الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ليلة ممطرة
طالب الجليلي
(Talib Al Jalely)
2022 / 12 / 1
الادب والفن
بدأت الغيوم تتجمع منذ الظهيرة في سماء قريتي ، وحين أخذت العصافير تتوافد على أعشاشها في شقوق الجدران الطينية وطيات سقوف بيوت القصب كانت السماء قد حجبت كليا بغيوم سوداء..أخذت اصوات الرعد تسمع من بعيد وهي تنذر بقرب هطول المطر.. سارع الفلاحون بإيواء مواشيهم وابقارهم في داخل صومعاتها القصبية .. كانت باحة البيت واسعة يحيط بها سياج طيني تتوزع في داخله اربعة بيوت وصومعة لإيواء الأبقار .. كان بيتهم محاذيا لباب الحوش الخشبي الكبير وكانت تتصدره ساحة مربعة لها ضلعين متعامدين تملأهما صفان من كارات الشوك اليابس المضغوط حيث حطبنه خالاته من اراضي البور في الصيف ليكون مادة الحطب الذي سوف يكون وقودا لمواقد الخبز والدفئ في الشتاء...
كان البيت مشيدا من جدارين وجبهتين اعلى من الأكتاف ومقوستين من الاعلى لكي يتوازيان مع أقواس حزم القصب التي تشكل بدورها هيكل السقف الذي تغطيه حصران القصب ...هكذا كان يطلق على بيوت الطين .
بدأت السماء تنثر مطرا خفيفا لا يسمع له صوت لكن الرعد ازدادت شراسته وأخذ يسمع على شكل انفجارات عنيفة تتبعها اصوات مرعبة كانها جدران تتهدم .. أشعلت امه الفانوس وعلقته على مسمار كان مشتولا على الحائط .. خيل اليه ان ان الأسد الذي يربض عند قدمي الإمام في الصورة المعلقة تململ قليلا حين تسلط الضوء عليه.. كانت اللصورة ملصقة على الحائط المقابل .. وبجانبه كان هناك رفا عليه القران وهو ملفوف بقماشة خضراء... ازداد تساقط المطر شدة وصار صوته مسموعا وهو ينهمر على سقف البيت.. كانت المنقلة قد ملئت منذ العصر بحزم من عروق الشوك اليابسة وروث الحيوانات الجاف .. لم يكن بالإمكان إشعال الوقود خارج البيت كالعادة ، امتلأ الجو بالدخان ورائحة النفط بعد ان قامت الام بتحضير المنقلة .. تناولوا عشائهم الذي كان رزا ولبنا ككل يوم واحيانا يتكون من ثريد الخبز والدهن الحر والحليب ..بدأ توافد افراد العائلة الى البيت حيث اعتادوا كل يوم لقضاء بعضا من الليل هنا كل يوم ..كان الراديو كفيلا بقضم ساعات الليل الطويلة لكن الغيوم والبرق والمطر تعاونوا في التشويش على كل المحطات فكان صوت داخل حسن ووحيده خليل يصل بصعوبة .. صدر من الباب الخشبي صريرا مزعجا حين اطل الكلب برأسه الذي كان يقطر منه الماء وهو يبحث عن مكان دافئ..اشترك الجميع بصوت واحد وهم يزجرونه : هدو.. هدو!! فانكفأ عائدا وعاد الباب يصدر صريره الحاد وقد نفعت ألواحه بماء المطر..بدأت مقاومة السقف البني بالتراخي واخذت رطوبة المطر تضفي لونا داكنا عليه هنا وهناك..لاحت له نقاطا تشع وهي تعكس ضوء الفانوس .. ظل يراقبها خائفا وهي تتجمع ثم سمع صوت ارتطامها بالسجادة القريبة منه فجفل .. كان ينكأ على فخذ امه وقد تدثر بإيزار صوفي مرقط.. همس لأمه وهو يشير بإصبعه المرتجف الى تلك البقعة الرطبة من السقف القصبي ..قفزت خالته وجلبت قدرا معدنيا ووضعته حيث تتساقط القطرات التي كانت تنزل ببطئ..كان صوت وحيده خليل يأت متداخلا عبر الاثير مع صوت اذاعة اخرى.. دلي اللول يلولد يبني .. امتدت كف امه الى رأسه تتحسسه بحنو.. كان ابنها الوحيد مع شقيقته التي تكبره بعام .. أخذت القطرات تصدرصوتا مسموعا وحادا بشبه الرنين وهي تلامس معدن القدر .. كان صوت المطر والرعد وتكاثر البرق قد ازداد وقد اسكت الكلاب وطيور الليل والثعالب التي اعتادت ان تخترق صمت الليل.. تفرق الأهل واحدا تلو الاخر ..أطفئت امه الراديو.. كانت هناك عدة مكانات تتساقط منها قطرات المطر وهو يزحف باحثا عن شقوق اخرى في حصيرة السقف.. أخذ هو واخته يبحثون عن بقع رطبة اخر من السجاد والحصير الذي يغطي أرضية البيت .. هنا هنا .. كان يخبر امه التي تجلب أوان اخرى لكي تستقبل القطرات المتساقطة ..كان يجفل مع كل فرقعة من فرقعات الرعد ويسمع امه وهي تردد بقلق : اسم الله!! خير خير ..اللهم خيرها علينا وشرها علا كل ظالم !!! تغير صوت ارتطام القطرات بقاع الاناء الاول .تغيرت نغماتها واصبحت اكثر عذوبة .. اخذ يستمع لها وقد تباينت واختلفت مع سقوطها في الأواني الاخرى التي وزعتها امه واخته في عدة مكانات .. طق طق...دن دن... دم دم ..!! استنفذت كل أواني البيت المحدودة المتوفرة وصارت القطرات تسقط على أرضية البيت بأصوات مكتومة ...تسلق هو واخته السرير الخشبي واستلقوا على الفراش وقامت أمهم بتدثيرهم وهي تتلو آيات قرآنية ... تحسست اللحاف والإيزار الصوفي الذي غطتهم به ..كان بعضه قد تبلل قليلا!! ثم توسطتهم وهي تدس جسمها تحت الأغطية ..أحس برشقة رذاذ ماء خفيفة تلامس جبهته! أصابته قشعريرة.. سحب الغطاء على رأسه .. شعرت امه بذلك وقامت بتلمس رأسه ووجهه ثم غطته وهي تحتضنه وتقبل رأسه .. سمع تباطئ انفاس اخته ثم امه وهم يغطون في النوم .. ظل يسمع تساقط القطرات على الغطاء وتصدر أصواتا مكتومة .. تساوت نغمات تساقطها في كل الأواني التي وضعوها .. ارتطام متساو بسطح الماء .. متى اختطفه النوم ؟! لا يتذكر ..لكنه يتذكر انه اختلطت وتداخلت عنده اصوات المطر وهو يرشق بعنف سقف بيتهم وكان الرعد مخيفا ... حين فتح عينيه كان الهدوء يعم الكون... كان هناك خيطا برتقاليا خفيفا يخترق الكوة التي تعلو رأسه في جبهة البيت المحاذية للسرير.. كانت تلون القوس القصبي ثم اخذت تزحف شيئا فشيئا نحو الحزم المقوسة الأخرى واحدة تلو الاخرى .. كان الضوء يزداد وضوحا واانفتاحا وكانت تسبح فيه اشياء دقيقة وبألوان مشعة مختلفة وهي تتراقص وتختفي لتحل محلها نقاط اخرى .. كان المنظر كأنه قاع بحر صاف تتراقص فيه غابة من الكائنات الحميلة ... تحسس مكان امه فلم يجدها! لكن مكانها كان دافئا..التفت نحو الباب .. لاحظ قطته تجلس هناك وهي تلعق كفها وتمسح وجهها بسعادة واطمئنان .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. نهال عنبر : المسرح جزء من الثقافة المصرية ونعمل على إعادة جم
.. إيمان رجائي: النسخة السابعة من مهرجان نقابة المهن التمثيلية
.. لقاء سويدان : خشبة المسرح الدافع الأول للتألق والإبداع الفني
.. نرمين زعزع : رعاية المتحدة للمهرجانات الفنية والثقافية يزيد
.. استعدوا للقائهم في كل مكان! تماثيل -بادينغتون- تزين المملكة