الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمل الفساد في السلطة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 12 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


ما من شيء في الكون إلا وبه نُقْصَان، بما في ذلك الكون ذاته. كل شيء نسبي، متحرك بُعداً وقرباً بين قطبي العدم من جهة والكمال في المقابل؛ لا هو يفنى في العدم ولا هو يبلغ الكمال.

يبدو الكون يدور في فلك قوتين عظميين متناقضتين، الفساد في طرف والتجدد في الآخر؛ وهو ماضي ومتردد إياباً وذهاباً على مسافة من كلاهما، لا يبلغ أبداً أي منهما ولا يغادر الآخر بالكامل؛ تارة ينجذب أكثر باتجاه الفساد والتحلل والفناء، ليعود أدراجه تارة أخرى باتجاه قطب التجدد، ليزداد انتظاماً واكتمالاً وطاقة وحيوية. من مخاض هذا الشد والجذب الدائم بين قطبي التحلل من جهة والتجدد في المقابل، ولدت الحياة. ومن الكون الأب، قد ورثت كل الكائنات هذا القانون الطبيعي، لتقضي عمرها طال أو قصر جيئةَ وذهاباً بين قطبي الفساد والموت والتحلل من جهة، والميلاد والنمو والازدهار في المقابل؛ لا هي تبلغ هذا القطب إلى حد الكمال، ولا تغادر الآخر كليتاً؛ لا الحياة تفنى، ولا الأحياء يخلدون. لهذا السبب ربما قد قسم أجدادنا عوالمهم المتخيلة إلى قسمين متصارعين بين قوى الخير والشر، الآلهة وملائكتهم وحوارييهم من جهة في حرب أبدية ضد الشياطين وأعوانهم في المقابل. لكن الواقع هو أن كلا القوتين شيئاً واحداً والشيء نفسه: الكون نفسه يحوي بداخله قوى الفساد والتجدد معاً في آن واحد، والأحياء يحملون بداخلهم جينات تجديد أنفسهم عبر التزاوج وبها أيضاً تهن قواهم وتشيخ ويتوفون. لكن يبقى الكون رغم فساده الواسع مستمر في الوجود؛ وحياة الكائنات رغم قصرها باقية من ملايين السنين- بل وتزدهر باطراد.

باعتبار السلطة كائن من كوائن هذا الكون الفسيح، هي حتماً ولابد قد ورثت عنه جيناته الفطرية تلك، لاسيما هذين المتعلقين بقدرة التجدد والفساد. السلطة، مثل أي وكل شيء آخر في الكون، تحوي بداخلها جينات الفساد والتحلل؛ لكنها مقابل ذلك تحوي أيضاً ترياق التجدد والتطور. ولهذا، رغم فسادها، قد بقيت السلطة قائمة وسط الجماعة البشرية حتى يومنا هذا؛ وهي ليست باقية فحسب، بل تتعاظم قوتها وتتطور وترتقي إلى مستويات غير مسبوقة في أنحاء كثيرة من العالم المتقدم.

هناك صنفان رئيسيان من السلطة: المنفتحة والمنغلقة. تقوم الأولى على استيعاب أكبر عدد ممكن من أصحاب المصلحة، بفتح أبواب المشاركة والمراقبة والنقد أمامهم، ما يخلق منهم عوامل تجديدية نشطة تساهم في فضح ومحاربة عوامل الفساد والتحلل، ومن ثم المساهمة في مزيد من تقوية وتعزيز مناعة السلطة ذاتها. في المقابل، هناك السلطة المنغلقة على مجموعة أو دائرة ضيقة من المتنفذين إلى حد استبعاد أغلب أصحاب المصلحة الأصليين. هذا الانغلاق يؤدي حتماً إلى التورية والتستر على مواطن الخلل والفساد، ورسم مقصود لصورة مشرقة وقوية منافية للواقع بعدما أوصدت كل المنافذ أمام كشف الصورة الفاسدة والضعيفة الحقيقة.

تعيش السلطة المنغلقة في بيئة نظم الحكم الاستبدادية. ورغم كل ما تقوله عن نفسها، أو ما يقال عنها تأثراً بدعايتها من قوة وازدهار وتقدم ورخاء، إلا إنها تبقى في حقيقة الأمر ضعيفة وهشة وقابلة للانكسار، لأن الفساد تُرك ينخر في هياكل مؤسساتها منذ نشأتها الأولى. ولهذا، لا يستغرب أن مثل هذه النظم تسقط فجأة وتنهار من داخلها حتى من دون هزات أو تحديات خارجية كبرى. هذا قد حدث فعلاً حين انهارت روسيا القيصرية ثم تبعتها روسيا السوفيتية في غضون بضعة عقود. وقد شهد التاريخ الحديث ديكتاتوريات كثيرة حول العالم تسقط وتنهار فجأة دون سابق إنذار لكي تضطر إلى معاودة بناء مؤسساتها من الصفر تقريباً خلال مدد زمنية أقل. في الحقيقة نظم الحكم المستبدة، المنغلقة، عكس الصورة التي ترسمها لنفسها، تعاني من الوهن والضعف المزمن لأنها تنفق من جهدها في محاربة وقمع جينات تجديدها وإصلاحها أكثر مما تنفق في استكشاف ومداواة ما بداخلها من مواطن تحلل وفساد أولاً بأول.

وفي حين لا تُعَمِرْ السلطة المنغلقة في بيئة نظم الحكم الاستبدادية أكثر من عدة عقود في أفضل الأحوال، تصل أعمار السلطة المنفتحة في البيئة الديمقراطية إلى مئات السنين، مثلما الحال في بريطانيا والولايات المتحدة على سبيل المثال. وبذلك تتفادى هذه النظم المستقرة والتراكمية معظم ما تعانيه مؤسسات الحكم الاستبدادي من اضطراب وانكسار وإعادة بناء من الصفر كل بضعة عقود. السلطة في الديمقراطيات تتجدد وتتطور وترتقي تدريجياً مع كل حكومة جديدة، بينما في الديكتاتوريات تتبدل وتنحرف إلى حد الانكسار تقريباً مع كل عهد زعيم جديد- وهو ما يتطلب من الشعوب جهداً مضاعفاً ومضيعة لا تقدر بثمن من عمرها ومقدراتها.

مثل كل كائن آخر في الكون، ما من سلطة في العالم إلا وتحمل بداخلها من عناصر الضعف والقوة معاً في آن واحد. وبينما تحفز آلية الحكم الديمقراطية عوامل القوة ضد عوامل الضعف، يبرهن التاريخ أن النظم الاستبدادية تفعل العكس- تقمع بداخلها عوامل القوة لتجد نفسها في نهاية المطاف فريسة لعوامل الضعف الفطرية الكامنة فيها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر مصرية: وفد حركة حماس سيعود للقاهرة الثلاثاء لاستكمال ا


.. جامعة إدنبرة في اسكتلندا تنضم إلى قائمة الجامعات البريطانية




.. نتنياهو: لا يمكن لأي ضغط دولي أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن ن


.. مسيرة في إسطنبول للمطالبة بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة و




.. أخبار الساعة | حماس تؤكد عدم التنازل عن انسحاب إسرائيل الكام