الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحليل نقدي ذرائعي للقصة الموجزة المكثفة / منافذ افتراضية / للقاص المصري د. شريف عابدين بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2022 / 12 / 2
الادب والفن


النص:

منافذ افتراضية

رسم على الجدار طائرًا متحررًا من القفص. في الصبح اكتشف أن الطائر قد اختفى! أخذ يفكر طول الوقت ويفتش في كل مكان؛ حتى أرهق تمامًا! وبينما كانت يده تشير بالتساؤل: لماذا؟ سقط في كفه!.. أخذ يعاتبه: لماذا؟ أما لمحت عبرتي كلما رنوت إليك؟.. أجابه الطائر محبطًا: لم أقتنع بالتحرّر الخيالي؛ أردته واقعيًا! وبينما هما مندمجان في شجون العتاب، داهمهما الحارس مندّدًا: رصدت أجهزتنا الرقابية محاولة الهرب؛ سنحقق معك الآن، أما طائرك فسينقل فورًا إلى سجن (الوسائط المتعددة). أخذ المعتقل يبكي مجادلًا: أليس من حقي أن أرسم؟ وهذا الطائر كيف أتحكم في سلوكه وأنا في القيد؟.. ثم أنه لم يرتكب ذنبًا يستوجب حبسه.. إذا اعتبرته طفلي الوليد مثلًا! لِمَ يؤخذ بجريرتي؟.. حين هم الحارس بتوقيف الطائر، أخذ السجين يستعطفه: سأعيده إلى قفصه، وأكتفي برفقته سجينًا مثلي، أعدكم!. أخذ يتوسل للحارس مقبّلًا يديه؛ فأجابه حاسمًا الأمر: نحن أيضًا نعدك بأن نعيد إليك فرشاتك وألوانك؛ إذا تعاون الطائر معنا حين نستجوبه، بعدما نستدل على (المنافذ الافتراضية) التي حاول الهرب منها!
ديباجة النص:
يتحدّث النص عن إنسان يرسم أحلامه على مرسم الحياة, فرسم على الجدار طائرًا متحرّرًا من القفص, فنحن أمام إنسان مسجون يملك طيرًا مسجونًا في قفصه مجتمعَين قس نفس السجن, ثم ينقلنا شريف عابدين عبر فانتازيته المعهودة إلى اختفاء الطائر من لوحة الجدار, واجتهاد صاحبه الإنسان بالبحث عنه دون طائل, وسط الحيرة التي ألمّت به من حادثة الاختفاء, يفتح يده مستغربًا, فيحطّ الطائر على كفّه, ويبدّد حيرته, ويبرّر له عودته بأنه لم يقتنع بالتحرّر الخيالي بريشة الرسم, وإنما أراد أن يجرّب التحرّر الواقعي, وأنه عاد وأتاه من الخارج, كهدهد سليمان, بخبر يقين, هو أن لا هروب من هذا السجن لأن عليه حراسة مشدّدة, كما أن المناقذ ليست آمنة. مفاد الخبر وصله إجرائيًّا حينما باغتهما حارس السجن وقام بمصادرة الفرشاة والألوان والتحقيق مع السجينَين, الرسام والطائر للوقوف على اعتراف الطائر بالمنفذ الافتراضي الذي فرّ عبره.
التحليل الدلالي الإيحائي:
- الدلالة الأولى : (رسم على الجدار طائرًا متحررًا من القفص).
وهي الدلالة التي تحوي الإسناد: إنسان + طائر.
والإجراء : الرسم.
الإحالة : الحرية.
يحلم هذا الإنسان بالحرية, ويرسمها رسمًا من خياله لأنه لا يجد حرية في الواقع الإنساني, فعبّر عن الحرية بالطائر المحلّق في الفضاء.
- الدلالة الثانية : (في الصبح اكتشف أن الطائر قد اختفى!)
هنا يشير القاص إلى أن ما رسمه الإنسان تحقّق! ولكنه استغرب تحقّقه, لأن الإنسان مسجون بين صرختين, الأولى صرخته هو لحظة الولادة وخروجه إلى الحياة, السجن الكبير, والثانية صرخة أقرب الناس إليه, لحظة مماته.
- الدلالة الثالثة: ( أخذ يفكر طول الوقت ويفتش في كل مكان؛ حتى أرهق تمامًا!)
يعطينا فيها القاص نفحة بسيطة من الواقع, حتى وإن كان هذا الواقع هو غير واقع, هو واقع متخيّل, هنا يدسّ القاص رسالة, وهي أن ما ضاع يستحق التفتيش عنه, لأنه سيقود إلى تأكيد وجود الحرية أو عدمها.
- الدلالة الرابعة: (وبينما كانت يده تشير بالتساؤل: لماذا؟ سقط في كفه!.. أخذ يعاتبه: لماذا؟ أما لمحت عبرتي كلما رنوت إليك؟..)
وعاد الطائر من رحلته في الفضاء الحرّ إلى السجن مرّة أخرى, فيكون العتب بين وليفَين, إذ كيف يغادر الوليف صاحبه ويتركه نهبة للحزن والحيرة؟! وهنا صدق حدس الإنسان بأن لا مفرّ من المصير في الحياة, وأنها خالية من الحرية الحقّة, لأن الحياة مغلقة من جوانبها الستة, وهذا تأكيد من القاص على أن الإنسان سجين مسؤولياته في الحياة, لا يتحرّر منها إلّا عند الموت, حيث يغادر متحلّلًا من مسؤولياته التي تسقط عنه بفعل الموت, وعاريًا من مكتسبات الحياة, لا يأخذ منها شيئًا.
- الدلالة الخامسة : (أجابه الطائر محبطًا: لم أقتنع بالتحرر الخيالي؛ أردته واقعيًا!)
الطائر الوهمي شعر بالعجز رغم أنه لا يمتُّ بصلة للحقيقة التي يمتلكها صاحبه, فصار سجينًا معه, وبالتالي الإنسان سجن نفسه وسجن ما يملك.
- الدلالة السادسة : (داهمهما الحارس مندّدًا: رصدت أجهزتنا الرقابية محاولة الهرب؛)
هذه الدلالة أعطت صوتًا مدوّيًا لباب هذا السجن المغلق الذي لا يُفتح, لأن حرّاسه عتاة, أشار القاصّ إلى مسؤوليات الحياة وضغوطاتها بالحرّاس, فالإنسان يعيش في سجن الحياة, حرّاس هذا السجن هي المسؤوليات المناطة بالإنسان منذ أول صرخة حتى آخر شهقة, يعيش الإنسان مترعًا بالطمع والعَدْوِ وراء تلك المسؤوليات؛ فيكثر حرّاسه, لكنه عندما يموت يغادر وحيدًا مجرّدًا من كل المسؤوليات والمكتسبات.
- الدلالة السابعة: (سنحقّق معك الآن، أما طائرك فسينقل فورًا إلى سجن (الوسائط المتعددة) )
تعطي نهاية حتمية لسجن الإنسان الأبدي. ومصادرة أحلامه إلى سجن الحريات الخيالية, وما ( الوسائط المتعددة ) إلّا منصّات خيالية تصدح عليها أصوات الأحلام والحريات الخيالية.
- الدلالة الثامنة: (أخذ المعتقل يبكي مجادلًا: أليس من حقي أن أرسم؟ وهذا الطائر كيف أتحكم في سلوكه وأنا في القيد؟.. ثم أنه لم يرتكب ذنبًا يستوجب حبسه.. إذا اعتبرته طفلي الوليد مثلًا! لِمَ يؤخذ بجريرتي؟..)
هي دلالات يستعرض فيها الإنسان حقه بالتفكير, وحقه بإطلاق فكرته الوليدة, وكيف يحاسب الوليد بذنب أبيه ؟! هي دلالات زائدة, أرادها القاص تأكيدًا للمتلقي ليفهم بأن كل المحاولات التي يقوم بها الإنسان ليكون حرًّا هي عديمة الفائدة, إلّا من وعدٍ مرتجى وعده الله عباده التُّقاة ( جنّة عرضها السموات والأرض), وهذه لا يحوزها إلا من باع حرّاسه ومكتسبات دنياه لله وفي سبيل الله, سيكون حرًّا كلُّ إنسان نقيّ جعل عمله وكل ما يملك وقفًا لله 100%, وهذه هي رسالة شريف عابدين التي سأعرّج عليها في المستوى الأخلاقي في التحليل الذرائعي, الإنسان لا يكون حرًّا إلّا إذا مات وانقطع عمله في الدنيا إلا مما أوقفه لله( عمل صالح, سمعة طيبة, وعلم نافع) وتخلّص بالمقابل من كل حرّاسه( مسؤولياته ومكتسباته) الذين يثقلون باب سجنه.
- الدلالة التاسعة: (حين هم الحارس بتوقيف الطائر، أخذ السجين يستعطفه: سأعيده إلى قفصه، وأكتفي برفقته سجينًا مثلي، أعدكم!. أخذ يتوسل للحارس مقبلًا يديه؛ فأجابه حاسمًا الأمر: نحن أيضًا نعدك بأن نعيد إليك فرشاتك وألوانك؛ إذا تعاون الطائر معنا حين نستجوبه، بعدما نستدل على (المنافذ الافتراضية) التي حاول الهرب منها!)
وهنا تحولّ ( الطائر) كدلالة مرئية إلى رمز مغلق مرّة أخرى, كيف يسجِن مسجونٌ مسجونًا آخر معه؟ بمقابل ألّا يفترقا؟! إنها الروح المسجونة داخل جسد الإنسان المسجون في قفص الحياة, يتطلّع الإنسان مرارًا لتحريرها, ولكنه عندما يوضع في امتحان الموت الذي يحرّرها من سجن جسده يتشبّث بها, ويرضى لها سجن جسد مهما كثرت به البلايا والجراح, فالإنسان لا يطيق مفارقة الروح, والروح أيضًا لا تقبل بهجرة مؤقتة خارج سجن الجسد إلا بالأحلام والغيبوبة, فهي أيضًا تبتغي حرّيتها الدائمة بأمر الموت الحقيقي, الذي يحرّر الجسد من آلام الحياة, ويحرّر الروح من شقاء الجسد.
من يحقّ له أن يحاكم الروح المتمرّدة ؟!
في هذه الدلالة حرّاس الحياة ( المسؤوليات الإنسان) هي من تحاكم الروح, كيف تحاول الفرار قبل أن تتمّ مهمّتها؟! كيف تساوم الحياة الإنسان على روحه الشبقة للفرار بالموت والتمرّد على القدرية؟!
تسلب منه متع الدنيا ( الفرشاة والألوان) وتفاوضه عليها, تعيدها له, مقابل معاقبة الروح على جرم التمرّد على قدرية الحياة.
وهي النهاية التي أكّد عليها القاص د. شريف عابدين, لأن الإنسان قد يفرّ من السجن الحقيقي لكنه يفشل في فراره من سجن الحياة, لأنه سجن محتوم بالمصير, حتى وإن اختار الإنسان الموت انتحارًا للتحرّر من قيد الحياة فإن هذا الموت, إن لم يتفق بالتوقيت مع الأجل القدري المكتوب؛ فإن فعل الانتحار نفسه يفشل, والمنافذ الموجودة في الحياة, كالأمراض والحوادث, مثلًا هي أيضًا منافذ مغلقة, قد يشاء القدير سبحانه وتعالى فتحها, فتكون أسبابًا مؤهّبة ومسبّبة لحدث الموت, وقد تبقى مغلقة, فالإنسان عندما يمرض يدخل في منفذ المرض المؤهّب للمغادرة والعبور من الحياة إلى الموت, لكنه قد يشفى, ليعود إلى سجن الحياة مرة أخرى.

التحليل النقدي الذرائعي:
• المستوى المتحرك:
تتجلى لنا استراتيجية الكاتب الدكتور شريف عابدين واضحة وجلية في هذا النص من خلال الانتقاء المفرداتي الدقيق, فكل مفردة كانت تنوء بحمولاتها المتنوعة, أهمها:
1- الحمولة التكنولوجية:
حملتها منذ البداية جملة العنوان ( منافذ افتراضية) وجملة النهاية, حيث غدت هاتان المفردتان المجتمعتان في جملة واحدة مصطلحًا تكنولوجيًا معروفًا في عالم التواصل الافتراضي الذي جاء نتيجة من نتائج الثورة التكنولوجية التواصلية في عصرنا هذا, وجاءت جملة ( الوسائط المتعددة) في وسط النص في ذات السياق التكنولوجي.
2- الحمل الفلسفي:
رغم أن الدلالات التي استخدمها القاص كانت عديدة نسبيًّا في نص قصير موجز مكثف, أحصينا منها حوالي تسع دلالات, إلا أنها كانت ضرورية للتدليل على المعنى الفلسفي العميق المتشعّب الذي أراده القاص, نظرته الفلسفية إلى الإنسان في علاقته مع الحياة والموت, فهو سجين مسؤولياته وضغوطات الحياة عليه منذ الشهيق الأول حتى الزفير الأخير, وهناك قضية فلسفية ثانية هي علاقة الروح مع الإنسان, فهي سجينة بين أضلع الإنسان, ذات التوق للحرية, وكلاهما يتحرّران بالموت, لكن الإنسان لا يطيق فراقها, متشبّثة بها حتى آخر نفس.
3- الحمل الرمزي:
يُحسب للدكتور شريف عابدين مقدرة كبيرة في التلاعب بالدلالات, وتداولها كرموز مغلقة عديدة بتداول السياق الخطابي في عمله السردي, القصصي والروائي بشكل عام, فالدلالة الواحدة عنده قابلة للانشطار إلى العديد من الرموز المغلقة, يستخدمها بأريحية كاملة طالما أن النص القصصي المكثّف الموجز لا يسمح بأكثر من شخصية أو شخصيتين فاعلتين في السياق السردي, لذا نجد الطائر مرة رمز مغلق يشير إلى الأفكار التي تنشد التحليق بحريّة في فضاء شاسع, ومرّة يتحوّل إلى رمز مغلق يشير إلى الروح بمفهوم فلسفي ليوضّح علاقتها مع الإنسان ومع الحياة والموت.
هناك أيضًا رموز مغلقة أخرى:
الجدار الذي رسم عليه الإنسان اللوحة= مدوّنته التي يخطّ عليها آماله في بين دفتي الحياة والموت
الفرشاة والألوان= متع الحياة
المنافذ الافتراضية= معابر الموت المحتملة من أمراض وحوادث وغيرها.
4- التقنيات الأسلوبية :
إن الفانتازيا, سيما الأنسنة والتشخيص, من أبرز التقنيات التي برع الدكتور شريف عابدين في استخدامها في أعماله الأدبية السردية القصصية والروائية, وله الكثير من القصص القصيرة في ذلك, وحافظ على نفس التكنيك في القص القصير الموجز المكثف, يتناص في ذلك مع قصص كليلة ودمنة, ومع قصص القرآن (هدهد سليمان).
إضافة إلى التقنيات السردية, كالوصف والحوار.

• المستوى الأخلاقي:
رسالة إنسانية, مفادها أن:
الإنسان, بكينونته الكاملة من جسد وروح, لا يكون حرًّا بالمطلق إلّا إذا مات وانقطع عمله في الدنيا إلّا ممّا أوقفه لله (عمل صالح, سمعة طيبة, وعلم نافع), ويتخلّص بذلك من كل حرّاسه( مسؤولياته) الذين يثقلون باب سجنه, فيفتحه الله بأجله, وينطلق الجسد إلى عالم البرزخ, و تنطلق الروح في ملكوت الغيب, في انتظار لقاء بلا مفارقة, بل أبدية في جنة وعدها الله المتقين من عبادة, أو نار يستحقها غيرهم.

• المستوى السيكولوجي:
انطلق الدكتور شريف عابدين في كتابة هذا النص من إدراكه النفسي الواعي, وأراد أن ينقل لنا هذا وعيه الإدراكي لجدليات عديدة:
الإنسان- الحرية, الروح – الحرية, الموت – الحرية, الجسد- الروح, الإنسان- الروح, الحياة – السجن, الحياة – المتع, الحياة – المسؤوليات, الحياة – الموت, المنافذ- الموت....الخ.
وقد نجح نجاحًا كبيرًا في عقد علاقة تبادلية عميقة وراقية بين إدراكه ووعيه وإدراك المتلقي.
أحيي الدكتور شريف عابدين على هذا النص الرصين والوازن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال