الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة مفاجئة لأطفال المحرقة

سماح خليفة

2022 / 11 / 27
الادب والفن


خائن يا (نوم)، عاهدتني ألا تسلّمني إلى أيّ مراهِنٍ على راحتي، ولا أي صوت يمدّ يده ليفرُكَ أذني بعد أن أطبقت على قافية لنشيد المتعبين، ليلة واحدة فقط يا (نوم) أسنِدُ أفكاري على كتفِ حلم هادئ، يدندن مقطوعة الحياة لمن سكنوا نبضي، وأترعوني شوقًا للقائهم، ليلة واحدة تخلع مسؤوليّتها من كل شيء إلّاهم، ما زلت بشرًا يا نوم! أرفِلُ بمشاعري المتكسرة على قبور من رحلوا! ليلة واحدة يا (نوم)، ليلة واحدة...
"قومي يا سماح"، كان الأمر في البداية مزعجًا، حتى اعتدته فيما بعد، صرت أفتح عينيَّ بكامل نشاطي وأستجيب له، أحيانًا يكون صوت أحد بناتي أو أبنائي، وأحيانا صوت الله، كنت أنهض وأتوجه إلى صاحب الصوت إن كان أحد أبنائي، فأجده مستغرقًا في النوم، أتفقّده، أسحب غطاءه نحو كتفيه، أزرع قبلة في جبينه؛ لتنمو على مهل وتورق حتى الصباح. وإن كان صوت الله أذهب لصلاة ركعتين والجلوس معه، نتجاذب أطراف الحديث، أتقدم إليه بالشكر أحيانًا، وأشكو له أحيانًا أخرى، أبكي بين ذراعيه أحيانًا، أضحك برفقته أحيانًا أخرى، وفي أحيانٍ كثيرة نشاهد فيلمًا من أفلام (الماضي)، نناقشه على مهل: الشخوص، زوايا الإضاءة، الهفوات التي وقع فيها الشخوص، وليس المخرج (حاشى لله)، ثم المؤثرات المحيطة... وأخيرًا: كيف نجت البطلة واستطاعت التخلص من المكائد التي حيكت لها؟ ومتانة الحبكة في الفيلم.
كثيرًا ما كنت أعجزُ عن مواصلة أي حديث سوى أن أشكو له ذاك المارد، الذي لا دين له، يربض على أنفاسنا منذ أكثر من سبعين طعنة وطعنة وقبر... لا يتركنا نهنأ يومًا واحدًا بلا فاجعة، تمزّق قلوبنا إربًا وترميها للكلاب الضالة في بلادنا، وما أكثرها!
يكتفي الله بابتسامة دافئة ونظرة حانية، تشعرني باطمئنان، كيف ولماذا؟ لا أعلم. أشكو له هذا الاكتئاب الذي يقبض أنفاسنا فجأة، ويربض على صدورنا، دون سابق إنذار ودون ظروف تُهيّئ لمجيئه، فأشعر بيده تلامس أغوار الماضي في ذاكرة الحنين، ينتزع رصاصة عالقة، ظلّت تَدفِقُ دماءً حتى اللحظة، فإذا بالرصاصة تتحول بين يديه إلى غبار، إلى الـ...لا شيء، وبلحظة خارج الزمان والمكان، تنسحب الدماء متسارعة إلى الخلف، يلقمها الثقب مطبِقًا فاه بلا آثار جانبية.
حتى الآن لم أجرؤ على سؤاله عن أطفال المحرقة في غزة، لم أجرؤ على مناقشته في الأمر، خفت أن يضيق عقلي عن استيعاب الإجابة، خفت أن يتوالد السؤال أسئلة متمردة أفقد السيطرة عليها، أقفلت كل النوافذ في وجه السماء، حتى لا يتسرب إليّ وجه لطفل ذائب في هجير الموت، أو صوت أحدهم يحاول الفرار من قبضته، أو بضع دماء تسيل مع لُعابه. بقيت أقاوم أي منشور أو خبر أو تعليق يتحدث عن المحرقة، حتى التعزية التي علقتها على جداري الأزرق أزلتها في اللحظة ذاتها، تجنبت رثاءهم بقصيدة، كبّلت حروفي التي تفلّتت من فمي إلى أوراقي، وطويتها بإحكام، بل صنعت منها كرة تتدحرج أمامي، أركلها بعجز بين الفينة والفينة، كلما أطلَّ رأس لأحد حروفي منها دككته بقبضة يدي، أردت له الانضمام إلى قافلة المحرقة بلا تردد.
بقيت على هذا الحال حتى أيقظني صوتهم تلك الليلة، كيف عرفتهم؟ لا أعلم، فتحت عينيّ محدّقة، لا أريد للصور التي أتحاشاها أن تَمثُلَ أمامي، لم أجد أحدًا، فقط صوتهم أبيض هشًا رقيقًا، يستدرجني إلى الأسفل (تعالي معنا)، أشعر بهم يشدّون على يديّ، خِفتُ التزحلق عن الدرج، بخفة بالغة وجدت نفسي على المكتب، أنظر في شاشة اللاب توب، شعرت بأصبع صغير يشير إلى الصورة في الشاشة "#أبي_اقرأ_لي"، همس أحدهم في أذني: ماذا عنّا؟ أيننا من هذا؟
شعرت بدمعةٍ تهوي إلى باطن كفي، كانت ثقيلة، ارتعشت لها كفي، ثم تدحرجت ساخنة، ضممت أصابعي إلى كفّي، احتضنتها قبل أن تتوه في العتمة. اختنق السؤال في حنجرتي، ضلّ طريق الإجابة: ماذا عنهم؟ التفتّ يمنة ويسرة فإذا بهالات من النور تتربع أمامي على سطح المكتب، شعرتُ بها تبتسم، تهمس، بيدَ أنّ صوتًا واحدًا تناهى إلى مسمعي:
"لم يمنحني القدر وقتًا كافيًا لأجلس برفقة والدي كي يقرأ لي، ملعونةٌ هدايا الميلاد في غزة، وكعكها مرّ، لم تمنحْنا مساحة للفرح، لم تمهلْنا بضع دقائق لنتذوق حلاوة الكعكة برسم اللقاء المنتظر، طَرْقُ الباب تناهى إلى مسامعنا فجأة؛ ليخطف منا لُقمةً باذخةً بدفء أمي وأبي وعائلتي، ما إن استلم أبي الصندوق حتى هرعتُ إليه أحثّه على فتحه، ملهوفة لرؤية ما في داخله، ربما كعكة أخرى؟ ربما ألعاب؟ أو ربما مفرقعات؟ فَعَمّي لم يحضر معه مفرقات، هو يخاف علينا، فقد أوصانا والدي كثيرًا بعدم العبث بالمفرقعات أو نحوها، بعد رجوعه المرّة الماضية من مؤتمر السلامة والصحة المهنية، إلا أنّ زائرنا الملعون تجاهل وصايا والدي، وأصرّ على أن يهدينا مفرقعاته التي طارت بنا إلى أقاصي السماء، خفت في بادئ الأمر عندما رأيت أمي تحتضن أخي وتصرخ، تصرخ لنجدة أحدهم، وأنا وأبي نصرخ ونلوّح لها بأيدينا، لعلّها تسمعنا أو ترانا فتلحق بنا، هي دقائق قليلة حتى احتفت أرواحنا في السماء، وأطفأت أنفاس شموعنا. خلعنا جلودنا وتركناها لتلتهمها النيران، وتقول هل من مزيد؟ ونقول: لا مزيد، فهل ثمّة متسع لموت موتك يا غزة؟"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي