الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفاء

كاوا عبد الرحمن درويش
قاص وهايكست

(Kawa Darwish)

2022 / 12 / 5
الادب والفن


صباحٌ شتويٌ من صباحات نوفمبر مليءٌ برائحة برتقالٍ تفوح من أعتق منزلٍ في الحارة الفقيرة، نسيمٌ شتويٌ رطبٌ، وبضع قطرات مطرٍ تتساقط على جادتهم الترابية الضيقة فتُصْدِر رائحةً أزكى من عبق الهال المتناثر في فنجان قهوته الساخن الذي بالكاد تناوله من يد زوجته. مرتشفاً قهوته جالساً على كرسيٍ خشبيٍ عتيق ورثه عن أبيه الذي ورثه بدوره عن جده، فرفض الحفيد التخلص من هذا الكرسي مهما حاولت معه زوجته، خوفاً من أن يُوصَفَ بعديم الوفاء. يقف فيميل بجسده متكئاً بساعديه على الدرابزين الحجري الأبيض فوق الشرفة الفسيحة المطلة على الحي، ينفث دخان سيجارته المتزاوج مع بخارٍ كثيفٍ يخرج من فمه كل ما زفر، يستمتع بضجيج تلاميذ مدرسة الوفاء الابتدائية القريبة من منزله وأناشيدهم بفرح، ويتمعن بقسمات وجوهِ مارةٍ أتعبتهم الحياة فحفرت عليها أخاديداً أصبحت خير شاهدٍ على خيرٍ لم يروه يوماً في هذه الديار التعيسة.
انكب على روايةٍ استهوته فاستعارها من احد أصدقائه، قرأها بنهم، وبينما هو غارق في أحداثها وتفاصيلها الصغيرة، اندمج مع جزئياتها حتى خُيِّل له أنه هجر كل هذه التعاسة وحلَّق عالياً متجاوزاً كل الحدود المصطنعة التي رسمها الإنسان بيده في مواجهة نفسه، حدود ليست سوى خطوطاً خطَّها القوي في وجه الضعيف، استأثر فيها الأخ الأكبر بالمساحة الأكبر من حصة الأخ الأصغر، لا بل حرمته حتى من أي شبر من أرضه أحياناً، حاله كحال الكردي اليوم.
حدودٌ تمنع هذا من تجاوزها نحو تلك، وتمنع ذاك الآخر من تجاوز تلك نحو هذه، وبعد أن فرغ الأخ الأكبر من رسم حدود مملكته بريشته المخضبة بدماء أولاد أخيه الأصغر، عاد فندم على فعلته متحسراً على المزيد، فخرج غازياً سالباً لما تبقى من حصة أولاد أخيه الأصغر.
حدودٌ لم تقف في وجه بني البشر فحسب، بل وقفت في وجه الحيوان أيضاً.
سؤالٌ لطالما راوده فحيره: أليس بمقدور حيواناتنا التعيسة أن تهجر هذه التعاسة نحو عوالم أخرى أقل تعاسة، عوالم تعيش فيها الحيوانات برخاءٍ أكثر حتى من رخاء الإنسان نفسه هناك، أليس في بقاء الحيوان هنا مع صديقه الإنسان أبلغ الأمثلة في الوفاء؟ ألا يستطيع كلب هنا أو قطةٍ هناك تجاوز هذه الخطوط بعيداً عن هذه البلاد؟ أليس كل هذا وفاءً أم ضعفاً وعجزاً كما يسميه أحد السخفاء، فراح يصطاد ببندقيته العصافير النائمة في أعشاشها فوق الأغصان، وخرج ليلاً ليقتل الكلاب الجائعة المتجمعة حول حاويات القمامة؟ أهكذا يقابل الوفاء بالنكران يا بني الإنسان؟
استمر في القراءة غير مبالٍ بقطرات مطرٍ مشاغبةٍ تتساقط على شعره من هنا وعلى صفحات كتابه من هناك، ساءَلَ نفسه من جديدٍ أليس هذا أيضاً قلة وفاءٍ منه نحو الكتاب وصاحب الكتاب؟
استسلم لضميره وعاد ليجلس على كرسيه الخشبي فأكمل قراءة الرواية الى أن توقف فجأةً من دون دراية عند جملة «بِضَجَّةِ صَنَّاجَاتٍ مَكْبوتَةِ الصَدَى» استوقفته مفردة صناجات رغماً عنه من دون أن يعرف الأسباب، وفجأةً لاح له السبب حين عادت به ذاكرته أربعين سنةً الى الوراء كان فيها تلميذاً في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة الوفاء القابعة في حيِّهم، وحين فاز بالمرتبة الأولى على مستوى المدرسة أهدته معلمته التي نسي اسمها وثيقة امتياز ومجموعة أنيقة من الأشكال الهندسية وكتاباً ذو غلافٍ أزرقٍ يحتوي على مجموعةٍ من المسرحيات المشاركة في مهرجانات طلائع البعث في حقبة الثمانينات، فاستذكر مشهداً ضمن احدى المسرحيات تتحدث فيها أحدى العازفات الصغيرات على آلة الدرامز مع صناجاتها الخمسة كما لو كانت احدى صديقاتها فتمازحها أحياناً، وتعتذر لها حزناً ان قست عليها بالضرب أحياناً أخرى، فنشأت بعدها علاقة حب ووفاء بين العازفة الصغيرة وصناجاتها الخمسة استمرت عقوداً طوال حتى رحلت الى السماء.
عادت به ذاكرته نحو مدرسته بتفاصيلها الصغيرة، استذكر معلمته التي لطالما أحبها منذ ذلك الوقت، فقد كانت لهم الأم الثانية والأخت والصديقة، الكثير من ذكريات الطفولة ذهبت مع السنين الا ذكرى المعلمة المحجبة الجميلة التي لم تكن تفارقها الابتسامة حتى وهي تصلي أمامهم في غرفة الصف في مدرسة الوفاء.
تأثر كثيراً حين تراءى له مشهدٌ عتيقٌ تشرح لهم فيه حادثة الإسراء والمعراج وكيف أن النبي محمد ركب البراق ليلاً وصعد به السماوات العليا وحين رجع من رحلته واستلقى في فراشه تفاجأ بأنه لايزال دافئاً وكأن رحلته الى السماء كلها لم تستغرق بضع ثوانٍ، أو أن مشيئة الله رأفت به فأبقت فراشه دافئاً.
تتالت المشاهد والذكريات وكأنها حاضرة أمامه الآن، نزلت دمعة من عينه على كتابه المفتوح بين يديه، اشتد المطر فهرب من الشرفة الى الداخل وهو لا يزال يفكر باحثاً في ذاكرته عن اسمها، حاول بكل جهده وتركيزه ان يتذكر اسمها ولكن دون جدوى، تناول الغداء مع زوجته وأولاده وهو لايزال يحاول حتى أصابه اليأس والاستسلام، كيف يتذكر كل تلك التفاصيل الصغيرة ولا يتذكر اسمها؟ حينها قرر بينه وبين نفسه أن يسأل أحد رفاق الطفولة عن اسمها ان وجد أحدهم هنا أصلاً فكل رفاق الطفولة هجروا البلد منذ نشوب الحرب، إلا أحدهم لا يزال يقيم هنا، فعقد العزم أن يزوره في المساء، عله يعرف منه اسمها فيسأل عنها هنا أو هناك أو على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وصمَّم أن يزورها في منزلها مع زوجته وأولاده وأن يقبِّل يدها أمامهم شكراً وعرفاناً ومحبة.
انتهى من تناول غدائه وحاول بعدها أن يكمل قراءة الرواية ولكنه أحس بجسده منهكاً فغلبه النعاس وغطَّ في نومٍ عميقٍ لم يستفق منه إلا على صوت احداهن تهمس في أذنه: اسمها وفاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي