الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/ أمينة6

محمود شقير

2022 / 12 / 2
الادب والفن


10

لو أنها درست في المدينة. لو أنها تخرجت في المدرسة الثانوية. لو أنها ملكت الحرية للذهاب إلى السينما مرة كل شهر. لو أنها اختارت رفيق حياتها دون ضغوط أو إكراهات. لو أنها الآن معلمة مُجدَّة وزوجة وفية. لو أنها الآن أم لثلاثة أولاد وثلاث بنات. لو!

11

ذات صباح، قررت أن أصبح بائعاً. اتفقت على ذلك مع صديقي محمد السلحوت الذي قرر هو الآخر الشيء نفسه. كانت لنا قطعة أرض فيها أشجار تين، بينها تينة "زرقية" تجود علينا كل عام بثمر شهي. وكانت أسرة صديقي استأجرت قطعة أرض مجاورة لأرضنا، فيها أيضاً أشجار تين. قررنا أن نذهب إلى المدينة لكي نبيع التين فيها.
أبدت أمينة استعداداً لمساعدتي في قطف التين، ووضعه في سلة حملتها على رأسها. الشيء نفسه فعلته أخت صديقي، واسمها هي الأخرى أمينة. ذهبنا أنا ومحمد مشياً على الأقدام إلى القدس، والأمينتان تسيران خلفنا وعلى رأس كل منهما سلة تين. لم نركب الحافلة الذاهبة إلى المدينة لكي نوفر بعض القروش، أو ربما لم نكن نملك تلك القروش. أتطلع الآن إلى الوراء وأراقب المشهد فأجده مربكاً. البنتان اللتان لا تتجاوزان العاشرة من عمريهما تسيران صامتتين خلفنا، ونحن نمشي أمامهما لا نفكر بإراحتهما قليلاً، لا نفكر بحمل السلتين ولو لمسافة قصيرة. كنت آنذاك في الرابعة عشرة من العمر، ومحمد في الثانية عشرة.
عندما وصلنا باب المغاربة، (أحد أبواب القدس السبعة، وهو واقع في الجزء الجنوبي من سور المدينة) أي بعد أن مشينا مسافة ستة كيلومترات، طلبنا من البنتين أن تنزلا السلتين من فوق رأسيهما، وأن تعودا من حيث جاءتا. أذعنتا وعادتا إلى القرية. وبدا واضحاً منذ البداية أن دورهما يتحدد في حمل السلتين إلى باب المغاربة. أما دخول المدينة فهو منوط بنا نحن الاثنين.
بعنا التين، وصرفنا المبلغ الذي ربحناه على طعامنا وشرابنا، ولم نفكر آنذاك بالأختين اللتين قدمتا لنا المساعدة. لم نفكر بشراء حلوى أو أي شيء آخر لهما من المدينة. لم نفكر بذلك، ربما لأننا على ثقة من أن البنتين لن تتوقعا شيئاً ولن تتذمرا من شيء.

12

لو أننا، صديقي وأنا، ساعدنا أختينا وتقاسمنا معهما التعب. لو أننا مشينا معاً جنباً إلى جنب. لو أننا سمحنا لهما بدخول المدينة. لو أننا دخلنا المدينة معاً. لو أننا تأملنا أسواق المدينة معاً. لو أننا ذهبنا إلى مطعم في المدينة معاً. لو أننا عدنا من المدينة معاً. لو!

13

كانت في الصف السادس الابتدائي، حينما رأيتها وهي قادمة من المدرسة تتوسط عدداً من البنات. هي أطولهن قامة وأكثرهن تميزاً، تضع حقيبتها على صدرها وتقبض عليها بكلتا يديها. وهي في الصف الذي لا صف بعده في مدرسة القرية. وهي متميزة في دراستها، وعلاماتها في المدرسة هي الأعلى، وهي تطمح إلى الدراسة في المدينة بعد انتهاء السنة الدراسية. ولم أكن معنياً بأن تذهب للدراسة في المدينة.
جاءت معلماتها لزيارتنا (واحدة منهن اسمها رشيدة الدجاني، غادرت القدس إلى عمان بعد نكسة حزيران، وأصبحت ممثلة معروفة، وشاركت في عدد من المسلسلات التلفزيونية). هي وجهت الدعوة إليهن ونحن وافقنا على ذلك. أثنت المعلمات عليها أمام أمي وأمامي. ولم يكن أبي في البيت.
انتهت السنة الدراسية، ولم نسمح لها بالذهاب إلى مدرسة المدينة. المزاج المحافظ المسيطر على الأسرة وعلى القرية فعل فعله هنا. ولم يكن أبي وحده الذي لم يتشجع لذهابها إلى المدينة. أمي أيضاً لم تتشجع، وأنا لم أتشجع. وأمينة لم يعجبها هذا الموقف الذي اغتال طموحاتها الصغيرة. أمضت ليلة كاملة في مخزننا الشرقي، تبكي ولا تنام احتجاجاً على موقفنا، ولم يستجب لاحتجاجها أحد، فأقلعت عن الاحتجاج. رمت المدرسة من خلف ظهرها واستكانت لمشيئة أهلها.
تشكلت المدينة في وعينا باعتبارها مكاناً حافلاً بالغموض، وبالأشياء غير المتوقعة التي قد تتعرض لها البنات. اعتقدنا أن ذهاب فتاة في سن المراهقة إلى مدرسة في المدينة سيجعلها عرضة لكلام الناس، وسيعني محاذير قد تقع للبنت وهي تركب الحافلة التي تأخذها إلى المدينة، وسيعني تخوفاً من أبناء السوء الذين قد يظهرون للبنت أثناء مغادرتها للمدرسة. ثم إن أبي وأمي كانا على قناعة بأن تعليم البنت ترف زائد ونوع من الكماليات التي لا لزوم لها، لأن ذهابها إلى العمل بعد التخرج في المدرسة ليس وارداً، كما أن مصيرها معروف: البقاء في البيت إلى أن يأتي ابن الحلال الذي يتزوجها، ويبقيها في بيته خادمة مطيعة.
أصبحت تقضي كل وقتها في البيت تساعد أمي في شغلها المنزلي، وفي إحضار الماء من بئرنا الغربية، أو من البئر البعيدة التي تذهب إليها حينما ينضب الماء في بئرنا، مع سرب من بنات العائلة، لجلب الماء في تنكات من الصفيح، يحملنها على رؤوسهن مسافة كيلومتر واحد أو أكثر قليلاً. وفي أوان نضج التين، تذهب إلى كرمنا، تقطف التين عن شجرنا وتعود به إلى البيت. ويبدو لي الآن أنها انهمكت في شغل البيت لكي تنسى طموحها الذي وأدناه. ولم أعد أراها حتى ونحن نعيش في بيت واحد، كانت تنزوي عن ناظري، أو لعلني كنت لا أجد ضرورة لكي أراها، فأظل متخففاً من أي شعور بالمسؤولية تجاهها.
غير أنني رأيتها حينما جرى حديث في بيتنا عن معلم في مدرسة القرية يرغب في طلب يدها. لم أكن أعرف ذلك المعلم، ولم أر خلقته أبداً. قيل يومها إنه كهل متقدم في العمر وهي صبية، وربما كان متزوجاً ثم انفصل عن زوجته، وهذا بحد ذاته أمر يدعو إلى التحسب والقلق. ظلت صامتة أغلب الوقت، لم توافق على الارتباط بهذا الشخص ولم ترفضه. انتظرت جوابنا نحن الذين نقرر مصيرها نيابة عنها. أخيراً، لم نوافق على ذلك لاعتبارات كثيرة. ولم أدر يومها كيف كانت مشاعرها تجاه هذا الأمر.
رأيتها مرة أخرى حينما تزوجتُ وأنا في العشرين. وهي آنذاك في السادسة عشرة، طويلة القامة رشيقة سمراء. رأيتها ترقص وسط النساء هي وأختى التي تصغرها بثلاث سنوات. ترقصان وأنا أراقبهما من موقعي إلى جوار عروسي التي جئنا بها قبل ساعة، من بلدة صويلح المجاورة لمدينة عمان. كانتا ترقصان في رشاقة أثارت إعجاب النساء.
ثم رأيتها بعد زواجي بأشهر وهي تلازم زوجتي وتتخذ منها صديقة لها. آنذاك، بدأتُ أدرك شيئاً من حقوق النساء بعد أن أصبح لي انتماء سياسي. صرت أحدثها أحاديث عامة عن النضال وعن المساواة بين المرأة والرجل، وهي تصغي بانتباه. لكنه إصغاء لجهة التصديق والإذعان اللذين لا يطلبان حقاً في الاختلاف أو في التوقف عند ما يقال وما يجري على أرض الواقع، وبالذات في بيتنا الذي لا يعترف بحقوق النساء ولا بالمساواة معهن. إنها على استعداد للتجاوب مع هذا الجديد الذي أعرضه عليها، إلا أن حركتها محكوم عليها بأن تبقى داخل البيت، فما نفع الأفكار الجديدة حينما تصبح مجرد تمنيات طيبة أو تطمينات؟
ولم تحجب عنها هذه الأفكار مصيرها الذي أوصلناها إليه.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب