الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(Pnin) البروفيسور المتأخر: مقدمة إلي حياة نابوكوف وأدبه.

أحمد ماجلوار
كاتب

(Magloire)

2022 / 12 / 2
الادب والفن


-مقدمة-
يحدد إدوارد سعيد في مقدمة كتابه (العالم، النص والناقد) أربعة أنواع من النقد الأدبي تُمارس علي النطاق الشائع: النوع الأول هو النقد التطبيقي ويظهر في مراجعات الكتب والمقالات الصحفية الأدبية، والنوع الثاني وهو البحث الأكاديمي التاريخي ويعني بربط الأعمال الأدبية بسياقها الثقافي التاريخي، اما النوع الثالث فهو (التقدير) –الأقواس من عندي- أو التحليل الفاهم للأعمال الكبري ويكون عبر الكتابة أو التدريس أو أي من الوسائل الحديثة. لكن النوع الرابع هو النظرية الأدبية، وهذه لا يتصدي لها إلا المنظرون من المستوي المتقدم جداً.
(1)
استعمل فلاديمير نابوكوف، الكاتب الروسي الأمريكي ذي السمعة العالمية، النوع الثالث، التقدير، في الأعمال البحثية التي قام بها خلال فتراته التدريسية في جامعة كورنيل الأمريكية، حيث قدم قراءات حساسة مطولة ومحررة أدبياً لمجموعته المختارة من الأعمال الأدبية الكبري. ضُمت هذه الأعمال البحثية إلي رف آثاره الأدبية بصدورها في كتب مستقلة: (محاضرات في الأدب)، (محاضرات في دون كيخوتة)، (محاضرات في الأدب الروسي)، (نيكولاي جوجول)، حيث تَرسخ اعتبار ذلك النوع من العمل البحثي فناً وجزءاً من العمل الأدبي للكاتب، وذلك من الناحيتين، ناحية ذائقة اختيار الأعمال اللائقة بالتحليل والتقدير، وناحية الصناعة الفنية المبذولة في ذلك التحليل.
استند نابوكوف في هذه الدراسات، كما أوضح في مقدمته لكتابه محاضرات في الأدب، علي اقتباس استخرجه من رساله لفلوبير –ونابوكوف دائماً ما يعود لفلوبير- مفاده انه يكفي الباحث أن يعرف جيداً نصف دزينة من الكتب.
عادة ما يتنافس النقاد حول موسوعية المعرفة، ويحضرني من جانب تقليدي الأستاذ هارولد بلوم كمِثال في مدرسته الجمالية الذي لا يوجد عنده –تقريباً- كاتب لم يسمع به من قبل، أو لا يعرف عمله إن لم يكن يحفظ إنتاجه عن ظهر قلب. إلا أن نابوكوف في عمله البحثي يحدد لنفسه منهجه المختلف مبكراً، بالطبع نصف الدزينة تشبيه مقارب، لأنه قدم أبحاثه لعدد أكبر من ستة كتب بالتحديد، إلا أن التحديد ذاته كان يعني أن تجاهل الأعمال غير المختارة سيكون هو النسبة الأكبر، وكانت هذه المنهجية الإستعلائية في رأيي هي المفتاح لقراءة وفهم أدب نابوكوف، وشخصيته بعد ذلك التي تجلت خلال رسائله وحواراته في الصحف والمجلات وأولها حواره مع باريس ريفيو عام 1967، وأيضاً المفتاح لقراءة رواية “Pnin” الصادرة عام 1957 أشد روايات نابوكوف قرباً –وكلها قريبة- إلي نوع السيرة الفنية حيث يبث الكاتب الكثير من تفاصيل حياته وفكره في شخصيته الروائية ليرسم منه صورة فنية قد تبدو للقارئ الأوّلي عصيّة وملغزة، وتحتاج من القارئ الخبير إلي صبر وتحرّي للظفر في النهاية بجائزة المتعة الفنية.
(2)
يعتبر الأسم "Pnin" بظني محاكاة علي الأسم الأدبي “Sirin” الذي اعتاد نابوكوف استخدامه في منشوراته المبكرة، القصائد والقصص القصيرة المكتوبة باللغة الروسية في العقد الثاني من القرن العشرين قبل ثورة 1917. فقد وُلد كاتبنا وشخصيته الروائية بنفس الفترة الزمنية علي رأس القرن العشرين، الاثنين خاضا شبابهما في أوروبا بعد الفرار من البلشفيين، ثم اضُطرا للهرب ثانية من النازيين بالهجرة إلي الولايات المتحدة في نفس السنة: 1940. في أمريكا قضي نابوكوف الأربعينات مدرساً في جامعة ويلسلي قبل أن ينتقل خلال الخمسينات إلي كورنيل، بينما تقف اللحظة الزمانية الروائية عند السنة التاسعة للبروفيسور Pnin في منشأة أكاديمية أمريكية هي إعادة بناء لويلسلي سمّاها نابوكوف في روايته جامعة وينديل.
يظهر Pnin من خلال الصور الإخراجية التي يقدمها نابوكوف عبر راوي بعيد ولكن ذي صلة بالأحداث، ينسج الكاتب من خلال راويه وعبر سبعة فصول شبكة من السرد الأنيق المُصمم لينقل صورة للشخصية من خلال مواقف ولقطات –سماها نابكوف بنفسه في مكان اخر (اسكتشات)- كلها شديدة الخصوصية، يكاد يلتقطها الراوي بملقاط، فعبر الفصول الأولي تظهر صورة جسدية لـPnin أقرب بصرياً إلي صورة مثل "هيتشكوك" المخرج الأمريكي (نمط الصورة)، مع صفات أخري من الإخلاص والجدية الأكاديمين، وذلك كله بلمسة لا تقدر بثمن من الخرق الشخصي العام الذي يوقعه في مواقف ذهبية.
عبر الفصول الأولي نري Pnin في مجتمع كلية وينديل المتغطرس، حيث يملك هناك حليفاً وحيداً، رئيسه ورئيس قسم اللغة الألمانية الذي أتي به ليدرّس الروسية داخل القسم الألماني حيث لا يوجد قسم خاص باللغة الروسية، وحيث نفهم أنه غير مرحب به في الأقسام الأخري، الإنجليزية والفرنسية، حيث يعتقده رئيس القسم الفرنسي تلميذاً في اللغة الفرنسية، ويراه رئيس القسم الإنجليزي كأضحوكة حية ويتخصص في تقليده في طرفاته المتعددة. يحس Pnin برأي أعداءه به، لكنه لا يكترث. إنه جيد بعمله لكنه لم يمهر الحياة العادية كفاية، لهذا هو عرضه للحوادث أكثر من غيره، يسقط عبر الدرج، يركب القطار الخطأ، يقدم محاضرة بأوراق خاطئة، يخوض بقلبه الذهبي غمار مغامرات تليق بثاقف صعلوك في ريعان شبابه، فالتنقل بين البيوت المؤجرة في فترات قصيرة، وركوب السيارة المستعملة القديمة، وكذلك الوحدة المطلقة، كلها أمور لا تليق بأستاذ في مكانته، فالكلية لا تُقدره بأن تمنحه المسكن اللائق، ولا هو أيضاً يُقدر نفسه حق قدرها إذ نري اعترافه في رسالة إلي حبيبته الشابة في باريس بأنه لا يقدر أن ينافس الآخرين في حبها، ولكنها سيمنحها نفسه حتي آخر كرية دم وأخر دمعة.
عبر هذه اليوميات قوية المذاق، تبرز شبكة السرد كبطل موازي للبطل الرئيسي، شبكة لافتة بالغة الندرة في عالم الأدب، تتنازل بكل استعلاء عن كل فرص الفكاهة المباشرة السهلة التي ينتجها Pnin بخرقه وطيبته، وتأتي من طبقة أخري نبيلة، عاطفية بتحفظ، فيبدو العمل من صفحته الأولي وكأنه أيضاً عن الراوي بنفس المقدار الذي هو حول Pnin نفسه، برغم الندرة الشديدة التي تظهر بها الضمائر الشخصية التي يتحدث بها الراوي عن نفسه وعن حياته وتكاد تكون حكراً علي الفصل الأخير الذي تنكشف به هويته بالكامل، إلا أن نابوكوف –خبير الفراشات الدولي- بحساسية فائقة يدّس فراشته الشهيرة بين ثنايا مشاهد الفصل الخامس ويقدم إلي القارئ الأسم الكامل للراوي مبكراً قبل لحظة الكشف، حين تحوم فراشة حول Pnin وصديقه الأرستقراطي الروسي في استراحتهما بمنزل العطلة –والفصل الخامس كله عطلة- فيعلق الأرستقراطي أنهما بحاجه إلي (فلاديمير فلاديمروفيتش)، زميلهما الأديب، خبير الفراشات، ليخبرهما بنوع وتاريخ هذه الفراشة، إلا أن Pnin يفصح عن مشاعره في هذه اللحظة قائلاً أنه لطالما ظن أن فلاديميروفيتش (مُدّع).
توظفت كلمة (الإدعاء) التي لفظها Pnin في البرية أمام البحيرة مع صديقه في المشهد السابق كأنما هي الحدث الفيزيائي الذي تنفجر منه رواية Pnin انفجارها الكبير. ظهر جوهر رواية Pnin في فوضاها الخاصة من خلال هذه الكلمة كقصة لا رجلين بل ثلاثة رجال، Pnin وفلاديمروفيتش، ونابوكوف نفسه. لقد قَسّم نابوكوف ذاته بين الرجلين فأعطاهما سيرته وتاريخه الروسي الأوروبي، وجعل لفلاديمروفيتش المتسربل خلف النص نصيبه العظيم من النجاح والثقة والشهرة الدولية، أما Pnin فترك له الإرتباك والقلق والإنعزالية، فالرجلين معاً يشكلان نابوكوف نفسه، فكأنه نابكوف يقابل نابكوف، بل بالأحري: نابوكوف ينظر إلي نابوكوف.
في المرة الوحيدة التي حاول فيها بطلنا أن يضرب مدافعاً عن نفسه، منظماً لحفلاً منزلياً اجتهد في الإعداد له، مستغلاً اكتراره لمنزل جديد كامل له وحده، ومفكراً في الشراء النهائي لذلك المنزل ذاته، وبعد ان اختار بعناية قائمة مدعوين سياسية تؤمن له حزباً من الأحلاف الموالين داخل الكلية، ارتدت الضربة بقسوة لصدره عندما أسر له رئيسه الألماني بعد الحفل بأمر رحيله إلي جامعة أخري كبري وعدم رغبة وينديل في الأحتفاظ بتعاقد Pnin معهم، ومن ثم يحذره من بذل المال في شراء المنزل. يتلقي Pnin الأخبار ببسالة نبيل سابق، ويشد علي يد رئيسه مهنئاً بحرارة صادقة علي المنصب الجديد، ولا يجد ما يفعله بعد رحيل جميع المدعوين سوي أن يفرغ من جديد إلي وحدته.
ويأتي الفصل الأخير، الكاشف، فإذا بفلاديميروفيتش يكشف عن نفسه، الوافد الجديد إلي وينديل الذي يعتزم بناء قسم خاص للغة الروسية، ميراث Pnin الحقيقي، وعن حقيقة مشاعره المحبة والمتعاطفة تجاه Pnin، ولا يلبث أن يشعر بالألم والحزن تجاه تفادي Pnin له، وهروبه منه، فلا يعدو الأمر غيرة مهنية عادية أو نقمة أقران، بل تمتد أسباب العداء والمنافسة بينهما إلي أيام شبابهما في باريس حيث تنافسا من طرف واحد، طرف Pnin، في حب الفتاة ذاتها، هي الفتاة الوحيدة التي أحبها Pnin في حياته كلها، والتي كرس قلبه لها وتزوجها، وحتي بعد طلاقهما وافتراقهما، وبعد كل الأستنزاف والخداع والصدمات التي سببتها له، ظل يحمل لها كل مشاعر التقديس والأحترام، فلا يملك فلاديميروفيتش إلا أن ينظر له بإجلال وإشفاق ولهفة بينما السيارة المستعملة الكارتونية –صورة Pnin الأخيرة- تهرع خارج البلدة و Pnin نفسه منحني خلف عجلة القيادة وحقائبه مكدسة علي سقفها.
(3)
إن Pnin هو قصة الإنسانية العقلية المتوحدة، هو ليس شئ سوي عقل طيب أديب خصيب، بلا حسابات سياسية أو خطط أيدلوجية كبيرة، عقل صاف لا يحمل اكتراثاً للحياة العادية، لكنه كذلك لديه مقدساته الخاصة، ولديه نقاط ضعفه وحساسياته الخاصة القادرة علي تحويله بجسده الكبير إلي طفل صغير بَكّاء في ثوان. هي قصة الشجاعة والنبالة والحياة بدون ظهر أو حماية أو علاقات، في عالم المؤامرات والتوازنات الشخصية والسياسية.
و Pnin الرواية بكل هذه الصفات هي رواية شخصية فنية Character novel، شخصية ضعيفة مهتزة ولكنها كاسحة في جمالها، وهذه هي عظمة التمكن من صنعة الرسم الفني. يقول المؤلف في حديثه مع باريس ريفيو إن شخصياته كلها عبيد في مطبخه، أي أنه يملك التحكم الكامل في الصورة الفنية، حيث لا شئ يخرج قط عن السيطرة. وبرغم كونها رواية شخصية واحدة إلا أنها تتناول في صورها طوفاناً من الشخصيات والأسماء الأخري التي تطير وتحلق عبر شبكة السرد كفراشات لكل منها جنسها ولونها الطبيعي الواضح بأقل الكلمات والخربشات الممكنة.
وهي أيضاً في نطاقها رواية حرم جامعي campus novel، من النوع المبكر جداً حتي أنني لا أفكر في رواية حرم جامعي سابقة لها في وقتها سوي ربما "جيم المحظوظ" لكينجزلي آميس مع الفارق. وقد كتبها نابوكوف أثناء فترات مفاوضات نشر "لوليتا" في الخمسينات، كاستراحة من شخصية همبرت همبرت المهووسة، أراد خلق شخصية أخري، تامة الأختلاف عن همبرت، نقية، مخلصة، محافظة، ومضطربة. شخصية "جديدة كل الجدة في الأدب العالمي".
بْنين، فلاديمير نابوكوف – منشورات الجمل الترجمة العربية الممتازة للأستاذ محمد جليد، وقد سمحت لنفسي بتصحيح الخطأ في الصفحة رقم 192.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته