الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآن و النقطة : سيد المساحة وقطعة الزمان المتحجر

كاظم مؤنس

2022 / 12 / 10
الادب والفن


بقلم الدكتور كاظم مؤنس

بفضل الثورتين: التكنولوجية والالكترونية استطاعت الصورة أن تحقق لنفسها قدرا من الاكتمال بالسيطرة على العديد من الأبعاد الفيزيائية المتمثلة بالزمان والمكان من خلال العديد من الوسائل والمؤهلات الكفيلة بخلق واقع لعوالم مفترضة تشير بدورها إلى واقع متخيل، فاضحت قادرة على بناء عالمها الخاص وباتت تشغله بالشخوص والأحداث والموجودات وتحركه خالقة عالما مماثلا لما هو عليه الواقع الذي نعرفه أو على العكس تخلق عالما لا يشبه واقعا نعرفه، وفي جميع الأحوال فما نراه على الشاشة يبقى صورة عيانية لواقع مفترض أنتجه الخيال بوسائل واقعية، فللسينما قدرة هائلة على إعادة صياغة الأمكنة وهذه خاصيتها فحسب بل طبيعتها و شرط من شروط صيرورتها، فالمكان هو الإطار اللام لجميع الموجودات، كما أنه سيد المساحة الممتدة بموازاة الزمن فضلا عن كونه عنصرا مهيمنا يضفي حقيقة وجوده على مجمل الفضاء الفلمي الذي لاينفك ينتقل من مكان إلى آخر من مشهد إلى مشهد من خلال تمثلات الأحياز لإطلاق وحدة ذات ديمومة غير منقطعة في مرتكزات البنية الفلمية، حيث يظهر الحيز فيه كوحدة مستقطعة من مساحة أكبر، غير ان الامتداد الحيزي المترابط على وفق الأساس المادي في المشهد يشكل لاحقا مساحة المكان المصنوع، المكان الذي يتجلى بتشكل الوحدات المنتخبة والمصممة بدقة عالية باشتراطات دراماتيكية وجمالية ودلالية، وهي بالضرورة عملية تنظيم وإعادة تركيب وتواشج بين وحدات تكوينية هي بالأساس تشظيات المكان الكلي التي لم تعد معزولة عن بعضها بفعل استخدامات وسائل الانتقال المونتاجية ودورها الفني في بناء الحدث وتحرير المحتوى المادي داخل اللقطة، اللقطة التي لايمكنها إلا أن تكون مكانية، وتلك حقيقتها المادية، فبإمكانها التخلي عن العديد من عناصرها البنائية (إلا من حقيقة واحدة هي حقيقة المكان) على حد تعبير أندريه بازان.
والحديث عن المكان يستدرجنا بالضرورة إلى الحديث عن قرينه الزمان، وتعرضنا لفكرة الثنائية إنما سيفضي بنا إلى موجبات منهجية تتيح الإجابة على التساؤلات هنا من خلال حضور العلاقة بالقرين. لأنهما يتخلقان عبر بعضهما البعض فالمكان هو حضور الموجودات وانعكاس الزمان ومرآته وهو ترابط ملتصق بالإنسان منذ الأزل. وسأحاول جاهدا تحري الاختزال للتعريف به باقتضاب نظرا للمساحة المتوفرة للمقال، ذاكرا بعض المقولات الهامة لأهم الفلاسفة الذين تعرضوا لفكرة الزمن، فهو كما يعرفه كولن ويسلن في كتابه فكرة الزمن عبر التأريخ «بأنه ديمومة لا تعرف الانقطاع» ويورد هانز ميرهوف في منجزه الزمن في الأدب مقولة للقديس أوغسطين «لو سُئلت عن الزمن، فأنا أعرفه، أما أن أشرحه، فلا استطيع» ويرى برغسون بأن إدراكه لايكون إلا عن طريق الخبرة والوجدان، بوصفه معطى مباشر أما جان بول سارتر فيضع مفهوما آخرا في كتابه - الكينونة والعدم - فهو في منظوره «تتابع وتعاقب، وأنه نظام يرتكز على مبدأ العلاقة بين قبل وبعد» ويصفه مواطنه جان أبشتين بأنه سريان بين الماضي والمستقبل، أما الناقد مارسيل مارتن فينعته بالقوة التي لا تقاوم ولا رجوع فيها ، حيث يصير الماضي حاضرا والحاضر لحظة (الآن) النقطة الواصلة بين الزمن الذي أنقضى والزمن الذي سيأتي، فهو سلسلة لا متناهية من اللحظات الآنية التي لا يوجد بعضها حتى الآن، وبعضها الآخر لم يعد موجودا على حد تعبير سارتر. وكل – آن – تسبقها – آن – وتلحقها – آن – على اعتبار الآن ممثلة لمفهوم الزمن عند ارسطو، أما هيجل فيعبر عنه بأنه نتاج الماضي مثلما سينتج عنه المستقبل، هذا التدفق المترابط والمستمر يعبر عنه مارتن هيدجر في مؤلفه- الكينونة والزمان - «أن الزمن يواصل مجراه ويمضي قُدما» وفي مقاربته لفكرة ارسطو وهيجل يرى هيدجر بأن» كلاهما ينظر إلى الان «كحد فضاء للزمن كما النقطة في البعد المكاني «ويؤكد برغسون بأن (الآن) حلقة الوصل بين الماضي والحاضر وبين الأخير والمستقبل في التدفق المتصل ببعضه.
أما الأحداث المشهدية التي تشغل حيزا في الزمان ويعج بها المكان وتشغل حيزه، فهي جزء هام من تجليات واقعية البعد المكاني.
وعودا على بدء فالتواشج والتآصر بين الزمان والمكان يمثل ترابطا جدليا، فهو جوهر أصالتهما، بيدَ أن بروز الأول عبر الثاني «يُعد إدراكا نوعيا على صعيد الفن» وبالذات في الفنون السينمائية، فضلا عن ذلك فأن للمكان في الزمان حقيقة، فالحاضر على الشاشة هو وحده الموجود ولكن الحاضر العياني هو نتيجة للماضي وحاملا للمستقبل وإن لكل منهما تحديدات «لأن الزمان والمكان إمكانيتان للتضاد المطلق بعبارة أوضح نقول أن كلا منهما: كثرة، وتعدد، أو سيلان، أو كون بالغير باستمرار، بمعنى أنه مركب من وحدات متتالية هي النقطة بالنسبة للمكان، وهي الآن بالنسبة إلى الزمان لكن هذه الوحدات على اتصال لذا فهما حدان لهما ما يليهما ولا يمكن لهذه الوحدات أن تنفصل عنهما وإنما تسيل الواحدة بعد الأخرى» كما يصفهما بدوي في كتابه الزمان الوجودي.
وهكذا تكون السينما قادرة على إثبات أن الزمان والمكان على حد سواء بعدان ضمن الوحدة المتجانسة ذاتها. كما يعبر عنهما رالف ستيفنسون وهو تصور متماثل لما يكشفه أدوين موير في كتابه بناء الرواية بالقول أن «الرواية الدرامية تدور في الزمان مع تحديد عابر للمكان» فالفلم باعتباره عالم مفترض يتخذ صورة مغايرة عن العالم الواقعي، إذ يمكن معه تقطيع استمرارية المكان والزمان ومعالجتهما على وفق سير القصة والأحداث وتطورهما في خط الزمان والمكان، لكن ذلك مشروطا بالترتيب والتنظيم «وتجنب القفزات الكبيرة في البعدين. فالفلم يقدم حكاية تروى وهذه لابد أن تقدم أحداثا تقع في فترة زمنية معينة ومكان معين وبترتيب زمني ومكاني يعتمد على سلسلة من الأسباب والنتائج ويرى ـ جيرار جنيت ـ بأن الزمن له عدة أوجه وفي تحليله لهذه الأوجه تأتي الحبكة التي يمكنها أن تبني حوادث القصة بترتيب تسلسلي زمني، وفي نفس الوقت هي تقدم الأحداث في إطار المكان، مهما كان هذا المكان غامضا أو غير محسوس، فالحبكة يمكنها أن تسهل بناء المكان حين تقدم معلومات كافية عن الأمكنة والأحياز المحيطة والملحقة به.
ولعل الزمان واحدا من أهم الأبعاد التي فرضت حضورها القاهر في الاعمال السينمية نظرا لدوره المؤثر في تخليق العلاقات الدرامية للأحداث وتدفقها خصوصا في تعالقه الدقيق مع المستوى المكاني مما يدعم الإحساس بالمتغيرات والتحولات التي ما فتئت تأخذ الحكاية المرئية من منعطف لآخر، فتساير الزمان مع الأبعاد المكانية الثلاثة يعزز ويعمق كثيرا من إدراكنا به، عبر صلتنا الحسية وتفاعلنا معه، فتستحيل تجربتنا الذاتية إلى عمق دلالي بالغ التأثير بانغماس الزمان كمستوى رابع للمكان يتكفل بتحولات وانقلابات عدة في معطيات القرين.
وننتهي إلى القول بأن الزمان والمكان عنصران أساسيان «متمازجان ومتبادلان ومتفاعلان في إضفاء الصفة المكانية على الزمان من جهة، وفي إضفاء الصفة الزمانية على المكان من جهة أخرى، فالفلم يرينا المكان ولاشيء غير المكان، و هذا المكان لا بد من استخدامه للتعبير عن الزمان، ومع ذلك ينبغي تناول هذا المكان من منطلق زمني، بحيث يكون مطابقا لشكل الزمن، والشكل الزمني يتميز بالاستمرارية والمرونة ويتيح لنا التنقل داخل الزمان وكأنه مكان على حد تعبير رالف ستيفنسون .وهذه الأفكار تجد صدى قويا لها في مقولة اشبنجلر التي تؤكد عمق وحتمية الترابط بين الزمان والمكان الفلمي فيصف علاقتهما السرمدية بالقول: ـ “ بأن المكان قطعة من الزمان المتحجر». إذن فهي علاقة تشابك وتساير وترابط جدلي بحيث تأخذ علاقتهما شكلا طرديا فكلما تدفق الزمن وتلازم مع الحركة كلما تغيرات الأمكنة أو تولدت أمكنة جديدة من واقع الأحداث، وذلك بفعل الشخصيات التي تذهب للتوغل بالمكان، كما أن الزمن هو الآخر ليس بعدا ثابتا، بل تنوعات من الأزمنة المختلفة فهناك زمن العرض وزمن الحكاية والزمن النفسي وهناك الأزمنة الضمنية ومن ضمنها الأزمنة المركبة كالحاضر/ الماضي، والحاضر/ المستقبل، وفي كل هذه التنوعات يستمر الزمن بالتدفق والتسرب، فار من الثبات طالما هناك مساحة مكانية مشغولة بالأشياء تتواصل في الاتصال والانتقال، ولذلك يسبغ على نفسه سمة التعبيرية انطلاقا من كشفه للتفاصيل التي تشغل الحيز المكاني وتكونه، ولهذا مابرحت السينما تدفع بنفسها إلى رأس قائمة الفنون التعبيرية كونها الفن الأقدر على التخلق بفاعلية المكان عبر علاقة ديالكتيكية، فهي الفن الأكثر قدرة على تفتيت المساحة والزمن وإعادة تشكيلهما، وهذه الخاصية هي جزء من طبيعتها، فضلا عن كونها أحدى أهم سماتها للتفوق على مجمل الفنون الأدائية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة