الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاتب مغترب ترك الشقا على من بقى

منهل السراج

2006 / 10 / 7
الصحافة والاعلام


استحلى أصدقائي من الكتاب الذين يعيشون في سوريا أن يطلقوا عليّ كلمتي "كاتب مغترب" من أول شهر صرت فيه خارج سوريا. والآن وأنا لم يمض بعد على مغادرتي عشرة شهور، صرت أحس في لهجتهم معي بعض الامتعاض، هذا إذا لم يصل حد الهجومية. كأنني تركت الشقا على من بقى. مع أن الشقاء لم يزل، بل صار له أشكالاً أخرى في القلب والوجدان. ربما فرغت من العدائية التي يشحننا بها الواقع في سوريا ويجعلنا مغتربين عن محيطنا، لكن في الوقت نفسه امتلأت بهموم أخرى.
كان قربي من مكمن الشر، يوترني ويفقدني القدرة الحرة على التعبير. أما حين ابتعدت عن البلد ورغم الحنين الذي سرعان ماتفاقم، فإن طاقة إيجابية وحرة صارت تدفعني لقول ما أريد.
لو فكرنا بدلالات الاغتراب بعيداً عن المتداول!.
أليس الحنين لمكان يجعلنا أقرب إليه بالروح مما لو كنا بداخله؟.
حقا شعرت أن اغترابي عن البلد زال تماماً حين غادرتها.
قلت لصديقتي التي اشتقت إليها كثيراً، والتي أكثرت من هجومها علي حين صرت في الخارج: لا أحس بالاغتراب، بل بالاقتراب، أحس بالحنين والحب، وأشعر أني أقرب إلى بلدي أكثر من أي وقت مضى.
لم أسألها لِمَ هي متوترة مني؟. ولم أسألها لِمَ تحمّلني اليوم أسباب كل ما حدث وما يحدث؟. لأني أعرف الأجوبة الحقيقية. تذكرت إحساس العداء والاغتراب الذي كان يعيقني كثيراً عن الكتابة وعن الحياة، ويملأ صباحي ومسائي وكلي.. عذرتها. وتفهمت رغبتها بالخلاص، وإن صاغتها بطريقة مختلفة.
كان آخر ماكتبته في سوريا هو إحساسي اليومي بعدائي للحكومة، وإحساسي اليومي بالاغتراب عن بقية تفاصيل يومنا، عن البيت والشارع، عن البائع والبضائع، عن الشجر القليل والنهر والجيران. كنت مشحونة برغبة دائمة وجامحة، للهرب، أصم آذاني بسماعات تبث موسيقا أو أغنية، تمنع صوت خطيب الجمعة يدعو لحماية أولياء الأمر، وأعالج الغبار الكثير، بأن أحدق بلوحة خضراء، وأنتظر الليل كي أحاول النوم وأشحذ حلماً أبيض ينسيني تناقضات النهار.
ولكن ما إن غادرت البلاد، ورأيت سماء البلاد الجديدة، والتي لا تخصني ولا تعنيني أيضاً، امتلأت بالحنين والشوق لسماء بلادي، وصار صياح بائع المازوت والغاز أنساً، ورائحة حاوية الزبالة عطراً معتقاً، وابتهالات خطيب الجمعة تعبيراً عن بؤس وخوف مشروعين، واستعراض الفنانات حرية علينا احترامها وقبولها.
أعرف أنه ليس برأس كل من يعيش في بلادنا، أكثر من حلم ببيت صغير، غرفة آمنة ودافئة ولقمة نظيفة، وأن تنساهم حكومتهم. وينسوها أيضاً. فسحة الكاتب والفنان وكل الناس، حرية وأمان. أتذكر كيف كنت كل حين، أوصي الأهل بابني وبأوراقي، من خوفي أن أغيب كما يغيب كثيرون. أضطر للسفر المفاجئ أو أعتقل. قال عبد الرزاق عيد عن البلاد: بلاد الخوف. نعم كنا مملوءين بالحذر والتوجس وكثير من الغضب. ترى هذا الغضب المتراكم ألا يولد أمراضاً؟. وإن نجونا من أمراض جسدية ألا يولد أمراضاً نفسية؟. وإن نجونا منها أيضاً، ألا يهيل سماكات على شعورنا فيتبلد من شدة الضغط؟. ومع ذلك كنا نبذل وقتنا وجهدنا ومقدراتنا الصغيرة والقليلة من أجل تجنب كل هذا كي نخلص إلى لغة سلام واسعة تنجينا وتفيد، ونبقى بعداء أقل.
لكن للإرادة حدود، وللتحمل حدود.
صارت همتنا في بلاد الغربة، من أجل تجميل ما نحب ونشتاق إليه، أصفى وأقوى. وصار الحنين أيضاً أشد وأشقى. داهمتني رائحة شواء باذنجان، فأحسست بالهلع: هذا باطرش أمي. وليست هي الآن من تعد الغداء، وليس أبي من أدار مفتاحه بالباب ودخل، وليس أخي هذا الذي يداري سيجارته. كان يفعل هذا وهو يقبل كتف أمه من خلف ظهرها، ولا يوجد غبار كاف حولي لأفترض أنها حارتي، والبائع هنا لا يغش ثم يبتسم مثلما يفعل أبو سعيد. وهذه الدراجة لاتشبه أبداً دراجة ابن جيراننا حين جرب أول مرة أن ينظر إلي نظرة مختلفة، وهذه التي تتبختر ليست أختي التي تحب الثياب والعطور الأوروبية، وهذا التلميذ لايشبه أبداً ضجر تلميذ حارتنا حين يمضي صباحاً إلى مدرسته. لدي الكثير لأقوله عن الحنين، والكثير كي أقوله عن إحساس الوحدة في بلد لا تعرف لغته ولا تفهم كيف أن عدد أعضاء النوادي يبلغ خمسة أضعاف عدد السكان، يعني كل مواطن عضو في خمسة نوادي. هذا الفرق الحضاري يأخذني لأتذكر آخر جمعية نسوان حضرتها، والتي لا تعنى إلا بأمور الثياب والطعام والقهقهات. حدث أن أحضرت إحداهن زائرة جديدة، طبيبة تقرأ وتفكر، سألت على هامش الطعام والقهقهات، عن إحساس كل منهن بعيد الجلاء!.
في اليوم الثاني وجدت كل امراة كانت حاضرة، استدعاء من أمن الدولة. كانت دهشة الأزواج كبيرة، زوجاتهن اللواتي لا يتقن إلا فن النق، يشتغلن بالسياسة من دون أن يعلموا!!

أتذكرك أيتها الكاتبة حين قلت: أكتب كي لا أموت. وأتذكر قول أحدهم كاذباً: أنا سعيد جداً. وهو لا يحظ بأي منبر لنشر ما يكتب. وأتذكر شكوى صاحب دار النشر من صراعه بين طلبات الكتاب وإفلاس الدار. ولن أتحدث الآن عن أصدقائنا الذين يلتقطونهم من بيوتهم كل يوم وكل يومين ليوضعوا في السجون إلى ما شاء الله.. وهل أنسى جواب بركات عرجة حين سئل عن مقتل أبيه بأحداث حماه: كيف يقتلونه وهو مسيحي؟. أجاب وهو يمسح لوحته: متلو متل غيرو. لهذا الحد تراكم الألم فألغى الحقد. أو أن اليأس من الوصول إلى العدالة، صار بديهة وطريقة تفكير عامة؟.
لم أترك الشقا على من بقى. ربما هو ذنب العالم أجمع. لكني أفكر أن الوقت ليس وقت لوعة، بل وقت عمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة