الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك الاستبداد في السودان

راتب شعبو

2022 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


لم يكن مفاجئاً الإعلان مؤخراً، عن توصل تحالف "قوى الحرية والتغيير" في السودان إلى تفاهمات مع العسكر تقود إلى تشكيل حكومة مدنية وإلى إنهاء الأزمة في البلاد وخروج العسكر من العملية السياسية. تنبع أهمية الخبر من أنه إشارة إلى ضعف العسكر بعد أكثر من سنة على انقلابهم (أكتوبر/تشرين الأول 2021) على الميثاق الوطني الذي تم التوصل إليه في أغسطس/آب 2019، وحل المجلس السيادي والحكومة المدنية. فقد اضطر قادة الانقلاب مجدداً، تحت ضغط الشارع، إلى الدخول مع القوى المدنية في التفاوض على مسار خروج العسكر من العملية السياسية. لا يغير في حقيقة ضعف موقف الانقلابيين، أن عبد الفتاح البرهان (القائد العام للقوات المسلحة السودانية)، رغم إشارته إلى التفاهمات مع "الحرية والتغيير"، يواصل الكلام عن وصاية العسكر على الحكومة المنتظرة.
يتميز الصراع السياسي في السودان في أن القوى الرافضة لحكم العسكر استطاعت الموازنة بين الحزم والمرونة. الحزم الذي يتجلى في المثابرة على الاحتجاجات السلمية والمطالبة بحكم غير عسكري، والمرونة التي تتجلى في قبول الحوار الذي ينفتح مساره على تأسيس حكم مدني يعود فيه العسكر إلى "مهنتهم" العسكرية. صحيح أن هناك قوى مدنية ترفض أي شكل من التفاوض مع العسكر (مثل لجان المقاومة وبعض الأحزاب السياسية داخل تحالف قوى الحرية والتغير أو خارجه)، لكن من شأن هذا أن يشكل ضغطاً مستمراً من اليسار على المتحاورين، ويعزز بالأحرى موقف القوى المدنية المفاوضة، شرط أن لا يتحول هذا الخلاف بين القوى المدنية والسياسية حيال التفاوض مع العسكر إلى صراعات فيما بينها. يخفف من قلق نشوب مثل هذا الصراع، أن الأحزاب المنضوية في تحالف الحرية والتغيير والتي ترفض أي ترتيبات انتقالية مع قادة الانقلاب (مثل حزب البعث)، تلتزم بقرار التحالف، كما صرح قادتها. على أن هناك بعض القلق من بروز مواقف تصعيدية من قبل التشكيلات المدنية الحزبية وغير الحزبية، من خارج الحرية والتغيير، التي تحتج في الشارع ضد "التفاوض"، ما يمكن أن يؤدي إلى إضعاف القوة الديموقراطية في مواجهة العسكر ويعطيهم فرصة للمناورة.
معلوم أن البرهان، فيما يبدو رهاناً على الخلاف بين القوى المدنية، صرح في تموز الماضي أن المؤسسة العسكرية ستنأى بنفسها عن السياسة إذا توافقت القوى المدنية فيما بينها على تشكيل حكومة مدنية غير حزبية. وفي الشهر نفسه، صرح قائد قوات التدخل السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) أن الحكم العسكري في السودان قد فشل. كل هذا يشير إلى أن العسكر في موقف ضعيف.
الضغط المستمر في الشارع، والسياق العام للصراع الذي يجعل من الصعب على قادة الانقلاب حقن الجيش السوداني بعصبية قومية أو دينية أو أيديولوجية يمكن أن تضمن تماسكه إذا تم زجه في مواجهة دموية مع المحتجين، تضع قادة الانقلاب في مأزق أمام القوى المدنية، وقد يكون الاستثمار الأفضل لهذا المأزق هو فتح طريق سهل لخروج العسكر من السياسة، أي فتح باب التفاوض بدلاً من الدخول معهم في اختبار قوة مباشرة لكسر العظم. حتى لو احتاج الأمر إلى تقديم ضمانات معينة للبعض بعدم الملاحقة القانونية. وقد سبق أن دعت "منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول"، في مبادرة لها منذ مطلع هذا العام (18 يناير/كانون الثاني 2022)، جميع القوى والأطراف إلى الحوار لتحقيق انتقال ديموقراطي، واعتبرت أن الوصول إلى سودان يسوده السلام والقانون والعدل هو ثمن لدماء أبنائهم وبناتهم. دون أن ينتهي هذا الكلام إلى القول بالتخلي عن العدالة الانتقالية، فهذه ضرورة لا يمكن القفز فوقها، ولكن يمكن، وينبغي، صياغة هذه الخطوة ضمن إطار سياسي أوسع يسهّل وضع أسس ثابتة لنظام ديموقراطي.
للجيش السوداني حضور ثقيل في البلاد وعلى مستويات عديدة، بما في ذلك المستوى الشعبي والسياسي، وليس من السهل رد الجيش إلى حدوده المهنية دون تفاوض، كما يمكن أن يأمل أنصار "التغيير الجذري" الذي يتبناه الشيوعي السوداني ويعارض به الميل التفاوضي لقوى الحرية والتغيير على أنه "اجندة للهبوط الناعم" كناية عن العودة مجدداً إلى النظام القديم. الواقع أن الجيش سوف يستطيع أن يدافع عن مواقعه وأن يلخبط المشهد السوداني ويشلّه إذا لم يجد طريقاً آمناً للعودة إلى الثكنة. وجود هذا الطريق، المنوط بالتفاوض، مع استمرار الضغط في الشارع، يمكن أن يقود إلى تثمير الضغط الشعبي بقبول العسكر التخلي عن تطلعاتهم السياسية، وأيضاً عن كيانيتهم الاقتصادية التي تتجسد في استقلال اقتصادي ذاتي عن الدولة.
مع ذلك، لا تنبع الخصوبة الفعلية للصراع في السودان من الموقف التفاوضي مع العسكر من عدمه، ولا تنبع حتى من نجاح التفاوض بإعادة العسكر إلى ثكناتهم وإنشاء حكومة مدنية بالكامل، بل تكمن الخصوبة في إدراك ضرورة تفكيك دولة النظام السابق، أو فيما يسميه السودانيون "إزالة التمكين".
تشكيل حكومة مدنية، أكانت حزبية أو غير حزبية، مع إهمال ثقل أجهزة الدولة الموروثة عن النظام السابق، ولاسيما منها القضاء، لن يجدي نفعاً في مسعى بناء ديموقراطية سودانية. فقد كان التخلص من "لجنة إزالة التمكين" التي كانت معنية بضرب مرتكزات النظام القديم، وهو بالمناسبة مسار بالغ الأهمية تفرد به السودان من بين الدول العربية، من أول أعمال العسكر بعد انقلابهم على الميثاق، ولا يزال بعض أعضاء هذه اللجنة في السجن إلى اليوم. لا يعني هذا عدم إدراك ما قد تنطوي عليه أعمال مثل هذه اللجنة من تعسف وتجاوزات تغذيها المشاعر العدائية والانتقامية تجاه نظام البشير، الأمر الذي يستدعي تقييد قراراتها بحقوق النقض وإجراءات التقاضي المختلفة.
الصراع في السودان اليوم لا يقتصر على جانبه السياسي، بل يتركز بصورة واضحة على المستوى المدني، ويتجسد الآن في النقابات، ولاسيما نقابة المحامين، بعد أن أعاد الانقلابيون نقابات النظام السابق.
التكامل بين الصراع الحازم والمرن مع الانقلابيين على السلطة السياسية، وبين النضال الشعبي لضرب مرتكزات النظام السابق في مفاصل الدولة وفي المؤسسات المدنية، هو الملح المتميز والخصب والواعد في السودان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا