الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( إخوان الصفا ) وعناقيد العنب المخمورة

ابراهيم زهوري

2022 / 12 / 12
الادب والفن


عند سفوح جبل الشيخ وفوق أسطح بيوت القرية الوادعة ( بوقعسم ) كانت سرية الدفاع الجوي التي أخدم فيها والتي تتبع جيش التحرير الفلسطيني تتمركز برشاشاتها الثقيلة المضادة للطيران وتشكل دائرة مكتملة على قمة التلة تحيط بها من كل صوب الخنادق ومهاجع الجنود إضافة إلى كل أنواع الأشجار المثمرة من كرز وتفاح وبعض الخضروات المزروعة في مساحة أرض ضيقة تسكنها العزلة .. بالرغم من أن طيران العدو في الجانب الآخر من سلسلة جبال حرمون يزورنا يوميا على إرتفاع عالي جدا ويقوم بكل مهامه مطمئنا ً لأنه خارج مدى إطلاق نيراننا ... كنت في الحال أقوم بوظيفتي ألا وهي تسجيل ميعاد طلعة الإستطلاع هذه، والوقت الذي تستغرقه والجهة التي إنطلقت منها والجهة التي تعدو إليها ... كانت المهمة سهلة بالطبع حتى أن طواقم الرشاشات من الجنود بدأوا بالإعتياد عليها حينا وتجاهلها أحيانا أخرى ... وذلك بالإنصراف كل واحد فينا إلى القيام بأحد الأعمال اليومية المفيدة بالنسبة للعساكر الذين يحلمون كيف سينقضي هذا الوقت العصيب ويعودون إلى فضاء الحياة المدنية ... لذلك كل واحد فيهم وأنا منهم ينشغل بالقيام بمهماته المعيشية ... احدهم يجمع ما يتبقى من الخبز اليابس وما توفر من لوازم المونة وعلب التخزين وينزل السفح رغم قسوته ويعقد صفقة بيع وشراء من الدكان الوحيد أسفل الموقع في الشارع الرئيسي للقرية والتي تديره إمرأة قوية قادمة من لبنان ... وآخرون يطلبون الإذن لزيارة أصدقاء لهم في موقع آخر على القمة ... والبعض يجتمعون على لعبة ورق داخل المهجع المصنوع من كتلة إسمنتية كبيرة أشبه بالمجرور الصحي منغرسا داخل السفح مثل مغارة ينعدم فيها الضوء ... هكذا يمر الوقت نحاول نحر الضجر بما نملك من وسائل بسيطة رغم قهقهاتنا و صرخاتنا من حين لآخر و هي تشق صدر صمت المكان المترامي الأطراف ... حتى أن أحدهم من شدة سكره وثمالته من أثر العرق أو الحشيش يخرج أمام باب المهجع نصف عاري ويطلق الرصاص من بندقيته فرحا منتشيا َ بما سلبه من أموال قوافل التهريب التي تسلك على البغال طريق موقعنا متسللة ليلا ، وأنا الذي لا هواية له بلعب الورق أو بشراهة متعة التدخين .. أنصرف إلى كتبي المرمية داخل الحقيبة الظهرية آخذ أحد هذه الكتب التي تتحدث عن تاريخ سورية وفلسطين في القرن الثامن عشر بقلم سفير روسي كان يقوم بوظيفته في بيروت ... لذلك كنت أسمح للخيال من خلال القراءة المتأنية وأنا على علو شاهق جالسا على صخرة يلفحني نسيم الوطن المحتل وأنطرب لغناء الراعي وصوت نايه العذب وصوت خلاخيل وأجراس الكبش الذي يقود القطيع في هذا التجوال الممتع أشعر بسكينة هائلة تغمرني وتجتاح هواجسي القلقة
أتحسس بظلال الأمكنة المحيطة عن بطولات ( بني معروف ) أثناء حملة إبراهيم باشا المصري تأخذني أسطر الكتاب و أرهف السمع لوقائع معارك الفرسان والخيالة حين يرفضون التجنيد الإجباري العثماني واللحمة القوية في حراسة المكان والدفاع عنه ، وعندما تأتي لحظة الكفاية من القراءة والإستغراق أطوي صفحات الكتاب وألملم ما تبقى من أغراضي ... إبريق الشاي والكأس والبطانية والبندقية الرشاشة ذات الأخمص الخشبي أرفعها على كتفي وأمضي في طريق عودتي فوق الصخر أصنع من خطواتي الحذرة دوائر لا تنتهي ..قفزة هنا وقفزة هناك.. كأنني في لعبة أطفال أو كأنني مثل وعل يحتفي بشروق الشمس ألتقط مبتسما وفرة غنائمي من أزهار النرجس الأصفر والأبيض الذي ينبثق من التراب الممتزج بحصى الصخر المفتت ... باقة النرجس الجبلي تتموضع في نهاية المطاف في جوف خوذة جندي فارق الحياة مبكرا حيث إلتهمته الضباع المفترسة حين أضاع طريق عودته الوعر أثناء عاصفة ثلجية قاسية فلم يتبق منه غير الهيكل العظمي وسلسلة رقمه العسكري المصنوعة من معدن الصفيح .
Nürnberg
11/12/2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة