الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم القوة : روسيا والعالم من نهاية الاتحاد السوفياتي إلى غزو أوكرانيا – 2/2

مرزوق الحلالي
صحفي متقاعد وكاتب

(Marzouk Hallali)

2022 / 11 / 20
الارهاب, الحرب والسلام


اختلف فلاديمير بوتين عن سلفه. إذ تنبع سياسته تجاه أوكرانيا من رؤية "إمبريالية جديدة" - وهي ليست حديثة: في 2008 في محادثة مع الرئيس جورج دبليو بوش ، نفى شرعية وجود الدولة الأوكرانية ، وهو تصريح لم ينكره الكرملين أبدًا – فقد كان شديد الوضوح. إنه ينفي الهوية الأوكرانية وحقيقة رغبة الأوكرانيين في الاستقلال و يبخس قوة المجتمع المدني. في نظره ، في أوكرانيا كما في روسيا ، يمكن "توجيه" الناس ، والثورات البرتقالية (2004-2005) ( ) وثورة الكرامة (Maïdan ، 2013-2014) ( ) ليست سوى ثمرة التلاعب الأمريكي الذي يهدف إلى تهميش ، بل وحتى تدمير روسيا. وقراراته في 2014 لضم شبه جزيرة القرم والتدخل في "دونباس" ، ثم في فبراير 2022 لغزو أوكرانيا هي جزء من سياسة يهيمن عليها الاقتناع بأن سيادة أوكرانيا "ممكنة فقط في شراكة مع روسيا".

إذا كانت نتيجة هذه الحرب لا تزال غير مؤكدة ، فمن الواضح بالفعل أن النتيجة ليست كما توقع الكرملين على الإطلاق. وبدلاً من السماح لروسيا باستعادة أوكرانيا ، فإن الحرب تمثل شرخًا لا رجوع فيه. وله تداعيات في جميع أنحاء الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. من بين العديد من العواقب الأخرى ، يظهر الانقسام بين روسيا والدول الغربية بشكل بارز ، وهو قطيعة ستؤثر على مستقبل روسيا. يؤكد غزو أوكرانيا خروجها من دائرة النفوذ الروسي وترسيخها في العالم الأوروبي الأطلسي.

وهذا يستدعي جملة من التساؤلات حول الدروس المستخلصة من الحرب الروسية في أوكرانيا ووضعية الجيش الروسي وتقييم لما سمي بـ "العملية الخاصة".

قد يكون من المبكر جدا الآن الخوض في محاولة تقييم نتائج الحرب في أوكرانيا. لكن بعد تسعة أشهر من بدء هذا الصراع ، يمكن تقديم رؤوس أقلام لتقييم أولي. فقد راهن بوتين على الانهيار السريع للجيش والسلطة الأوكرانيين. لم تنجح الحرب الخاطفة المأمولة فقط وواجهت القوات الروسية مقاومة أوكرانية شرسة وفعالة ، ولكن القوات الروسية عانت مرارًا وتكرارًا من نكسات خطيرة أجبرتها على التراجع وإعادة حساباتها. وبعد شهر من بدء الغزو ، اضطر الروس إلى إخلاء منطقة "كييف" وشمال أوكرانيا والتراجع عن "تحرير" دونباس. وفي بداية سبتمبر 2022 ، لم يتصدى الروس للهجوم المضاد المفاجئ الذي شنته القوات الأوكرانية في منطقة "خاركيف"، بل فقدوا السيطرة على مدينة "ليمان" الواقعة في إحدى المناطق الأربع التي ضمتها موسكو للتو وسط ضجة إعلامية كبيرة. وفي الجنوب ، في منطقة "خيرسون" ، تآكلت مواقعهم تدريجياً. وشكلت جملة من النوازل ضربات قاسية – ذات قيمة رمزية قوية - لموسكو ( حالة غرق الطراد الروسي "موسكفا" ، إحدى القطع الرئيسية للبحرية الروسية في 14 أبريل 2022 في البحر الأسود ، والانفجار الذي حدث في البحر الأسود في 8 أكتوبر 2022 على جسر "كيرتش"، استعادة الجيش الأوكراني "خيرسون" في 11 نوفمبر 2022).

تثير هذه النوازل تساؤلات حول وضع الجيش الروسي في أوكرانيا ، إذ ارتكب الكرملين العديد من الأخطاء منها اعتماد اختيار مآله المسبق كان معروفا سلفا وغير مقبول باستخدام القوة ضد دولة ذات سيادة. وعدم توقع ووضع في الحسبان رد فعل الكيان الأوكراني واعتماد الخطة بكاملها على عنصر واحد، حتمية وسرعة الانهيار الأوكراني ، الاكتفاء بالاعتماد خطة "أ" دون خطة " ب" بديلة عند الحاجة. لقد استخف بوتين بالمقاومة الأوكرانية وبالغ في تقدير قدرات جيشه ... وهذا كاف جدا لتفسير الارتباك الروسي و مدى الانتكاسات التي عاننت منها روسيا.

فكيف حدثت هذه الانتكاسات و موسكو منذ 2008 اعتمدت عملية واسعة لتحديث قواتها المسلحة، كما تمكنت من ترويج صورة إيجابية للغاية لقدراتها العسكرية وفعاليتها القتالية ، لا سيما من خلال إجراء مناورات عسكرية بشكل منتظم ، بعضها أثار اهتمام المتتبعين من خلال التدخل عسكريًا في سوريا اعتبارًا من 2015، إذ مكنت بشار الأسد من البقاء في السلطة واستعادة السيطرة على جزء كبير من الأراضي السورية.

في أوكرانيا ، تشارك القوات الروسية في قتال ذو طبيعة مختلفة تمامًا عن طبيعة القتال في سوريا، إذ تخوض حربًا تعتمد على المدفعية إلى حد كبير ، الأمر الذي يتطلب أعدادًا كبيرة على الأرض ، وتواجه مقاومة أوكرانية لم تضعف. وقد تبين بوضوح أن القوات الروسية لم تكن مستعدة لنزاع من هذا النوع ، إذ يقاتل الأوكرانيون على أراضيهم من أجل البقاء. ومن جهة أخرى ، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، كانت حالة القوات المسلحة الروسية سيئة للغاية. فقبيل غزو أوكرانيا ، أشار الكثير من الخبراء إلى أن موسكو لم تكن قد بلغت بعد القوة العسكرية التي تتطلع إليها. علاوة على ذلك ، من المحتمل أن يكون الفساد قد أضعف نطاق الإصلاح (اختلاس الميزانيات ، وسرقة المعدات ، وتقارير كاذبة عن العمليات المنفذة ، وما إلى ذلك) ( 1).
_________________
(1 ) – انظر الكتاب عن الجيش الروسي للكاتبة " إيزابيل فاكون" - Isabelle Facon –
"systémique dans le système militaire et l’industrie d’armement "
_______________________

يضاف إلى ذلك مشكلة التجنيد التي اتخذت بعدًا مثيرًا للقلق بسرعة كبيرة بالنسبة لروسيا. لم تكن يستطيع موسكو الإقدام على التعبئة لأنه رسميًا تنفذ فقط "عملية عسكرية خاصة" ولا تخوض حربا. ونظرًا لعدم وجود عدد كافٍ من الرجال للخدمة ، فقد تم الإقرار بحملة تجنيد كانت متنافرة وغير متسقة ، ، ثم في سبتمبر 2022 تم اتخاذ قرار بشأن التعبئة "الجزئية" التي تثير ردود الفعل داخل المجتمع.
وبالنسبة لأوكرانيا تثير الحرب الروسية في أوكرانيا تساؤلات عن المجتمع الأوكراني على المدى المتوسط ، وعن التحديات التي تنتظره ، خاصة فيما يتعلق بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو.

لقد غيرت هذه الحرب النظرة الخارجية للمجتمع الأوكراني جراء المقاومة البطولية للشعب الأوكراني منذ بدء الغزو ، فضلاً عن قدرته على التعبئة واستخدام كل الوسائل المتاحة له ، وبذلك فرض ضرورة تقديره والإعجاب به عبر العالم. علما أن الحرب بالنسبة للأوكرانيين لم تبدأ في 24 فبراير 2022 ، ولكن في مارس 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ثم تدخلت في "دونباس. وقد نجحوا في التعبئة للتعويض عن أوجه القصور.

يبدو أن بوتين انتقص من قدرة الشعب الأوكراني واعتد بقوته ، مما أدى بالروس إلى حبس أنفسهم في هذه الرؤية للعلاقة غير المتكافئة بين الطرفين، والتي – أي الرؤية - أعاقت ، من بين أمور أخرى ، قدرتهم على فهم التطورات الأوكرانية المتسارعة.
من المعلوم، وعلى الرغم من قربهم التاريخي والثقافي ، فإن للروس والأوكرانيين هويات مسارات مختلفة اختلافًا جوهريًا. الشعبان لم يكونا متساويين. لقرون ظلت روسيا القوة الوصية ، وأوكرانيا ، مجرد "روسيا الصغيرة". ظل الروس حبيسي هذه الرؤية. ومنذ 1991 وخاصة منذ 2000 ، عندما وصل فلاديمير بوتين إلى الكرملين ، اعتمد البلدان خيارات داخلية ودولية مختلفة تمامًا. في الوقت الذي ساد فيه في نظام سياسي استبدادي وقمعي ، تبنت أوكرانيا تدريجياً نظامًا سياسيًا فاسدًا وغير منظم بالتأكيد ، لكنه ظل تعدديًا وتنافسيًا منذ فترة طويلة. ثم فرض التناوب السياسي نفسه في تسعينيات القرن الماضي وتوطد المجتمع المدني بمرور الوقت ، وتجلى بشكل خاص من خلال الأعمال الاحتجاجية واسعة النطاق (الثورة البرتقالية في عام 2004 ، وثورة الكرامة في 2013-2014التي انتصرت في الأخير.

فقد كانت العلاقات بين الدولتين الروسية والأوكرانية مضطربة لفترة طويلة. وأدى ضم شبه جزيرة القرم في 2014 ، ثم الغزو في 2022 إلى زعزعة العلاقات بينهما. بالنسبة للأوكرانيين ، كانت الصدمة أقوى لأن ما حدث حظي بدعم كبير وعلني من الشعب الروسي. وحدثت القطيعة الكاملة الآن.

عززت هذه التحولات السياسية والدولية التوجه الأوكراني المؤيد للغرب. كان ترسيخها في الاتحاد الأوروبي قد بدأ بالفعل قبل 24 فبراير 2022. وقعت اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي في 2014 ، واستفادت منذ 2017 من "نظام دون تأشيرة" للإقامات القصيرة في الدول الأعضاء في الاتحاد ، وكان العديد من مواطنيها يعملون أو يدرسون في الاتحاد الأوروبي منذ سنوات ، لا سيما في بولندا. أعطت الحرب لأوكرانيا قوة دفع جديدة، إذ قدم الأوروبيون والأمريكيون لأوكرانيا ،على الفور وعلى نطاق واسع الدعم، السياسي والعسكري والاقتصادي. وفي 24 يونيو 2022 ، اتخذت بروكسل خطوة أخرى بمنحها وضع الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد.

والآن ، إن أوكرانيا منخرطة، بدعم من شركائها الغربيين ، في مسار سياسي ، لكن التحديات التي يجب أن تواجهها هائلة ( إقرار السلام ، حل إشكالية الحدود (حدود 1991 - 2014 - أكتوبر 2022 أو غيرها) ، النظام الأمني الضامن لسلام دائم ، طبيعة العلاقة مع الجار المعتدي الروسي بعد الصراع ... ). وهذا ناهيك عن التحديات الاقتصادية وإعادة بناء البنية التحتية التي دمرها القتال والقصف الروسي.

في "المطلق الطوباوي" الحل موجود وجاهز : على المعتدي التراجع ومغادرة كافة التراب الأوكراني. أو على الأقل يمتلك بوتين القدرة على إيقاف هذه الحرب عندما يقرر ذلك، ويأمر قواته بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية. لكن لا يوجد ما يشير استعداده - أو حتى إجباره- على التصرف في هذا الاتجاه. إن هم بوتين حاليا هو تحويل الوضع لصالحه.

ما لم تتخذ روسيا قرارات "متطرفة" - وهو ما لن يكون في مصلحتها - يبدو أيضًا ، على المدى القصير ، أنه من غير المحتمل أن تتمكن روسيا من تحويل الوضع العسكري لصالحها. إذ سيتعين عليها إعادة تنظيم قواتها العسكرية ، وإرسال عدد كافٍ من القوات المدربة جيدًا والمجهزة جيدًا والمحفزة إلى الميدان ، واستعادة تماسكها ، وتجديد مخزونها من الأسلحة ، وما إلى ذلك من الترتيبات. لكن كيف يمكنها في فترة وجيزة أن تنجز ما فشلت في القيام به خلال الأشهر الثمانية الأولى من الحرب؟ علما إن مساعدة شركائها في بيلاروسيا وإيران وكوريا الشمالية ، مهما كانت مفيدة ، لا تبدو كافية لتكون قادرة على عكس مسار العمليات.

ومع ذلك ، لا تزال نتيجة الصراع غير متوقعة إلى حد كبير، وتتمتع روسيا بقوة الإزعاج التي لا تزال تسمح لها بالتأثير على مسار الصراع ، وهي قوة بدأت بالفعل في حشدها. وبعد فشلها عسكريًا ، حولت روسيا الصراع إلى فضاءات غير عسكرية ، لا سيما تلك المتعلقة بالاقتصاد والمعلومات والرأي العام. منذ بداية الغزو ، اتخذت مبادرات تهدف إلى خنق الاقتصاد الأوكراني: فقد أغلقت الموانئ الأوكرانية ونظمت حصارًا بحريًا للبلاد ، واحتلت أراضيها الزراعية الغنية وقصفت البنية التحتية المدنية. وفي خريف 2022 ، وبسبب عجزها عن ثني أوكرانيا بالوسائل العسكرية ، فإنها تفضل هذه الاستراتيجية. فمنذ 10 أكتوبر 2022 ، هاجمت بشكل مكثف البنية التحتية للطاقة في جميع أنحاء أوكرانيا ، بما في ذلك في "كييف"، عشية فصل الشتاء سعيا إلى حرمان السكان من الكهرباء والمياه والتدفئة كوسيلة لتركيعهم. كما تستخدم الغاز والنفط للتأثير على الرأي العام الغربي والخارجي. وبذلك ، تأمل في تقسيم دول أوروبا وأمريكا الشمالية ، ورفع العقوبات التي تؤثر على اقتصادها ووقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا. قد تكون الانفجارات التي وقعت في سبتمبر 2022 على خطي أنابيب الغاز "نورد ستريم 1 و 2 "، والتي يُشتبه في مسؤوليتها عنها ، بمثابة تحذير، فموسكو لديها الوسائل لزعزعة استقرار الاقتصاد العالمي من خلال مهاجمة البنية التحتية الاستراتيجية. ففي سياق المواجهة المتزايدة مع الغرب ، يلعب التلاعب بالمعلومات دورًا رئيسيًا ، ولطالما شكل هذا أداة مميزة للعمل الخارجي الروسي.

ويظل السؤال: هل يمكن لروسيا اليوم أن تصبح مرة أخرى القوة العظمى التي كانت عليها أيام الاتحاد السوفيتي؟
لقد بشرت نهاية الحرب الباردة (1989) وانهيار الاتحاد السوفياتي (1991) بتحول في العلاقات الخارجية لروسيا. وبعد ثلاثين عامًا ، يبدو أن غزو أوكرانيا أغلق صفحة التاريخ التي فتحت وقتئذ. لقد أشرك بوتين بلاده في صراع "إمبريالي جديد من عصر آخر" - مأساة لأوكرانيا ، وزلزال لأوروبا، نقطة تحول لروسيا - هذه الحرب على أوكرانيا، كشفت هوس "الدب الروسي" بالسلطة ، وتفاقم التناقض الذي تغلغل فيه. إنه لاعب دولي بفضل قوته في الإزعاج.
يؤكد تحليل علاقة موسكو بالعالم، أن روسيا على مفترق طرق. فعلى أي درب ستسير: إعطاء الأولوية للتنمية الداخلية، أم الإصرار على نفس الدرب الحالي كقوة في حالة انحدار متشابكة في نقاط ضعفها، الاقتصادية والديموغرافية والسياسية ، مقدر لها أن تكون عظيمة وتشكل القطب الآخر ، لكنها غير قادرة على منح نفسها الوسائل لتكون كذلك؟
____________________________ انتهى ______________________
المرجع:
Anne de Tinguy, « Le géant empêtré. La Russie et le monde de la fin de l’URSS à l’invasion de l’Ukraine », éd. Perrin, 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا