الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


*كحل العين!

لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)

2022 / 12 / 12
الادب والفن


-إضاءة سردية من سيرة ذاتية : لخضر خلفاوي*
——
* … لمّا تمّ مناداتي من خلال القائمة الإسمية التي جاء بها عسكري من القوات الخاصة التي تحرس المعتقل ، تقدّمت نحو الممرّ باتجاه الساحة المؤدية إلى "البارلوار - parloir “ .. هي قاعة كبيرة مؤمّنة و مدججة بالعساكر و رجال الدرك مجهزين بالسلاح الرشّاش و المُسدّسات و الأصفاد. القاعة هي فضاء خُصّص لزوار المساجين من العوائل و الرفقة القادمين من كل جهات الوطن إلى معتقلنا هذا في الجنوب.. كان يفصل الزُّوّار من العوائل و المعتقلين سياج كبير ينطلق من أرضية القاعة الكبيرة على كامل طولها إلى غاية السقف …لما خرجت لملاقاة والدي كنتُ لم انتبه وقتها بأني انطلقتُ جريا ، لاهثا من منطقة مخيمات الاعتقال باتجاه مباني إدارة المعتقل و أنا في كامل زينتي و لأوّل مرّة مُكحّل العينين ؛ هو ليس بيوم عادٍ بعد شهر أو يزيد من الانتظار يفصل كل زيارة مسموحة من قبل إدارة المعتقل العسكرية … مثلتُ واقفا وراء سياج قاعة الزيارات المؤمَّنة للمعتقل*1 ، أبحث عن والدي كمن يبحث عن إبرة في كومة للتّبن و ذلك لصعوبة الرؤية بحكم اكتظاظ الزوار و المزارين من المعتقلين الذين كتب لهم أن يحضر إليهم أهاليهم و عوائلهم لزيارتهم و الاطمئنان عليهم و تزويدهم بالمؤن و ما يحتاجونه من أساسيات في حياتهم اليومية .. ضجيج المكان المهول صعّب علي مهمّة العثور على شبح يشبه أبي ، فثقوب السّياج الحديدي يشوّش عليّ الرؤية مع أهوال النداءات و الصراخ و البكاء و حتّى النحيب. لكن سمعي استرق صوت والدي و هو يناديني ، كنتُ أقول ربما هو صوت أبي الذي اصطحبني إلى المُعتقل مذ وهلة الاعتقال الأولى و كان نائما بداخلي أو هيّئ إليّ بأنه استيقظ .. لقد أصابني نظر والدي قبل أن يصيبه نظري أنا ؛ ألم يخبروني في هذا المعتقل بأن ( الكَحل معروف عنه بتحسين رؤية العيون و يعمل على علاجها من أمراض كثيرة منها الرّمد بالإضافة إلى مفعول الزينة!؟)، يبدو في تلك الأثناء و اللحظات الدرامية أنّ عين الوالد كانت أبلغ و أثقب و أجحظ من أسطورة "مكاحيل المعتقل" و ما حكته لي أفواه بعضهم من السلفيين و المتديّنين و من كل المشارب و التيارات ! نعم .. كان يبدو قلب والدي أنّه استبق الرؤية و رآني قبل أن يُفتح له طرف عين .. في هكذا مكان عند كل زيارة تجهش القلوب ألما فتفضحها دموع العوائل و الأطفال و الزوجات القادمين للزيارة.
-تزحزحت منتشيا ، مضطربا ، مرتبكاً من بين الصفوف المزاحمة لي من زملائي المعتقلين و كأنه يوم الحشر و انحشرتُ في الزاوية الضيقة التي فُزتُ بعد جهد جهيد في التسللّ بين الاجساد المنهكة بالفقد و الحيف و الظلم .. قادني إليها صوت أبي : ( فيصل ! فيصل !فيصل ! من هنا ، من هنا اقترب من هنا يا ولدي !!!)…
كنّت فاقدا للصوت للمرة الثانية مندهشا رغم أنّي أعلمُ بأنّي أُختِرتُ لأكون صوتا مُسكَتاً بلغة الحديد و الإبعاد ضمن العشرات من الآلاف من الأصوات الأخرى في الصحراء الكبرى للجزائر التي كانت تُزعج السلطة العسكرية الانقلابية أنذاك .. كانت لا تسعني الفرحة فأحزاني وقتها كانت أكبر بكثير ، بل تعادل مساحة الجزائر مع السودان و ليبيا ؛ فللحزن عندي جغرافيته أيضا .. كنتُ أمثُلُ واقفا خلف ذلك السياج اللّعين الذي يستحق الرّجم بِكل حصيّات رمل بلادي ، ذلك الفاصل العازل أقابل فيه انتصابة أبي المتشبّث به بكلتا يديه المرتعشتين و هو يحمل لي تلك الابتسامة و اشتمّ من خلالها ريح الحرية التي اغتصبوها مني و أنا أشارف العشرين من العمر ! كان والدي مشدوها ، فرحا و هو يكلمني و لا يكاد أن يسدي لطرف عينيه ذرة واحدة ، كان يحدثني دون أن يرمش للحظات مثبتا نظره في بشغف و قلق و انفعال و بانبهار و هو يراني مكحّل العينين .. ( هل أخضعوكم للتعذيب و الإهانة ، هل يسيئون معاملتكم و لا يتوقفون على قهركم يوميا كما وصلنا بالخارج من أخبار مرعبة و مقلقة !؟؟).. كان والدي و هو لا يتوقّف عن التحديق في يمطرني بوابل من الأسئلة مُبدياً قلقه الشّديد عليّ !
-لكنّي فهمت دون أن يسأل أو يشيرَ هو بذلك كأن يسألني لائما أو موبّخا: ( مالي أراك يا ولدي كحريمنا هناك تتزيّن بوضع الكحل على عينيك ، ما الذي أصابكَ !) .. كان الأمر بالنسبة له سابقة في تقاليد قبيلتي و جهتي المحافظة .. طامة اعتقالي الظالم جعلته يتجاوز تفصيل ( تكحيل عيوني ) فتواصل و واصل معي اللقاء و الزّمن كان يهرول من عمر الزيارة … دون أن انتبه اختفى أبي مع ( الساعة الرّملية ) التي انقلبت في دقائق إلى عقبها و الحاجز السلكي المعدني يضَبِّبُ لي مجددا أخيلة الشخوص المقابلة في الضفة الأخرى من ( الجدار أو السياج العازل بين الأرحام !) ، عدت خائبا و قلبي به رَمدُ المشاعر و نزف كبير ، كأنّ مجيء أبي لزيارتي في هذا الْيَوْم لم يكن إلا "أضغاث لئام الوطن" الذين انتزعوا مني حُرّيتي و حربتي ( قلمي الحرّ!) بسبب ( كلمة ) كتبت و قيلت في زمن فاسد بدأ يتعفّن ! . أضغاث جثمت على أغلى أحلام شاب كان طموحا يتفحّر إبداعًا في كل الاتجاهات !..
-عدت أدراج المخيّم و خطان أسودان متوازيان منحدران من حواف عينيّ ، كل خط له عين رأت ما لم يرَ في حياة المعتقل بكل حيف الدّنيا .. و بجانبه أذنٌ سمعت كل موبقات الهمّ الجزائري و له منخار ، و نصيب من شفتين غائرتين متشققتين بسبب جفاف الحب في زمن الاعتقال و الانقلابات و مصادرة الحرّيات الفردية الدستورية و له نصيب من ذقن يصلُ إلى نهاية منحدره سيلا من الحبر الأسود ينهمر دون توقّف! هال المشهد زملائي المساجين المعتقلين في المخيم و أنا أدخل عليهم بسيلين أسودين ينحدران بغزارة القهر و الأسى من عيني .. لقد جمّل ذلك الكحل عيني قبل زيارة أبي و أخذ فديتهُ سريعا عند مغادرته بدقائق و أنا ما زلت أسمح حثيث نعاله المنصرفة .. كانت دموعي تشبه دموعَ نبيٍّ تخلّى عنه قومه و غدروا به أو كأنها دموع إله إغريقي أخفق في تأليف أسطورة تؤسر المؤمنين به .. كنّت أمسح دموعي من على وجهي بذات اليمين و ذات الشّمال كما الأطفال الأيتام عند باب ( ملجأ الأيتام ) في القرون الماضية و كلما مسحتها انتشرَ أكثر ذلك السواد المالح الحار على سمرة بشرتي فيجوب مُطلى باقي تفاصيل سحنتي حينها يضحكُ زملائي من مشهد يومٍ كَحيل عظيم انعكسَ على وجهي الذي سوّده الحزن و هو قبل لحظات من الزّيارة كان مشرقا بأمل لقاء "أصلي" القادم من الحرية بتخوم الأوراس .. كان والدي الذي عاد من حيث جاء ، تاركا الجنوب و الرمال ليطوي عائدا مئات الكيلومترات طيا نحو التّل و أنا على أمل أن يأتيني لزيارتي بعد شهر أو شهرين؛ لكني كنتُ أعي يقينا أنه لن يستطيع طي صفحة سوداء من صفحات الجزائر السوداء في فترة سوداء و مخزية ، حزني و حزن أبي شقيقان لا يمحيان بالتقادم …").
********************
—-باريس الكُبرى جنوبا (11/12/22)
*1: معتقل ( سعيد عتبة ، ولاية ورقلة - الجزائر 1992)
- مقتبس من فصل من فصول رواية سردية توثيقية ( شاهدة على العصر ) كتبت في القرن الماضي و مازالت تثير الإرباك و الحرج و التخوف لدى معظم دور النشر التقليدية المعروفة عربيا و كذاك الدور الجديدة المتكاثرة في كل وادٍ و تُجابه إما بالصمت أو بالرفض !.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان