الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التجريب لم يـــكن اخـــــــتيارا..!

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2022 / 12 / 11
الادب والفن


المسرح العراقي لا ينتمي إلى التأريخ
لأن الغزاة قد أحرقوا المتحف..
ولم يتبقى منه سوى شذرات تضيء هنا أو هناك، أساطير الخليقة البابلية وصرخات كلكامش وهو ينعى رحيل صديقه الأثير (أنكيدو)، وإحتفالات تموز وطقوس عاشوراء، كل هذا وغيره كان يمكن أن يؤسس لمسرح تضرب جذوره عميقاً في تأريخ الحضارة الإنسانية؛ لكن الغزاة قد أحرقوا المتحف.
وصار قدراً على المسرحيين في العراق إعادة بناء الذاكرة في أزمنة الإرتحال والتأسيس، ومع نضوج التجربة مع المسرحيين الرواد بعد رحلة ارتحال إلى فضاءات المسرح المختلفة بين أوروبا وأميركا والاتحاد السوفيتي (السابق) صار بالإمكان الحديث عن مسرح عراقي خارج حدود المتحف خوفاً عليه من غزاة قادمين.. فقد تحول المسرح إلى شعلة نار لا تنطفئ يسلمها جيل مسرحي لآخر.. وقد بدا واضحاً أن المسرحيين اختاروا صناعة التقاليد بما يتناسب مع ما في جعبتهم من أساليب في الإخراج والتمثيل والتقنيات، وبالتزامن مع نشاط حركة الترجمة التي أسهمت على نحو واضح في نقل العديد من التجارب المسرحية والنصوص الدرامية لكتاب المسرح العالمي التي تبناها عدد كبير من المسرحيين الذين تحصلوا على ثقافتهم المسرحية من الخارج، إلا أن الوضع السياسي غير المستقر في العراق بما فيه من صراعات داخلية وخارجية ألقى بظلاله على المسرح، الأمر الذي وقع معه المسرحيين في محنة الإختيار بين طرفي المعادلة السياسة في تلك المرحلة (اليسار أو اليمين ) إذ يمثل اليسار القوى الوطنية المعارضة للسلطة اليمينية التي تسعى إلى السيطرة على المجتمع ومقدرات الدولة، وبالمقابل فقد إختار اليسار بما يمتلك من مرجعيات سياسية تحشيد الطبقات الشعبية (العمال والفلاحين) وصار لزاماً على المسرحيين تأسيس خطاب يتوافق مع وعي تلك الطبقات، الأمر الذي نتج عنه تأسيس فرقة (المسرح الفني الحديث) التي سعى القائمون عليها إلى خطاب مسرحي يكون قريباً من تطلعات الجماهير، فكان لتجارب المخرج الراحل (قاسم محمد ) العائد إلى العراق بعد دراسة المسرح في موسكو ومشروعه في مسرحة الرواية معتمدا على رواية (النخلة والجيران ) للروائي الراحل (غائب طعمة فرمان) التي تحولت إلى أيقونة مسرحية يشار لها كأنموذج للمسرحية الشعبية ، فضلا عن تجارب الفنان الراحل (يوسف العاني) في الأداء العفوي الذي إقترب من وعي الطبقات الاجتماعية ، وغيرها من التجارب المسرحية التي تأسست عليها تقاليد مسرحية حقيقية، ولكنها خضعت إلى توجهات اليسار السياسي مما جعلها خصماً مباشراً للسلطة التي أدركت خطورتها وعملت على تفكيكها عن طريق تقليص الدعم المالي من جهة وإنشاء الفرقة (القومية للتمثيل) التي توفر لها دعم مادي من جهة أخرى ، وبذلك دخل المسرحيون في حقبة جديدة بوصفهم اطراف في الحركات السياسية المتصارعة ، الأمر الذي بدأت معه فكرة الهجرة تراود الكثير من المسرحيين الذي ضاقت بهم السبل وما عادوا قادرين على مواجهة السلطة التي إتخذت مسار الترغيب والترهيب في التعامل معهم، وهي حلقة أولى من حلقات الهجرة التي ستتبعها حلقات أخرى يكون طرفها المهاجر مسرحي ، وطرفها الأخر الصراع السياسي؛ وعلى الرغم من كل تلك التحولات إلا أن عدد من المسرحيين إستمروا في تقديم تجاربهم المسرحية والعودة بالعرض المسرحي إلى جمالياته ، الأمر الذي أسهم في الكشف عديد الأساليب الاخراجية، وصار معها المسرح العراقي باقة إبداعية متنوعة الألوان، إلا أن الحرب (أحرقت المتحف مرة أخرى) ودفعت بالكثير من المسرحيين إلى الهجرة بعيداً عن نيرانها ، وكأن جهنم فتحت أبوابها للعراقيين في محرقة الحرب الأبدية ، ولأن المسرح العراقي لا ينتمي للتأريخ فقد ظهر جيل مسرحي من تلك النيران المستعرة متخذاً من الحرب أسلوباً للتعبير عن معاناته ورافضاً في أحيان كثيرة لفكرة الحرب مستعيناً بالرمز أداة للتعبير عن أفكاره التي صار يخشى عليها من سلطة الرقيب التي تروج للحرب وتدعو المسرحين إلى دعمها، فكان الرمز وجهل السلطة بمعانيه هدفاً يبحث المسرحيين عنه في تجاربهم ، فاصطبغت العروض بالألوان القاتمة (أحمر أو اسود أو زيتوني) وتوزعت صور البياض تعبيراً عن رحلة الأكفان في مدن الفجيعة، وتناثرت على خشبات المسارح صور للصليب وأزياء الجنود وأحذيتهم الثقيلة وغيرها من المفردات التي شكلت أيقونات مسرحية تتجدد في كل عرض مسرحي بحثاً عن معنى مضمر لا يدركه الرقيب ويجد أثره في الجمهور المتعطش للخلاص.
لم يكن التجريب خياراً مسرحياً، بل كان اضطرارا للتعبير عن اوجاع المدن المحترقة، فصور التعبير عن الحرب لم تعد تجد أثرها عند الجمهور وسيارات نقل الشهداء تجوب شوارع المدن والأزقة بحثاً عن عائلة تمرر لها الفجيعة وهي تتخفى بألوان العلم العراقي، لذلك بدأت مرحلة التجريب هروباً من سلطة الرقيب الذي بدأ يكتشف أسرار الخطاب المسرحي، ويكون أكثر قسوة على ما يضمره المسرحيون.
(التجريب والجوع والهجرة) ثلاثية لازمت المسرح العراقي في حقبة الحصار الاقتصادي، لكن المسرح ظل حاضراً لأنه رفض الركون إلى المتحف ، فقد تحولت المقاهي إلى تجمعات سرية للمسرحيين يناقشون المسرح وكأنه الخلاص، يبحثون عن سبل للهجرة بالمسرح وكأنه بيتهم الأنيس الذي لا يريدون هجره، ومع قساوة الحصار وقسوة السلطة ورقيبها كان المسرحيون أشد إصراراً على الاستمرار في التجربة المسرحية التي صارت متنفساً لهم ، وبخاصة ما تبلور في ذلك البيت البغدادي العتيق (منتدى المسرح) الذي كان قد تأسس في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت السلطة تطمح إلى احتواء المسرحيين فيه والسيطرة على مشاكساتهم الإبداعية، إلا أنه تحول في التسعينيات إلى مرجل للإبداع الرافض؛ مع تجارب العديد من المسرحيين التي كان لها أثر كبير في الإبقاء على نار المسرح العراقي مشتعلة ، فقد كانت تمثل فعل المقاومة الحقيقية لكثير من المسرحيين، إلا انها دفعت في الوقت نفسه عدد غير قليل منهم إلى الهجرة هروباً من بطش السلطة أو من جوع الحصار القاتل، وهي موجة أخرى من الهجرة ستتبعها هجرات كثيرة للمسرحيين العراقيين لأسباب مختلفة مرجعها الأساس الظروف السياسية والاقتصادية التي تسيطر على هذا العراق الذي بدأت ملامح التغيير تتكشف فيه بعد أن أطاحت القوات المتحالفة بنظامه عام 2003، في سابقة خطيرة قسمّت المجتمع العراقي إلى طوائف وقوميات ومذاهب وإثنيات، وهي أسباب كثيرة دفعت بعدد جديد من المسرحيين إلى الهجرة، كشفت هذه المرحلة عن ثنائيات ضدية عديدة عاشها المسرح في العراق عبر سنوات طويلة تمثلت بـ (الهجرة / الولادة) فما أن تظهر على السطح بوادر لهجرة جديدة من المسرحيين حتى يعتقد المراقبون للشأن الثقافي والمسرحي أن الفعل المسرحي قد يتلاشى حتى يولد جيل مسرحي جديد يحمل راية المسرح ويدافع عن جمرة البقاء، وهو ما نجده مع جيل المسرح العراقي بعد عام (2003) الذي تحمل عبئه عدد من المسرحيين الشباب يرافقهم جيل مسرحي قرر البقاء في العراق لأسباب مختلفة، هذا الجيل المسرحي الذي تصدى لعديد الموضوعات التي كان مسكوتاً عنها وصار البوح على الخشبة شبيها بما تتداوله حكايا الازقة والمقاهي، جيل مسرحي رافض للقواعد والقوانين السابقة، لا يؤمن بأن اللغة الملفوظة (الفصحى) هي الأداة الأنجع للتواصل، بل راح يفتش عن لغته الخاصة لغة تنتمي للمقاهي والطرقات وبدأ بجرجرتها إلى خشبة المسرح، جيل مسرحي واجه صدمة الحرب وحرية التعبير مع وسائل التواصل والتكنولوجيا وأجهزة (الستالايت) التي كانت تؤدي بصاحبها إلى الموت في الزمن السابق، صارت اليوم مباحة للجميع .
كل من كان يراقب الحالة العراقية يكتشف أن هذا البلد كان يقف على مرجل من نار يمكن أن ينفجر في أي لحظة ، وهو ما حصل مع انفجار أول سيارة مفخخة لإنتحاري قرر الذهاب للقاء الحور العين عبر بوابة الجهاد في العراق، ومع تلك الجنة الموعودة تشكلت ثنائية جديدة (هجرة/جنة) فالشباب المسرحي وغير المسرحي يهاجر بلاده بحثاً عن حياة آمنة والانتحاريون يبتكرون الطرق والسبل للدخول إلى العراق طمعاً بالجنة التي ستوفرها أجساد الأبرياء التي تقطعها سياراتهم المفخخة، أي جحيم نعيش فيه وأي مسرح يمكن أن نصنع ، اشتعلت الحرب الطائفية وبدأ المسرحيون يتلمسون طرقاتهم خوفاً من قاتل متطفل يتخفى بطائفة من هنا أو من هناك ؛ والمسرحي كائن بريء يحب الحياة ويرفض ثقافة التصفيات الجسدية، رافضاً لكل أساليب الموت سواء تلك التي تكونت عبر سيارات الانتحاريين المفخخة أو تلك التي تسطرها حالات الجثث المجهولة الهوية التي امتلأت بها دوائر الطب العدلي ، وصار معها العرض المسرحي العراقي خشناً قاسياً في التعبير عن وقائع اليوم الدامي الذي صارت أيام الأسبوع تسمى بإسمه ، صرنا نتلمس العذر من المسرحيين العرب عندما نرحل إليهم بتجاربنا التي لم يتقبلوا ما فيها من وجع وألم وجراح مفتوحة، وفقدٍ مستمر للأحبة سواء بالهجرة أو بالاختفاء القسري أو الدفن المجهول، هذا هو المسرح العراقي وهذه هي رحلة المسرحيين فيه من جيل إلى جيل وصولاً إلى جيل لم تضمد جراحه بعد ولكنهم مستمرون بالمحاولة، أسماء تبتكر مسرحاً هنا وتضيء شمعة هناك، حتى في المهجر البعيد نراقب المسرحيين العراقيين وهم يشعلون نار مسرحهم .. بالجسد الحر والتعبير وسجادة تناقلتها العروض المسرحية وثياب متشحة بالسواد تعبيراً مضمراً عن فجيعة مستمرة، تكشفت ملامحها مع الهجرة الأخيرة للمسرحيين الهاربين من التطرف والفساد المنظم وهجوم الانتحاريين ومشاهد القتل الجماعي للشباب في مجزرة (سبايكر) وغيرها من الفجائع التي صارت تهدد حياتهم فقرروا الارتحال هروباً عبر زوارق الموت إلى الخلاص المجهول، منهم من تلاقفته الحياة هناك ومنهم من احتضنه البحر الابدي، نار مسرحية مشتعلة في كل فضاءات الدنيا أنتم أيها المسرحيون العراقيون أينما كنتم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة