الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أريان منوشكين ومسرحية -الجزيرة الذهبية-

علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)

2022 / 12 / 13
الادب والفن


بحقيبة سفر صغيرة تُوضع على الظهر، سافرت الشابة أريان منوشكين بباخرة منطلقة من ميناء مرسيليا في فرنسا الى ميناء يوكوهاما في اليابان. كان ذلك في عام 1963 ومنذ ذلك الوقت، وهي في شغف تام بالثقافة الشرقية عامة والمسرح الياباني، وخاصة مسرح "النو" و "الكابوكي". وفي اليابان توجد جزيرة صغيرة لها تاريخ خاص ومؤثر جداً، وهي جزيرة "سادو" حيث تم نفي المثقفين والفنانين، بما في ذلك ممثل مسرح "النو" الشهير، آنذاك، زيمي موتوكيو في أعوام 1363-1443 . هذه الجزيرة هي المُستعارة في مسرحية منوشكين الأخيرة والمسمّاة "الجزيرة الذهبية"، أي جزيرة الاحلام والفنتازيا والواقع الآخر، تُعرض هذه المسرحية في مسرح الشمس الذي قامت بتأسيسه منوشكين بمشاركة عدد من الفنانيين منذ ستين عاماً. هذا التمهيد سيكون مهم ومفيد لفهم العرض المسرحي.

على عادة مسرح الشمس، يأخذ تأليف المسرحية الجماعي وقتاً طويلاً بين إختيار الموضوع أو الموضوعات وبين الاتفاق النهائي حولها، ثم الشروع بالنقاش حول طاولة مستديرة، ومن ثم البدء بكتابة المحاور الأساسية، ثم يطلق للممثليين حرية الإرتجال خلال التمرينات للوصول الى نص مسرحي نهائي تقوم الكاتبة هيلين سيكسوس بتنسيق مشاهده وكتابته. تقول سيكسوس في مستهل مقدمتها لهذه المسرحية " كم كنا مريضين من ماحولنا من رداءة، ومن إنحطاط، وكم كنا، جميعاً، مرضى في كلّ أنحاء العالم ، من (الخوف) والجبن ، ومن تسميم الحقيقة ، ومن المُهربين المتاجرين بالضمائر والعلوم، المثيرون للشفقة ، ومن تواطؤ السلطات مع جميع قوى الدمار، ومن الإنهيار المتعمد للغة التواصل، ومن السقوط الهائل للأنوار في قمع الظلام!". من هذا الواقع المعتم والخانق ينبثق، إذن، الحلم في جزيرة نائية خالية من أمراض الخوف والجبن والانحطاط والتواطؤ الوضيع. حلمٌ بجزيرة يتعايش الإنسان فيها بلغة لا لبس فيها، وبآمال تعبّد طريق الآخرين نحو حياة أفضل. حلمٌ "بجزيرة ذهبية" بعيدة عن الجوار.

هذه المسرحية، لها سرديات متعددة ومختلفة، إنما هي تطمح أن تعبر أسوار الواقع الفرنسي المستكينة، سياسيا وإجتماعيا، نحو فضاءات من أحلام مفتوحة على الحرية وعلى السلام، مروراً بمجتمعات تناضل من أجل حياة أفضل. فالمسرحية تبدأ بشخصية كورنيليا المريضة، وغالباً ما تكون هذه طريحة الفراش وتساعدها ممرضة. إلاّ أن أحلامها تتزاحم على المسرح الواسع مرددةً صدى فضائح ومشاكل عالمنا المعاصر. أحلامٌ تحاول أن تعطي صوتاً لمن فقد صوته، والى أولائك الذين يقفون بوجه الظلم، والى المحاربين بشجاعة من أجل حريتهم وكرامتهم، على الرغم من أن ذلك غالبا ما يكون على حساب حياتهم. احلامٌ تجعل الموسيقى والشعر مسموعة في كل مكان عبر مجموعة من قصص صغيرة غير مترابطة وغير متجانسة عن الحب، والتواطؤ، والحرية، والوحدة والمسرح. وبلغات متعددة فتسمع الفرنسية، والإنجليزية، والصينية، واليابانية، والأفغانية والعربية والعبرية بإطار من الفكاهة والمرح وبأجواء تعكس المجتمعات التي مثلتها اللغات المختلفة. جميع هذه اللغات كانت تترجم الى الفرنسية.

كانت مشهدية المسرح، "السينوغرافيا"، هي عرض فني قائم بذاته ومكتفي بجمالياته، فالديكور كان يتغير مع كل سرديّة بما يناسبها من إضاءة والوان وإكسسوارات بمرافقة موسيقى قادمة من عمق الشرق، مما يجعل آليات تغيير هذه المشهدية عرضا فنيا، يقترب بانسيابه وإتقانه وجمالياته، من الاوبرا. ولا بد من الإشارة الى أن إدارة منوشكين لهذا التغيير الجمالي السلس ولإدارة المسرح والممثلين يُعدّ نموذجا فنياً فذّاً. فهي بإدارتها لمسرح الشمس حافظت على مدى هذه السنوات وبمختلف العروض المسرحية على أن يكون المسرح طليعياً، وأن يُقذَم أعماله ضمن هذا الإطار. أما مجموعة الممثلين فقد أدّت أدوارها بشكل ساحر ومذهل كمجموعة، أما على انفراد، فكان كل ممثل يمنح زخماً خاصاً لمزاج ورح المشهد الذي يتواجد فيه. وكان تجانس فريق العمل يفيض الى صالة العرض بجاذبية المتابعة. أما العرض المسرحي، كما هو بتكامله، فإني أراه أقرب الى مفهوم "الفرجة" كما حددّها بعض مسرحيّي المغرب العربي (من المغرب، والجزائر وتونس)، خاصة وإن الإطار العام للعرض يبدو جدياً مع كثير من روح المرح والفكاهة، مما يُقرّب المسافة بين المسرح والجمهور.

مدّة العرض المسرحي تستغرق ساعتان وخمسة واربعون دقيقة، أي أنها تدوم أكثر بقليل، من مؤتمرات القمة العربية التي تنظمها جامعة الدول العربية. ويعتمد العرض المؤلف من لوحات مشهدية قصيره، الى حد ما، على روح وأسلوب مسرح "النو" و"الكابوكي" الياباني حيث كان جميع الممثلون يرتدون أقنعة متنوعة بإستثناء كورنيليا المريضة والمنتجة لهذا الحلم أو سلسلة الاحلام المتناقضة. مع ملاحظة أن إخراج المشاهد المسرحية مصاغاً بإسلوب عرض برختية (نسبة الى برتولت بريخت) غاية بالحرفية والجمال. مع أن لديّ شعور بأن بعض لوحات المسرحية أعيد تضمينها في جسم العمل مع تغييرات طفيفة، لا تمنع التكرار، وبشكل يبدو سلس، ولكنه في الواقع مستتر. ربما يعود ذلك لطول مدة العرض المسرحي.

إذن فإن عرض "الجزيرة الذهبية" للمبدعة أريان منوشكين كان نموذجياً وطليعيآ حقاً من الناحيتين الفنية والإبداعية، غير أن لي بعض التحفظات على الجوانب الفكرية من العمل. إن الإشارة الي قيم متفرقة مثل الحرية والسلام والعدالة والسعادة في أماكن مختلفة من العالم تُعدّ فعلاً إيجابيا بذاته، (ولحسن الحظ لم تذكر حقوق الإنسان التي يُسوّط بها العالم الثالث وكل من يخالف المصالح الغربية). ولكن أن تُذكر هذه القيم بطريقة تجعلها امتداداً واستمراراً للخطاب الغربي والميديا الغربية المبنية على مصالح وغنائم سياسية فهو أمر يجعلني في موقف آخر، لان ذلك أولاً يتناقض والمقدمة التمهيدية المذكورة آنفا للسيدة هيلين سيكسوس ويقف بالضد من قيم ومبادئ ما هو طليعي في المسرح، فناً وفكراً (avant-garde ). كان يمكن تبني هذه القيم "كمواقف للدفاع" عن سبب غياب هذه القيم من تلك البلدان (المذكورة في العرض المسرحي) وليس التحريض ضد البلدان ذاتها. إن فقدان المسبّب والمبرّر لغياب القيم المذكورة من بعض بلدان الجنوب (العالم الثالث)، والإمتناع عن ذكر البلدان الغربية التي تضمن تواطؤ وبقاء السلطات الحاكمة في هكذا بلدان يجعل من هذا الخطاب مثالاً بارزاً للخطاب المُستسهل والمتعالي الغربي المرفوض. ولنأخذ مثلاً لمضامين ثلاث مشاهد متفرقة من العرض المسرحي:

المشهد الأول، يتمحور حول المطالبة بمنح الحرية التامة لهونج كونج بما في ذلك حرية التعبير طبعاً. أي أن هذه المطالب ليست موجهة تماماً الى حكومة هونج كونج، بل إنها موجهة الي الصين التي تحكم هونج كونج. مع ملاحظة أن من مهمات المسرح الأساسية هي الدفاع عن الإنسان أينما كان، عن وجوده، وعن حريته، وعن حياته وعن سعادته، ولكن ليس من واجب المسرح أن يكون ذراع لقوى تقدم ذرائع - تبدو منطقية - ولكنها هدّامة في المجتمع المقصود.

والمشهد الثاني، مشهد قصير بين عربي (ولم يُذكر كفلسطيني) وزوجته الإسرائيلية في حديث شائك وغاضب، أحياناً، حول سيناريو مسرحية ينتهي بإتهام الرجل لزوجته بأنها عنيدة "كنتنياهو"، وهي تتهمه بكونه لا يختلف عن "حماس"، وينتهي المشهد بأن يتعانق الاثنان بودّ ومحبة ويخرجان من المسرح. لا أعتقد بأننا يمكن أولاً ان نعادل مشكلة الحرية في هونج كونج بأطول وأعقد مشكلة سياسية، وإجتماعية وإنسانية في التاريخ الحديث، وأعني بها مشكلة فلسطين التي غاب حتى إسمها ولم يُذكر على المسرح. زيادة على ذلك فإن القضية الفلسطينية، بالتلميح السطحي لها بهذا المشهد، تتمركز فقط في "غزّة" وليست القدس الشرقية والضفة الغربية من الأراضي الفلسطينية؟ قد يبدو هذا الكلام سياسيا صرفاً، ولكن اليس هذا المسرح في جوهره سياسياً حين يحلم بجزيرة فيها الحرية والعدالة والسعادة، الخ، الي جميع البشر؟ يقول برتولت بريخت " لا تحاول أن تصف ما يحدث بإستمرار بإعتباره طبيعياً، لإن في مثل هذه الأزمنة من الإرتباك الدموي، والفوضى المستقرة، ومن التعسف المخطط له، ومن الإنسانية المنزوعة الإنسانية، لا شيء يُقال بشكل طبيعي، من أجل أن تظهر الأمور على أنها غير قابلة للتغيير".


أما المشهد الثالث. فهو مشهد العربي القادم على ظهر جمل. وبغض النظر عن المضمون المراد من المشهد فإنه نموذجآً ساذجاً وضحلاً ونمطياً لما يطرحه الغرب لصورة العربي منذ وعد بلفور.

يقول المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي أدجار موران " إن هذه الإنسانية الجديدة التي في طور الولادة يجب أن تكون إنسانية مبنية على الحوار والنقاش. وهذا متعب للغاية، ولكنه مثير للغاية في ذات الوقت، لإن ذلك هو مصدر الحياة". إن تبني مواقف لكشف الخلل وتبني قضايا الشعوب في تحقيق قيم أساسية كالحرية والسلام الاجتماعي هو النافذة الحقيقية التي تجعل من المسرح طليعياً بمعناه الواسع. لأن ذلك يعني الخروج من الصندوق المغلق ومن الأفكار والأحكام الجاهزة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا