها داخل مُجمل المُجتـمع.
ومن بين الأمثلة المُعَبِّرَة، نذكّر أن «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي (قَبْل فوزه في الانتخابات، وقبل تحوّله إلى حزب رئيسي في الحكومة الحالة)، استـفاد من مُظاهرات «حركة 20 فبراير»(5)، وبَنَى وُعُودَه الانتخابية على «مكافحة الفساد». الشيء الذي سمح له بِاسْتـقْطَاب أصوات كثيرين من الأشخاص التـقدّميين، وكذلك أصوات فئات تـنتـمي إلى "الطبقة المتوسّطة"، وحتى إلى ”طبقة المُستـغِلّين (بكسر الغين) الكبار“(6). لكن بعدما اِسْتـقَـرَّ «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي هو أيضا في الحكومة، كرّر ما كان يقوله الملك المستبد الحسن الثاني: أي سياسة «عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَـفْ»! وهي سياسة تَمْـكِين نُخب النظام السياسي القائم من الإفلات من المُحاسبة، ومن المُراقبة، ومن العِقاب. وأصبح «حزب العدالة والتنمية»، هو أيضا، يَعتبر أن نهج معاقبة المُفْسِدين، يُمكن أن يُهَدِّد أمن واستـقرار النظام السياسي القائم. لأن محاسبة الفاسدين ستـؤدي إلى فضح مُجمل النخب، والأطر، والأعيان، التـي ينبني على أساسها النظام السياسي. ولأن اتهام نُخَب النظام السياسي، يُمكن أن يتحوّل إلى اتّهام غير مباشر للنظام السياسي القائم بِـرُمَّتِه. لِذَا تـمِيلُ هذه النخب السياسية إلى تَـبَـنِّـي سياسة الإِفْلَات من العِقاب، وتـعتبرها أفضل من نهج المُحاسبة.
وفي مجال الآراء حول الأوضاع القائمة، تتصرّف أحيانًا النُّخب مثل البَبَّغَاوَات. فإذا لم يتكلّم الملك أو رئيس الدولة، تـقول النّخب ما معناه: «العَام زِينْ... كلّ شيء في البلاد على أحسن ما يُرَام»! وحينما يخطب الملك ويقول أن المغرب يوجد في ”مَـأْزَق مُـقْـلِـق“، تَصِيح النّخب بالإجماع وتـقول أن تحليل الملك هو رأي صريح، وصحيح، وثاقب، بل عبقري. وحينما يُغيّر الملك رأيه في خطاب لاحق، تُهَلِّـل النُّخب من جديد بحماس مُـفْرِط أن تحليل الملك الأخير هو عين الصّواب، والبراعة. وكمثال على ذلك، طرح الملك (مثلًا في خطاب 29 يوليوز 2017) أن المشكل الكبير يَـكْمُن في ”رَدَاءَة مُوظّفي الدولة“، وفي ”رداءة الطبقة السياسية“. حيث قال الملك: « الإدارة العمومية، التـي تـعاني من ضعف الحكامة، ومن قلة المردودية... أما الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحرِّكهم دائما روح المسؤولية... من بين المشاكل التـي تـعيق تـقدم المغرب، هو ضُعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة ، أو مستوى النجاعة، أو جودة الخدمات، التـي تـقدّمها للمواطنين... وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التـي تُـمَارَسُ بها السّياسة، ولا يثـق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ لكل هؤلاء أقول: كَفَى»! ... وعندما غيّر الملك رأيه، وطرح أن المشكل الكبير في المغرب يَكْمُن في ”نموذج التنمية الاقتصادية“، حيث قال الملك (في خطاب 13 أكتوبر 2017): «النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحّة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحدّ من الفوارق بين الفِئات، ومن التـفَاوُتَات المَجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتـماعية». بعد هذا الخطاب، تسابقت النّخب مرّة أخرى إلى مناصرة الرَّأْيِ الجديد المُخالف، ومدحته، وعظَّمته، واعتبرته قِمَّة الصَّواب.
وباعتبار النخب خادمة ومُسخّرة في خدمة الطبقة السائدة، فإنها لا تُـرَوِّجُ أفكارها الخاصة، ولا تدافع عن طُموحاتها، ولا تطبّق اختـياراتها المفضّلة، وإنما تُصَرِّفُ أفكار وتوجيهات الطبقة السائدة، ولو كانت مُعْتَـلَّـة. فَـتبقى النّخب بالمغرب بَئِيسَة، ولا تـقدر على النَـقْد، أو الإبداع، أو الانشراح.
وحتّى فيما يُخُصّ بعض «النُخَب الدُّنْيَا»، مثل صِغَار مُوَظَّـفِـي الدولة، نُلاحظ أنها في غَالِبِيَتِهِا عَنَاصِرَ فَرْدَانِيَة، وَانْتِـهَازِيَـة. وَفِـئَـة مُوَظَّـفِـي الدولة الصِغَار (مثل مُوَظّـفِـي التـعليم، والصحة، والإدارات، الخ) هُم عُمُومًا أَكْثَرُ فَـعَالِيَّةً وَنَجَاحًا في تنظيماتهم النقابية، وفي تَحَرُّكَاتِهِم المَطْلَبِيَة، ويحصلون في غالبية الحالات على مَا يُطَالِبُون به مِن اِمْتِيَازَات، وذلك بالمُـقارنة مع العُمَّال المَأْجُورين في القِطَاع الخاص. ومن مِيزَات مُوَظَّـفِـي الدولة أنهم يُريدون دَائِمًا أن تَتَحَسّنُ أُجُورُهُم وَمَدَاخِيلُهُم، دُون أن يَـكْتَرِثُوا بأوضاع الفِـئَـات المُجتمعية التي تُؤَدِّي هذه الأموال، والتي تُوَزِّعُهَا الدولة على موظّفيها على شكل أُجُور. كَأَنّ هؤلاء المُوَظَّـفِـي لَدَى الدولة يَظُنُّون أن ما تُؤَدِّيه الدولة لهم من أُجُور ينزل مَجَّانًا من السماء، ولا تَتَحَمَّلُ عَنَاءَهُ أَيَّة فِـئَـة مُجتمعية أُخرى.
رحـــــمـــــان الـــــنـــــوضـــــة
(هذا النص هو مُـقْتَطَف من كتاب : رحمان النوضة، نَـقْد النُخَب، نشر سنة 2015، الصفحات 86، الصيغة 11. ويمكن تنزيل هذا الكتاب بالمجّان من مدوّنة الكاتب :
https://livreschauds.wordpress.com/2016/02/21/نـقد-النخب-رحمان-النوضة/
الــــــهـــــــــوامـــــــش :
(1) في شهر نونبر 2015، أثناء محاضرة ألقاها السيد محمد بن سعيد آيت يدر، أحد قدماء قادة جيش التحرير بالمغرب، في كلية الحقوق بمدينة المحمدية، تحت عنوان « النّخب الوطنية والفرص الضائعة»، قدّم بن سعيد في محاضرته صورة قاتـمة عن تاريخ المغرب. وأوضح أن تاريخ المغرب بين سنتـي 1930 و 2011 م، مرورًا من عهد الملك محمد الخامس، إلى الحسن الثاني، إلى محمد السادس، كان كلّه تاريخ سلسلة من «الفرص الضائعة» في العلاقة بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية. ورغم أن بن سعيد لم يتجرّأ على نـقد النّخب بشكل مباشر وصريح، ولم يستخرج دروسا، فإن خلاصة عرضه تُؤكّد بوضوح: استـمرارية تخلّف النّخب السياسية !
(2) في برلمان المغرب، قدم الفريق الاشتـراكي مقتـرح قانون إلى مكتب مجلس النواب. ويهدف هذا القانون إلى منع تـعدد الأجور والتـعويضات في الهيئات التـرابية والمهنية المُنْـتَـخَـبَـة، وفي المؤسـسات الدستورية، والإدارية. كما يهدف هذا المقتـرح إلى منع كل من اكتسب صفة تـمثيلية من أن يجمع بين أجرتـين أو أكثر، أو تـعويضين أو أكثر، عند مزاولة انتداب، أو وظيفة انتخابية. ويمتد هذا المقتـرح إلى موظفي الإدارات العمومية الذين يكتسبون صفة تـمثيلية، على أن يتلقّى المعني التـعويض الذي يختاره بإحدى الصفات التـي يستـفيد على أساسها. ومعلوم أن تـعويضات عدد من المنتخبين تتجاوز في بعض الأحيان الأجور الشهرية للوزراء ومسؤولي الدولة. لكن أغلبية أفراد البرلمان غَلَّبَت مصالحها الأنانية، وصوّتت لصالح الإبقاء على الاستـفادة من مُجْمَل تلك التـعويضات المُـتـعَـدِّدَة. (المهدي السجاري، جريدة المساء ، العدد 3483، ليوم 8 يناير 2018، الصفحة 5).
(3) أُنظر كتاب: رحمان النوضة، نَـقْد الصَّهْيُونِيَة، نشر سنة 2017، الصفحات 121، الصيغة 14، pdf. ويمكن تنزيله من :
https://livreschauds.wordpress.com/2017/08/07/نقد-الصهيونية/
(4) مثلاً، في قضية الصحراء، غَدَى واضحا أن الدولة بالمغرب تـمنع أي مواطن من التـعبير عن مقاربة مخالف للمقاربة الرسمية للدولة. ومن بين الذين تـعرّضوا لقمع شرس في هذا المجال، نذكر بعض الأمثلة: 1- معتـقلي الحركة الماركسية اللينينية الذين حوكموا سنة 1977 بأحكام قاسية (السجن بالمؤبّد، أو 30 سنة، أو 20 سنة) بسبب مساندة بعضهم لمبدأ تـقرير المصير. 2- عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب الاتحاد الاشتـراكي ، الذي سُجِن في سنة 1981 (مع مسئولين اثنين من الحزب)، خلال قرابة سنة، بسبب تحفّظه حول قبول الملك بإجراء استـفتاء لتـقرير المصير في الصحراء. 3- الصحفي أبو بكر الجامعي الذي مُنعت جريدته (ثم أُلغي منعها)، لأنه كان يريد نشر استجواب مع زعيم البوليزاريو في سنة 2000. 4- الصحفي علي لمرابط الذي مُنع من مهنة الصحافة خلال 10 سنوات (في سنة 2005)، لأنه اعتبر سكان تندوف لاجئين وليس محتجزين. إلى آخره.
(5) مشروع القطار الفائق السّرعة بين مدينتـي الدار البيضاء وطنجة يصدق عليه المثل المغربي القائل: ماذا تحتاج أيها العَرْيَان، الخَاتـم يا مولاي .
(6) إبّان ثورتـي تونس ومصر خلال سنة 2011، إندلعت في المغرب حركة من المظاهرات الجماهيرية الاحتجاجية، والدَّوْرِيَة، في معظم مدن البلاد، تطالب بإسقاط الفساد والاستبداد، وبإقامة الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتـماعية. وسُمّيت لاحقًا بعبارة حركة 20 فبراير .
(7) أنظر كتاب: رحمان النوضة، طبقات المجتـمع ، مخطوطة سنة 1983، الصفحات 350، pdf. ويمكن تحميله من مُدَوَّنَة الكاتب : http://LivresChauds.Wordpress.Com.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض الضغوط الدولية لوقف الحرب في غزة


.. أثار مخاوف داخل حكومة نتنياهو.. إدارة بايدن توقف شحنة ذخيرة




.. وصول ثالث دفعة من المعدات العسكرية الروسية للنيجر


.. قمة منظمة التعاون الإسلامي تدين في ختام أعمالها الحرب على غز




.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدينة طولكرم وتتجه لمخيم نور شمس