الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب -معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا-: سبرٌ لأهم المرتكزات الفكرية لعصر التنوير الأوروبي

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2022 / 11 / 28
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يُعد هذا الكتاب، الذي أنجزه الباحث والمترجم السوري هاشم صالح، من أبرز الأعمال التي عنيت بدراسة وإضاءة المحددات الأساسية لعصر التنوير الفكري بأوروبا، والذي يمكن وصفه بالرحم التي تمخضت عنها الحضارة الأوروبية الحديثة، بحيث عرض مؤلفه للإسهامات الفكرية النوعية التي جاد بها فلاسفة التنوير، والمعارك الكبرى التي خاضوها ضد أصوليي أوروبا في سبيل انتزاع أمتهم من براثن العصور الوسطى المظلمة، ومن ثم دخول غمار عصر الحداثة.
وفي البداية، يفند الكاتب الرؤية التاريخية المغلوطة التي تعمد إلى المرادفة بين عصر التنوير والقرن الثامن عشر بفرنسا، إذ يفيد بأن التنوير تعود نشأته إلى القرن السابع عشر بالتزامن مع ظهور العلم الحديث على يد غاليليو وديكارت ونيوتن وكيبلر ولايبنتز، الأمر الذي أفضى عمليا إلى تقويض النظرية العلمية الكلاسيكية لفلاسفة اليونان القدماء، وتحديدًا أرسطو وبطليموس وطاليس، والتي حولتها الكنيسة إلى إحدى مسلماتها اليقينية والمطلقة بعد أن تبنتها في القرن الثالث عشر، بفضل الصيغة التوفيقية التي توصل إليها القديس توما الأكويني بين الدين والعلم. وعليه فقد شكل ظهور العلم الحديث، إبان تلك الفترة، تحديًا غير مسبوق لهيبة الكنيسة، التي كانت تزعُم بأنها الوحيدة القادرة على تفسير نظام الكون، مستندةً في ذلك إلى النصوص الدينية واللاهوتية:
"فعلم الفلك الذي أسسه بطليموس كان يقول بأن الأرض ثابتة، وأن الشمس تدور حولها كما هو واضح للعين المجردة. فنحن نلاحظ أن الشمس تشرق من الشرق صباحا، وتغرب في الغرب مساء، وبالتالي فإن لا مجال للشك في أن الشمس هي التي تتحرك وتدور حول الأرض. ولكننا نعلم أن العلم ينقض ملاحظة الحواس هذه ويُثبت العكس: أي أن الأرض هي التي تدور حول الشمس على الرغم من كل المظاهر. وكان لهذه المقولة في زمن غاليليو وقع القنبلة على معاصريه. كانت تعني نقض إحدى العقائد التي لها قداسة العقائد الدينية، لأن الكنيسة تبنتها كحقيقة لا تقبل النقاش."
وهكذا فإن عصر التنوير الفكري بزغ، في المقام الأول، كرد فعل على التعصب الديني الكهنوتي والأصولية الظلامية، بحسبانها نظامًا دوغماتيًا مغلقًا على ذاته، يدعي امتلاكه الحقيقة المطلقة والأزلية، فقد شهدت أوروبا خلال تلك الفترة حروبا وصرعات دامية بين المذاهب والطوائف الدينية المتناحرة، كما كانت الكنيسة تمارس وصاية مطلقة على عقول وأرواح الناس. ولذلك فقد نادى فلاسفة التنوير بوجوب بلورة إيمان عقلاني حر، قوامه التسامح الديني وحرية الضمير والمعتقد، بما مفاده تحويل الإيمان إلى مسألة شخصية مرتبطة بضمير الفرد واعتقاده، فالفرد حر بأن يعتقد ما يشاء وفق ما يمليه عليه اقتناعه الشخصي، دون إكراه أو إجبار من أي سلطة.
وعطفا على ذلك، أعاد مفكرو التنوير صياغة العلاقة بين الدين والأخلاق، إذ انبثق خلال تلك الحقبة تصور جديد للأخلاق العلمانية أو ما يسمى بعلمنة الأخلاق، ذلك أن فلاسفة أوروبا فصلوا بين الأخلاق والدين في تحد للعقيدة اللاهوتية القروسطية، ومؤدى ذلك أنه ليس ضروريا أن تكون متدينا لكي تتحلى بالأخلاق الحميدة. وقد ضرب الفلاسفة أولاء مثلا على ذلك بفساد طبقة رجال الدين، الذين لم يلجمهم تدينهم عن استغلال عامة الناس من البؤساء والمعدمين، والاستئثار لأنفسهم بالثروات والخيرات. كما أن علمنة الأخلاق تعني، من جهة ثانية، وجوب معاملة جميع الناس معاملة أخلاقية متساوية، وليس فقط بني جلدتنا الذين يشاركوننا ديننا أو طائفتنا.
إن ما سبق ذكره لا يعني بأن فلاسفة التنوير كانوا ملاحدة أو معادين للأديان، ذلك أن معظمهم كان يؤمن بوجود إله متعال حكيم من حيث هو المهندس الأعظم للكون، غير أن ذلك لم يمنعهم في الوقت نفسه من إعمال قراءة نقدية في تراثهم الديني والنصوص اللاهوتية، من أجل تنقيحها من العقائد اللاعقلانية والمضادة للمنطق (ألوهية المسيح، عقيدة التثليت، الخرافات والخوارق... إلخ). هذا في حين لم يكن يمثل التيار الراديكالي الملحد، الذي تبنى نظرة مادية صرفة للكون، بزعامة "ديدرو"(صاحب الموسوعة الشهيرة) و"دولبارك"، سوى أقلية بين تنويريي أوروبا.
على أن أعلام التنوير ما وقفوا عند حد تحرير مفهوم الإيمان وتخليصه من شوائبه غير العقلانية، بل وضعوا نصب أعينهم أيضا تحرير فعل المعرفة ذاته من المرجعية اللاهوتية المقدسة وسلطان الموروث، وبالتالي تأسيسه على العقل والتجربة المحسوسة، ومن هنا يمكن تفسير نشأة الإبستمولوجيا، التي تعني حرفيا "علم المعرفة" أو "نظرية المعرفة". وفي هذا الصدد، ثمة اتجاه يتزعمه الفيلسوف العقلاني ديكارت، يذهب إلى أن العقل الخالص هو مصدر المعرفة الحقة. وما التنوير عند الفيلسوف الألماني كانط إلا القدرة على استخدام عقولنا والتفكير بحرية وباستقلال عن سلطة الآخرين. وفي المقابل، نجد النزعة التجريبية لرائدها جون لوك، التي تشدد على أن المعرفة لا يسعنا النفاذ إليها إلا عن طريق الحواس والتجربة.
وإذا كان أصوليو أوروبا قد سعوا إلى حفظ مكانتهم في مواجهة أنوار الحداثة عن طريق الاستنجاد بسلطة الماضي والعقيدة اللاهوتية المترهلة، فإن الحداثة عملت على فرض وجودها - أقله من ناحية المنطلقات التأسيسية النظرية - بالاستناد إلى شرعية الإنجاز، والإيمان بفكرة التقدم، والوعد بمستقبل أفضل يضمن الرفاه والسعادة للبشرية جمعاء. والحق أنه يستعصي الفصل بين التقدم المادي أو الاقتصادي والتقدم الفكري مثلما يقول فولتير، ذلك أن الأفكار المستنيرة ما تلبث أن تنتشر في سياق تقدم الحياة الصناعية والتجارية - لا يفوتنا التنبيه هنا على أن فلاسفة التنوير قدموا عمليا للبرجوازية الصاعدة إيديولوجيا تمدها بأسباب وجودها وبقاءها - هذا في حين أن أخلاقيات الزهد والتعفف والتواكل التي شجعت عليها الكنيسة، كانت تتلاءم على وجه الخصوص مع أوضاع التخلف الاجتماعي السائدة وقتئذ (فقر، جهل، أمية، أمراض، أوبئة... إلخ).
على أن فلاسفة الأنوار، في تقدير الكاتب، لم يناضلوا فقط من أجل تحرير الشعوب الأوروبية، وإنما في سبيل خلاص وانعتاق البشرية جمعاء، فقد اعتنقوا الكوسموبوليتية (المواطنة العالمية أو الكونية) ونادوا بالفكاك من النزعة القومية الشوفينية الضيقة التي جرت الكثير من الويلات على شعوب أوروبا. ولعل هذا ما حدا بعض مناهضي السياسات الكولونيالية الغربية إلى تحميل فلاسفة التنوير المسؤولية الأخلاقية والمعنوية عن تلك الحملات الاستعمارية لكونهم وفروا غطاء إيديولوجيا لها، بتعلة السعي إلى تحضير (من حضارة) تلك الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار، وتخليصها من أوضاع التخلف والرجعية. إلا أن المؤلف ينبهنا إلى أن تلك الحملات، ولئن تشدقت ظاهريًا بمُثل التنوير الكونية، فإنها كانت تُضمر أجندة مغرضة تَهْدُف إلى خدمة المصالح القومية الضيقة لتلك الدول الكولونيالية (نهب موارد وخيرات تلك الدول، تحقيق مصالح جيوسياسية... إلخ)، وهو ما يتنافى مع التوجه الكوسموبوليتي لتنويريي أوروبا.
وإذا كان فلاسفة أوروبا في القرن الثامن عشر قد انصرف همهم الأساسي إلى نقد وهدم العقائد القديمة وبيان مواطن الاختلال والفساد الكامنة فيها، كمُدخل ضروري لولوج عصر الحداثة، فإن تنويريي القرن التاسع عشر، وفي مقدمتهم "سان سيمون"، الذي يُنظر إليه على أنه مؤسس العلوم الإنسانية، فضلا عن تلميذه "أوغست كونت"، قد ارتأوا بأنه آن الأوان لكي نترك مرحلة النقد والتفكيك خلف ظهورنا، وندشن مرحلة البناء والتنظيم، من خلال العمل على إرساء أسس نظام اجتماعي واقتصادي جديد، قائم على الإيمان الأعمى والمطلق بممكنات وآفاق العلم والصناعة، مشكلًا بذلك قطيعة مع النظام الإقطاعي الزراعي القديم، الذي كان علامة على تخلف أوروبا.
