الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السبق الحضاري في المجتمع المعطوب : فاعل عراقة أم عامل إعاقة ؟!

ثامر عباس

2022 / 12 / 10
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في المجتمعات المتقدمة حضاريا"والمترقية إنسانيا"، قلما تجد من يتباهى بالحديث عن موروثه الحضاري بطريقة عنصرية ، كما لو أن لا وجود لمواريث حضارية أخرى في مجتمعات سواه ، أو يتماهى مع مخزونه الرمزي بأسلوب نرجسي ، كما لو أن لا وجود لمخزون رمزي مختلف لدى شعوب غيره . ذلك لأن هذا النمط من المجتمعات الحية والشعوب الناضجة تجاوزت تلك الأطوار البدائية وتخلصت من قيودها الخانقة ، بعد أن تمكنت من تصفية حساباتها (نقديا") مع تلك المواريث القديمة والمرجعات السابقة ، مثلما سعت للتصالح (عقلانيا") مع ما في ذاك الماضي الآفل من أحداث ووقائع . وبالتالي لم تعد بحاجة إلى استحضارها كلما مرت بانعطافة تاريخية حادة ، كما لم تعد مضطرّة لاستنفارها كلما شهدت واقعة اجتماعية طارئة ، بغية الاستنجاد بما تتوفر عليه من أرصدة رمزية واعتبارات مخيالية لتدعمها في مواقفها المتعصبة ، وتساندها في تصوراتها المنمطة في أتون صراعاتها مع الجماعات / المجتمعات الأخرى .
في المقابل ، وعلى العكس من ذلك ، نجد إنه في المجتمعات المبتلاة بمظاهر الانشطار إلى أقوام متنابذة ، والمتذررة إلى طوائف متكاره ، والمتبعثرة إلى قبائل متناحرة ، حيث يعلو في أجوائها وينداح بين فضاءاتها صوت الماضي المؤمثل وضجيج الموروث المتخيل من جهة ، وتخفت أصوات الحاضر وتنزع إيقاعاته إلى الرتابة والجمود من جهة أخرى . تنام وتصحو مجتمعات هذا الشطر من العالم على اجترار أمجاد تاريخية لم تصنعها وبطولات سياسية لم تختبرها ، ليس من باب الاتعاظ بالدروس القاسية والاسترشاد بالعبر المؤلمة لتجنب تكرار الحماقات وتحاشي الإتيان بالقباحات كما يفترض ، وإنما للاستغراق بأوهام سرديات مسكونة بالأساطير ، وذاكرات مشحونة بالطوباويات ، وإيديولوجيات مدججة بالراديكاليات ، لم تفتأ تمسك بتلابيب الواقع المعيش لتحيله إلى بركان يغلي بالصراعات من كل نوع ، وينذر بالانفجارات من كل صنف ، بعد أن تغلغلت تلك الأوهام والأباطيل في بنى الوعي الفردي وترسبت في طمى السيكولوجيا الجمعية ! .
والحال ليس معيبا"أن يعمد الإنسان للتغني بأمجاد تاريخه ومواريث حضارته ، مثلما يفاخر بانجازات أبطاله وإبداعات رموزه - فتلك على أية حال ظاهرة عامة ومشروعة لجأت إليها معظم شعوب المعمورة – ولكن ليس قبل أن يشرع بإخضاع تلك الخلفيات والمرجعيات المؤمثلة لمطارق (النقد) ومباضع (التفكيك) ، ليس لإجراء عمليات (اختلاق) أحداث تاريخية لا أساس لها ، أو (تلفيق) وقائع حضارية لا دليل عليها . أي بمعنى إجراء (الترقيع) للمجزئ والمقطع بما يظهره موحدا"ومتماسكا"، و(التزويق) للمعيب والمخجل بما يجعله قمينا"بالفخر والاعتزاز ، كما عمدت وتعمد جميع الأنظمة الشمولية في بلدان العالم المبتلى بمظاهر ؛ التخلع بنيويا"، والتضعضع قيميا"، والتصدع سوسيولوجيا" ، والتشظي انثروبولوجيا"، والاضطراب سيكولوجيا". وإنما لازالت كل ما التصق بالوعي من تصورات خرافية تؤسس للمفاضلة ما بين الأجناس والسلالات على أسس عنصرية وشوفينية ، واستئصال كل ما علق في الذاكرة من تمثلات مخيالية تشرعن للتمييز ما بين الأديان والثقافت والحضارات على أسس من الاعتقادات البالية الموسومة بالثنائيات ؛ النبيل والرذيل ، النفيس والخسيس ، المتحضر والمتبرر .
ولهذا ندعو العراقيين – عامتهم وخاصتهم – إلى الإقلاع عن التباهي والامتناع عن التبجح – بمناسبة وغير مناسبة – بالحديث عن مواريثهم الحضارية (الفريدة) ، كما لو أنها دريئة تقيهم (النقد) وتجنبهم (المساءلة) عما يرتكبونه من رذائل ويمارسونه من مهازل . هذا في الوقت الذي لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتدقيق بصحة قناعاتهم وصدق مسلماتهم ، حيال ما يعتقدون أنهم جديرون بحمل وتمثيل تلك المواريث من جهة ، مثلما لا يتجشمون وزر فحص وتشخيص ما تنوء به دواخلهم من عصبيات مدانة وسلوكيات مشينة ، لا تنبئ بان من يمارس هذا الضرب من المواقف والتصرفات قمين بحمله على محمل الأصالة التاريخية والعراقة الحضارية ، بقدر ما تشي بحسبانه من تلك الأقوام التي لا زالت تتخبط - دون هدى - في أطوار (توحشها) الاجتماعي و(تبربرها) الحضاري . بحيث أضاعت أصول ماضيها ، وأهملت معطيات حاضرها ، وفرطت بآفاق مستقبلها .
وهكذا يتبين لنا أن (السوابق الحضارية) – حتى ولو افترضنا إن جلها حقيقي - لا يشكل بحد ذاته وسيلة للجناة من الضياع والإنقاذ من العدم ، إذ إن كثيرا"من مواريث الشعوب والأمم كانت بمثابة (عائق) خطير حال بينها وبين النهوض من كبوتها والاستمرار في تطورها . ذلك لأن الأمر منوط لا بالوجود الفعلي لذلك الموروث من عدمه ، وإنما متعلق - بالدرجة الأساس - بالتعاطي (النقدي) مع عناصره والاستثمار (العقلاني) لمكوناته ، وهو ما يجعله سلاح ذو حدين ؛ إما أن يكون (رافعا") حضاريا"يسمو بالمجتمع إلى مدارج التطور الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والارتقاء الثقافي من جهة ، وإما أن يكون (قيدا") يشل الإرادة ويضل الوعي ، مثلما يكون (عبئا") ثقيلا"يفضي إلى العطالة الفكرية والنكوص المعرفي ! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م