الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضواء على المشكلة الاقتصادية ( 3 ) .. القصة من أولها .

أحمد فاروق عباس

2022 / 11 / 26
الادارة و الاقتصاد


كانت تجربة محمد على الاقتصادية فى النصف الأول من القرن ١٩ هى التجربة الأولى - والوحيدة - للنمو والتقدم خارج أوربا الغربية ، وقد سبقت اليابان وكل آسيا والعالم القديم ..

كانت تجربة قائمة على أساس مبدأ فريدريك ليست فى القومية الاقتصادية ، حيث بناء الصناعة والزراعة ، مع اتباع سياسات مقيدة لحرية التجارة والاستيراد ، وهو ما يسمح بعد فترة بتوطن الصناعة ونموها ثم - بعد انتهاء فترة حضانتها - قدرتها على التصدير والمنافسة الخارجية ، وهو لب تجربة كل من ألمانيا واليابان في النصف الثاني من القرن ذاته .. القرن ١٩ .

وحققت تجربة محمد على نتائج باهرة بمقاييس زمنها ، فأقيمت مصر صناعات جديدة ، كان أغلبها فى البداية صناعات عسكرية وحربية ، كان من المتوقع بعد فترة أن يمتد أثرها إلى قطاع الإنتاج المدنى ، وأقيمت السدود والقناطر والترع ، وأدخل عام ١٨٢١ محصول جديد إلى التربة المصرية ، قدر له أن يصبح المحصول الرئيسي في مصر بعدها ولعقود طويلة .. وهو القطن .

وكان الجانب العسكرى هو مقتل محمد على وتجربته العظيمة ، فقد خرج للغزو والفتح قبل الأوان .. قبل بناء بناء مصر وقوتها ، وقبل البحث في العالم عن تحالفات سياسية وعسكرية تسند وقد الشدة وتساعد ..
وسيطر الجيش المصري على فلسطين وسوريا ولبنان ثم ذهب أبعد ، وعينه على اسطنبول .. مركز الخلافة .

وهنا تدخلت دول أوربا كلها تقريبا ، وخافت من قيام دولة كبرى وفتية في الشرق ، وأعطت نية محمد على إلغاء السلطنة العثمانية لدول أوربا - خاصة بريطانيا - الفرصة لاصطياده ..
ثم كانت هزيمة محمد على أمام دول أوربا عام ١٨٤٠ ، ثم توقيع معاهدة لندن عام ١٨٤١ ..

وكان من أبرز النتائج الاقتصادية لهزيمة محمد على اجباره على إنضمام مصر للمعاهدة التجارية التى وقعتها بريطانيا مع الدولة العثمانية عام ١٨٣٩ ..
وهى معاهدة شهيرة تنص على حرية التجارة بين البلدين ، وفتح أسواق الدولة العثمانية كلها أمام المنتجات الانجليزية والأوربية ..
وهو ما كان كافيا للقضاء على الصناعات المصرية الناشئة ، التى لم تأخذ الفترة الكافية للتوطن والنمو ..

وصفيت تجربة محمد على لبناء دولة صناعية ، لم تفشل التجربة بل تم افشالها ، ولم تتعثر من داخلها ولكن ضربت من خارجها .. وهو ما سيتكرر مرة ثانية بعد مائة عام وفى ظروف مختلفة ..

المهم ..
ضربت أول تجربة لمصر فى بناء نفسها طبقا لمبدأ القومية الاقتصادية وتدخل الدولة ..
وكان على مصر بعد أن فرضت عليها الهزيمة العسكرية أن تتحول إلى مجرد ألة في عجلة النظام الرأسمالي الغربى ..

ضاعت تجربة محمد على بعد هزيمته عامى ١٨٤٠ - ١٨٤١ وضاع عقله في سنين عمره الأخيرة وأصيب بالجنون ، ويذكر نوبار باشا - وهو واحد من رجال هذا العصر الكبار - في مذكراته التى نشرتها دار الشروق منذ وقت قريب ، أن محمد على كان يمشى في شوارع القاهرة فى أخريات أيامه اشعث الشعر ، وكان الناس ينظرون إلى اليه كواحد من المجاذيب !!

وعلى الرغم من أن أبناء محمد على لم يصابوا بما أصاب والدهم العظيم ، إلا أن خفة العقل كانت سمة أساسية فيهم كلهم ، ربما باستثناء إبراهيم باشا الذى توفى في حياة والده ، فسعيد باشا - والعهدة أيضا على مذكرات نوبار باشا - يسأل خدمه ( مرة عامل حمامه الخاص ، ومرة حلاقه ) ماذا سيقول التاريخ عنى ؟!!
ومن الممكن تخمين نوع الاجابة التى سيقدمها لحاكم مصر عامل الحمام الخاص به وحلاقه !!

وكان سعيد يمارس تحضير الأرواح ، وكان رجال الحكم أيامها - والعهدة مرة ثالثة على نوبار باشا وكان من أكابر رجال هذه الحقبة ، ورئيسا لوزراء مصر أيام الخديو إسماعيل - من نوعيات غريبة ، فأحدهم سارق قبور ، وآخر قرصان بحرى جعله سعيد قائدا للبحرية !!

ولم تختلف صفات اسماعيل أو إبنه توفيق عن ذلك كثيرا ، وبالنسبة لتوفيق فقد كان رأى والده فيه فى منتهى السوء ..

وإذا كان حكام مصر ورجالهم بهذه الصفات ، فمن الممكن توقع أى مستقبل لمصر كان فى انتظارها في ظلهم ..

إنتهت وصفيت الصناعات ، واغلقت المدارس خلال حكم عباس وسعيد ، وكان لازدهار القطن بشدة فى مصر أواسط القرن ١٩ - مع الحرب الأهلية في أمريكا وتوقف تصدير القطن الأمريكى وزيادة الطلب على القطن المصرى - أن تدفق على مصر عشرات الألوف من الأجانب كتجار وسماسرة ومغامرين ، يبحثون عن أى فرصة للثراء السريع ، وقد أتاح إنشاء المحاكم المختلطة عام ١٨٧٦ لهم امتلاك مساحات كبيرة من الأرض الزراعية واستغلالها في زراعة القطن ، وهى عناصر بطبيعة تكوينها لم تكن تبحث عن الصناعة والتصنيع ولا تهتم بها ، بل كان الربح وجمع الثروات من أقصر الطرق وأسهلها هو حاكمها ..

وبعد سفه الخديو إسماعيل ورعونته في تكبيل مصر بديون هائلة ، استغل الذئب البريطانى الفرصة السانحة واحتل مصر عام ١٨٨٢ ..

كان الحاكم البريطانى لمصر هو اللورد كرومر ، وكان من رأيه أن العناصر المكونة لمصر عناصر فاسدة ، ولا تصلح لحكم مصر ، وهى :
- أسرة حاكمة متواضعة القدرات .
- الأتراك المتمصرين ، وفى يدهم الجزء الأكبر من موارد البلاد وخاصة الأرض الزراعية .
- الفلاحين من عموم المصريين ، وهم الجزء الأعظم من سكان مصر .
- أعيان البلاد من ملاك الأراضى .
- رجال الأزهر ، والدراسة فى الأزهر كانت نوع التعليم الوحيد المتاح للمصريين أيامها .

وكان رأى بالمرستون - رئيس وزراء بريطانيا العتيد - أن مصر لا تعدو أن تكون " اللوكاندة " فى الطريق إلى جوهرة التاج للأمبراطورية البريطانية .. وهى الهند .

لم يسمح الاحتلال البريطانى بأى نوع من التقدم في مصر ،
فلم تنشأ فى مصر أى نوع من الصناعة ، وأنهار التعليم ، وأصبحت وظيفته الأساسية تخريج كتبة ومستخدمين للوظائف الحكومية الدنيا ..

وباستثناء تطوير وسائل الرى من سدود وترع ومصارف ، وزيادة رقعة الأرض الزراعية ، والتوسع في زراعة القطن لتشغيل مصانع الغزل والنسيج البريطانية فقد كان يخيم على الحياة الاقتصادية فى مصر ركود كامل ..

وحتى التجارة لم يكن لها فى مصر نصير ، وبينما كانت التجارة عبر البحار والمحيطات هى ما بنت بريطانيا وجعلتها سيدة الدنيا ، كانت الطبقة الثرية المصرية - وهى أساسا من كبار ملاك الأراضى الزراعية - تحتقر التجارة والتجار ، وكانت حياتها موزعة بين ضياعها الواسعة فى الريف ، وبين نوادى الطبقة المترفة او اماكن اللهو والمسرات في القاهرة والإسكندرية ، بينما كان أكبر هم أبناء هذه الطبقة هو حفلات الرقص للشباب وتعليم البيانو للفتيات ..

أما بالنسبة لأبناء الشعب - فكما رأى جمال حمدان - كان الدين وإنتاج الأبناء بكثافة عزاء عن حالته شديدة السوء ، وبديلا عن الحياة الجيدة ..

كان الاقتصاد المصرى اقتصاد زراعى بالكامل ، وكان تصدير القطن يمثل أكثر من ٩٠% من إيرادات البلاد ، وكانت الصناعة بسيطة وحرفية ، ولم تكن مصر قد عرفت بعد الصناعات الكبيرة أو الثقيلة ..

وكان رجال الأعمال في مصر فى الأربعينات شخصيات مثل عبود باشا واحمد فرغلى باشا - ملك القطن - وحتى التجربة العظيمة التي قامت على أكتاف وهمة رجل واحد هو طلعت حرب وتجربة بنك مصر وشركاته وصلت إلى التعثر والجمود في الأربعينات بعد وفاة مؤسسها وراعيها عام ١٩٤١ .

وطبقا للسفير السوفيتي فى مصر فى الأربعينات فإن الملك فاروق كان يمتلك ٢٨ ألف فدان ، تدر عليه مليونى جنيه سنويا ( كتاب " يوميات دبلوماسي في بلاد العرب " )

وكانت خلاصة المائة سنة تلك - بعد وفاة محمد على عام ١٨٤٨ وحتى قيام ثورة ١٩٥٢ - أن مصر التحقت بالنظام الرأسمالي كمجرد تابع لبريطانيا ..

وبعد تجربة قصيرة في نظام اقتصادى تقود فيه الدولة عملية التنمية والبناء الاقتصادى طبقا لمبدأ القومية الاقتصادية ، اتبعت مصر حرية السوق ، ووصلت بعد مائة عام فى ظلها أن كانت أحوالها في منتهى السوء ، والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية - وهى متاحة بسهولة لمن يريد - ناطقة بحقيقة الأوضاع ..

ومع التغييرات السياسية في مصر فى صيف ١٩٥٢ كانت مصر على موعد مع تغيير نظامها الاقتصادى مرة أخرى ، والعودة مرة ثانية إلى مبدأ القومية الاقتصادية وتدخل الدولة ..

فماذا حدث ؟!

بعد فترة بسيطة اختبرت فيها السلطة الجديدة نظام حرية السوق مرة أخيرة - حيث قدمت تسهيلات كثيرة لرأس المال المحلى الأجنبى للتقدم والعمل - لم تسفر المحاولة عن شئ ، وكانت أغلب الاستثمارات الخاصة اما مجمدة عن العمل والاستثمار ، أو مستثمرة فى قطاع العقارات ..

ومع النصف الثاني من الخمسينات كان جمال عبد الناصر يقترب أكثر من مبدأ تدخل الدولة لقيادة التنمية فى مصر ..

وفى عام ١٩٥٧ تنبأ عالم الاقتصاد الأمريكى الشهير بول باران أن ظروف مصر شديدة المواتاة لتسير في الطريق اليابانى ، فكما فى اليابان - فى تجربتها التنموية الأولى فى أواخر القرن ١٩ - يساند الجيش طبقة الرأسمالية القومية فى مصر ( كتاب بول باران : الاقتصاد السياسى للتنمية ) ..
ولكن لم تسر الأمور كما تنبأ باران ، واخذت مصر اتجاها آخر ، وسارت فى طريق الاشتراكية ..

وفى ظل تدخل الدولة القوى اممت التجارة الخارجية ، وأصبح الاستيراد والتصدير في يد الدولة ، وتمت السيطرة بحزم على الصرف الأجنبى ، وتم بناء قطاع صناعى هائل الحجم فى ظروف دولة من دول العالم الثالث ..

تعرضت التجربة لعثرات طبعا ، وأهمها تعثر الخطة الخمسية الأولى ( ١٩٦٠ - ١٩٦٥ ) فى سنتها الأخيرة ، بعد الضغط الاقتصادى الأمريكى على مصر ، ممثلا فى رفض إمداد مصر بالقمح المدعم واضطرار مصر إلى استيراده بمبالغ كبيرة ، ثم توقف الدعم الاقتصادى من ألمانيا الغربية ، بعد أن قطعت مصر علاقتها معها بسبب اعتراف ألمانيا بإسرائيل ..

وقد أدى ذلك إلى مشاكل فى تمويل خطة التنمية الثانية ، وتم مدها إلى سبع سنوات بدلا من خمس ، ثم الرجوع مرة أخرى إلى اعتبارها خطة لخمس سنوات بعد إكتشاف بعض آبار البترول عام ١٩٦٦ ..

كانت تلك - على أية حال - مشاكل نمو وليست مشاكل تخلف ، ومشاكل بناء وليست مشاكل جمود ..

وفى كتابه المهم " رأسمالية القرن العشرين " لعالم الاقتصاد المجرى الشهير يوجين فارجا مقارنة بين مصر والهند في الخمسينات وبداية الستينات ، وقد جاءت كالأتى :

" لم يطبق فى الهند أى إصلاح زراعى ، وكان تسعة أعشار مجموع الإئتمان الزراعى فى الريف الهندى مازال مصدره الأقارب والمرابين ومالك الأرض " .

وبالرغم من مساحة الهند الكبيرة واتساع أراضيها الصالحة للزراعة تعرضت الهند للمجاعة مرارا ، ومنها ما حدث في منتصف الستينات ، وقد أوشكت المجاعات أن تصل بالبلاد إلى حافة الحرب الأهلية عام ١٩٦٦ لولا المساعدات الغذائية الخارجية ..

" ففى الهند التى أشرف عدد سكانها على ٥٠٠ مليون نسمة نجد أن الخطة الخمسية الثانية التى تغطى الفترة ٥٦ - ١٩٦١ لا تتعدى اعتماداتها ٤٧٠٠ مليون جنيه استرليني ، وأن الهدف الذى اتخذته لنفسها هو زيادة الدخل القومي بمقدار ٥ % ، وهى زيادة متواضعة للغاية ، ولا يتعدي نصيب الصناعات الإنتاجية من هذه الإستثمارات ١١ % ، وفى المقابل فإن مصر ، التى لا يزيد عدد سكانها عن ٠,٠٧ % من سكان الهند استثمرت في خطتها الخمسية الأولى ١٥٠٠ مليون جنيه استرليني ، ونحو ٣٠٠٠ مليون جنيه استرليني في خطتهاالخمسية الثانية " ..

... ثم كان أن ضربت التجربة المصرية الثانية فى بناء الاقتصاد المصرى طبقا لمبدأ الدولة التدخلية والقومية الاقتصادية ، كما ضربت التجربة الأولى من مائة عام ..

وكما قادت بريطانيا تحالفا دوليا لضرب تجربة محمد على فى القرن ١٩ ، قادت أمريكا جهدا كبيرا - كانت إسرائيل مجرد اداته ويده المنفذة - لضرب تجربة جمال عبد الناصر فى القرن ٢٠ ..

والمهم أن التجربتان العظيمتان لما تفشلا من الداخل ، بل تم افشالهما من الخارج .. وبالقوة المسلحة فى الحالتين .

وكما فى الحالة الأولى ، عندما تحولت مصر بعد هزيمتها العسكرية إلى اقتصاد السوق ، حدث فى الحالة الثانية نفس الشئ بالضبط .. تحولت مصر - وإن كان ببطء أكبر - إلى إقتصاد السوق مرة أخرى ..

وكان علي مصر أن تجرب حظها في ظل الرأسمالية وحرية السوق ثانية ، وفى ظروف مختلفة جدا عن تجربتها الأولى ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر العربية: احتراق أكبر بئر لإنتاج النفط في حقل زرقة شرقي


.. نشرة الرابعة | -النقد الدولي-: هجمات الحوثيين تسببت في انخفا




.. المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض: ما الإنجازات التي حققته


.. انخفاض طفيف في عيار 21.. سعر الذهب اليوم الإثنين 06 مايو 202




.. صباح العربية | حمام الذهب في تونس.. أسرار غامضة وحكايات مرعب