والحال أن الدفع بالفلسفة الوضعية المجردة من أي مضمون عاطفي أو وجداني إلى حدودها القصوى، هو الذي أفضى إلى حدوث تشوهات في مبادئ التنوير الأصلية، وحرفها عن جوهرها، بحيث أمعنت الحضارة الغربية الحديثة في النزعة المادية الاستهلاكية المحضة، الشيء الذي أدى لاحقا إلى ظهور نظرية "ما بعد الحداثة" أو "نقد الحداثة" في منتصف القرن العشرين، كمحاولة لتصويب وتقويم الانحرافات التي حصلت في مسار الحداثة، وإضفاء بعد أخلاقي وإنساني عليها.
وبالرغم من أن الكاتب يذهب إلى أن نقد الحداثة، أو بالأحرى الانحرافات التي شابت مسارها، يُعد ضرورة تاريخية في الغرب الصناعي، لضمان التوازن بين التقدم المادي والجانب القيمي والروحي، فإنه يحذر في الوقت نفسه من استنبات نظريات ما بعد الحداثة في البيئة العربية، لكونها غير مهيأة بعد لاستقبالها واستيعابها، ذلك أن عملية النقد والتفكيك وإعادة التركيب تكون لاحقة للتجربة والممارسة العملية، لا سابقة عليها، والحال أن عالمنا العربي والإسلامي لم يدخل بعدُ غمار التحديث، وما نزال نعيش مرحلة ما قبل الحداثة.
وفي الختام، سنعمل على استنباط أهم التوصيات التي ضمنها الكاتب في مؤلفه هذا، والتي هي بمثابة نبراس تستضيء به الأنتلجنسيا العربية (النخبة المثقفة) في سعيها لإلحاق العالم العربي والإسلامي بركب التنوير والحداثة، ويمكن إجمالها فيما يلي:
- لقد زرع فلاسفة أوروبا بأفكارهم النيرة (فولتير، روسو، ديدرو، نيوتن، جون لوك، كانط، هيغل...) بذور الحداثة الغربية، ذلك أن أوروبا الحديثة مدينةٌ بتقدمها ونهضتها لفلاسفة التنوير، الذين كان لهم قصب السبق في خلخلة جمود القرون الوسطى، وشق الطريق لولوج عصر الحداثة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية.... وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل بحسب الكاتب على أن التنوير يسبق التحرير، بمعنى أن نهضة الفكر تكون سابقة على التقدم السياسي والمادي، الذي لا ينبع من فراغ، وإنما يفترض وجود حاضنة فكرية تشكل نواة له. وهذه بمثابة رسالة ضمنية إلى مفكرينا ومثقفينا للنهوض بمسؤوليتهم التاريخية، في أفق بلورة مشروع تنويري عربي متكامل وواضح المعالم.
- عانى فلاسفة أوروبا الأمرين، وتعرضوا للملاحقة والاضطهاد من قبل الأصوليين، الذين بذلوا ما وسعهم من جهد لوقف زحف التنوير، والإبقاء على الأوضاع السابقة. وعليه فإن نجاح مشروع التنوير، لا يمكن أن يتم دون بذل تضحيات وجهود عظيمة، ما دام أنه ليس من الهين تقويض العقائد المتجذرة تاريخيا بين عشية وضحاها. يحيلنا ما سبق إلى التصور الجدلي والعقلاني للتاريخ عند هيغل، فهو يرى بأن حتى الأحداث التاريخية المؤسفة والمروعة تحركها غاية عقلانية، تفضي في المحصلة إلى إحراز التقدم والنهوض، فلولا الحروب الأهلية والصراعات المذهبية والطائفية، التي نخرت جسد أوروبا في تلك الحقبة، لما ظهرت الحاجة إلى ظهور فكر التنوير، الذي انتشلها من الظلمات التي كانت تطبق عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التنوير يسبق التحرير مقولة رائعة
منير كريم ( 2022 / 11 / 28 - 21:59 )
الاستاذ المحترم صلاح الدين ياسين
شكرا على مقالك التنويري الهام جدا
وخاصة المقولة الرائعة الذي تضمنها المقال وهي
التنوير يسبق التحرير
ملاحظتي الخاصة هي التقييم السلبي للفلسفة الوضعية والتقييم الايجابي لفلسفة هيجل الذي ورد في المقال
الوضعية كامتداد للتجريبيةهي ذروة الفلسفة وهي الان فلسفة العلوم بلا منازع
الهيجلية فلسفة غائية رجعية وقد طبعت الماركسية بهذه الصفات اللاعلمية
شكرا لك ثانية

اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران