الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2022 / 12 / 15
الطب , والعلوم


«الولايات المتّحدة قد حقّقتْ إختراقًا علميًا عظيمًا». بهذه الكُلَيْماتِ السَّبع أعلنتْ وزيرةُ الطّاقة الأميركيّة إعلانًا يُعيدُ إلى الأذهان الكلمات الأولى التي نطقَ بها الإنسانُ على سطح كوكبٍ غير كوكبِ الأرض؛ «إنّي أراها بُرتقالةً زرقاء». وليسَ من باب الشَّاعريّة والأدب أن نستحضرَ الخطوةَ الأولى للإنسان على سطح القمر مع إعلان وزيرة الطّاقة الأميركيّة عن «الإختراق العلمي العظيم» في مجال الطاقة المتولّدة عن الإندماج النُّووي. إنّما نستحضرُ خطوةَ آرمسترونغ اليوم لأنّ هذا «الإختراق العلمي العظيم» يقول لنا بعبارةٍ انتظرَها الإنسانُ طويلًا؛ «ستغدو الرحلةُ إلى القمر نُزهةً في حديقة منزلكُم الأرض.. سيغدو الكونُ كوكبًا ذاتَ يوم».

بعيدًا عن الشّاعريّة، التي لا تخلو قوانين العلم ومبادئه من لمساتِها، شكّل إعلانُ وزارةِ الطّاقةِ الأميركيّة ثورةً حقيقيّةً في مجال الطّاقة؛ حيثُ أنّ علماءَ في «مُختبر لورانس ليفرمور الوطني» التّابع لجامعة كاليفورنيا قد استطاعوا، من خلال الإندماج النُّووي، إنتاج كميّة من الطّاقة أكبر من كميّة الطّاقة التي استُعملتْ لتحقيق هذا الإندماج. وكما أشارتْ وزيرة الطّاقة الأميركيّة فإنّ الإستثمار من القطاع الخاصّ وحدَه، في مجال توليد الطّاقة عبر الإندماج النُّووي، قد بلغَ ثلاثة مليارات دولارٍ في العام الماضي فقط، وتُشير التقارير إلى أنّ عقدًا من الزّمن على الأقل يفصلُنا عن الإستفادة من هذا الإنجاز الهائل. فما هو الإندماج النُّووي؟ وما الذي يجعلُه هائلًا إلى هذا الحدّ؟

سنُسافرُ الآن، ولصفحتَيْن لا أكثر، إلى ذرّةٍ نترُكُ للقارئ أن يختارَها؛ تتشكّلُ كلُّ ذرّةٍ من نُواةٍ (Nucleus) وغيمةِ إلكترونات (Electron cloud)، وتضمُّ النُّواةُ عددًا مُحددًا من البروتونات (Protons)، ذات الشُّحنة الموجبة، والنيوترونات (Neutrons) المُحايدة، أي التي لا تحملُ أيّةَ شُحنة. وتربطُ النيوترونات مع البروتونات داخلَ النُّواة طاقةٌ تُسمّى «طاقة الربط/ الترابط النُوويّة». أمّا غيمةُ الإلكترونات فهي المِساحةُ التي تدورُ فيها الإلكترونات (Electrons)، ذات الشُّحنة السالبة، حول الذرّة. تُسمّى البروتونات والنيوترونات والإلكترونات بـ «الجُسَيْمات دون الذرّيّة» (Subatomic Particles)، ويُسمّى عددُ البروتونات في كُلِّ نُواة بـ «العدد الذرّي» (Atomic Number) ويُرمَزُ له بالـ «Z»، وهو عددٌ ثابتٌ لكُلِّ عُنصرٍ من العناصر الكيميائيّة وهو الذي يُحدّدُ هُويّةَ هذا العُنصُر. على سبيل المِثال؛ إنّ العدد الذرّي للهيدروجين هو 1، أي أنّ العُنصر حتّى يكون هيدروجينًا لا بُدَّ أن يُساوي عددُه الذرّي الرقمَ واحد؛ Z=1. وللعناصر الكيميائيّة «نظائرُ» (Isotopes) يُمكن تعريفُها على الشكل التالي؛ إنّ نظائر العُنصر الكيميائي هي ذرّاتٌ للعنصر نفسِه، لها نفس العدد الذرّي ولكنّها تختلف من حيث «الكُتلة الذريّة» (Atomic Mass) التي يُرمَز لها بـ «A». والكُتلة الذريّة يُمكن احتسابُها وِفقَ القاعدة التالية؛ A=Z+N، أيّ أنّ الكُتلة الذريّة تُساوي عدد البروتونات(Z) زائد عدد النيوترونات (N).

إنّ التفاعلات الأساسيّة التي تحدثُ على المستوى الذرّي هي اثنتان؛ الإنشطار (Fission) والإندماج (Fussion). وكما يوحي إسماهُما؛ الإنشطار هو أن تنشطِرَ/ تنقسمَ الذرّةُ إلى جُزأينِ أو أكثر، مُطلقةً بذلك طاقةً هائلة ناتجةً عن إبتعاد النيوترونات عن البروتونات نتيجة الإنشطار. هذه الطّاقة هي التي تُعرفُ بالطّاقة النُوويّة المُستخدمة اليوم في المُفاعلات النّووية السلميّة، وهي التي استُخدمتْ في تفجير هيروشيما النُّووي. وتكمنُ الخطورة في توليد الطّاقة من خلال الإنشطار النُووي في أنّ الإنشطار النُّووي يستخدمُ عناصر مُشعّة (Radioactive elements) مثل اليورانيوم، والتي تحملُ خطرًا كبيرًا على الإنسان إذا تعرّضَ لإشعاعِها. وعمومًا فإنّ العناصر التي تمتلكُ عددًا ذريًّا أكبر من 83 تُعتبرُ عناصرَ مُشعّةً. وممّا يزيدُ العناصر المُشعّة خطورةً هو أنّها تحتاجُ وقتًا طويلًا حتّى تفقدَ نشاطَها الإشعاعي؛ وعلى سبيل المِثال فإنّ اليورانيوم ذات الوزن الذرّي 238 يحتاج إلى حوالي 4.5 مليار سنة حتى يفقد نصف نشاطه الإشعاعي، وهذا ما يُعرف بـ «عمر النصف» (Half Life). يكفي أن نُشير إلى أنّ هذا العدد من السنين هو تقريبًا عُمر كوكب الأرض.

أمّا الإندماج النُّووي فهو العكسُ تمامًا للإنشطار؛ حيثُ تصطدمُ ذرّتان، تحت تأثير حرارةٍ وضغطٍ كبيرَيْن، لتُشكّلان ذرّة واحدة يُساوي عددُها الذرّي مجموع العدد الذرّي للذرّتَيْن المُندمجتَيْن. هذا التفاعل النُّووي هو ما يحدثُ في النّجوم، وشمسُنا إحداها، ويجعلُها مشتعلةً. وأبرزُ مِثالٍ يُمكنُ أن يُضربَ عن الإندماج النُّووي هو شمسُنا، نحنُ مجرّة درب التبّانة؛ إنّ شمسَنا، كغيرها من الشموس، هي مفاعلٌ نُّوويٌ طبيعيٌّ يعملُ بإندماج الهيدروجين؛ حيثُ أنّ الحرارةَ في مركز الشمس تبلغُ حوالي 15 مليون درجة مئويّة، في حين أنّ حرارةَ سطحِها تبلغُ حوالي 6000 درجة مئويّة فقط. ويُشكّلُ الهيدروجين ما نسبتُه 70% من وزن الشمس، والهيليوم 23% منه. في مركز الشمس، ونتيجةً للحرارة والضغط الشديدَيْن تندمجُ ذرّتَيْن من الهيدروجين فتتشكّل ذرّة هيليوم واحدة، وينتجُ عن هذا الإندماج طاقةٌ هائلة هي السببُ في اشتعالِ شمسِنا طيلةَ 4.6 مليار سنة، وهي التي ستبقيها مُشتعلةً لخمسةِ مليارات سنةٍ إضافيّة كما يُرجّح علماء الكَوْنِيّات، حيثُ يقولون أنّ شمسَنا لم تزل في منتصف عُمرِها فقط.

إنّ إنتاج 1000 ميغاواط من الطاقة في يومٍ واحدٍ فقط يحتاجُ إلى تسعةِ آلاف طُن من الفحم، وينتجُ عن ذلك حوالي ثلاثين ألف طن من ثاني أكسيد الكربون (CO2) وغيرِه من الغازّات السامّة؛ مثل ثاني أكسيد الكبريت (SO2). في المُقابل، يُمكننا إنتاج الكميّة نفسَها من الطّاقة، عبر الإندماج النُّووي، باستخدام 1250 غرام فقط من عنصرّيْ الديوتيريوم (Deuterium) والتريتيوم (Tritium). والواقعُ أنّ هذه العناصر تُسمّى «نظائر الهيدروجين» (Hydrogen Isotopes)، حيثُ أنّ الكُتَلَ الذريّة تساوي؛ 1 للهيدروجين (H)، 2 للديوتيريوم (De)، و 3 للتريتيوم (Tr). ما يجري في المفاعل النُّووي الذي يعمل بالإندماج هو تنفيذٌ للمعادلة التالية؛ De + Tr ------» He + n.

معنى هذه المُعادلة هو أنّ اندماج ذرّةِ الديوتيريوم وذرّةِ التريتيوم يُنتجُ ذرّة هيليوم (He) و نيوترون واحد (n). والطّاقةُ المتولّدة عن هذا الإندماج هي التي تُسمّى الطّاقة النُّووية المتولّدة بالإندماج.

تحتاجُ هذه المُعادلة إلى درجة حرارة تُساوي حوالي 100 مليون درجة مئويّة، أي ما يُعادل ستّة أضعاف حرارة باطن الشّمس. ويُمكنُ هنا أن نضربَ مثالًا لتقريبِ الصّورة أكثر؛ إنّ القُنبلةَ الهيدروجينيّة تعملُ على مبدا الإندماج النُّووي هذا. والذين صنّعوا هذه القنبلة كانوا بحاجة إلى درجة حرارةٍ كبيرة حتى يتمكّنوا من تحقيق هذا الإندماج، فما كان إلّا أن جعلوا القُنبلةَ الهيدروجينيّة تنفجرُ على مرحلتَيْن؛ الأولى هي انفجارٌ نووي إنشطاري، كالذي حصل في هيروشيما، بحيثُ يَنتُجُ عن هذا الإنفجار الإنشطاري حرارةٌ هائلةٌ تكفي لتحقيق الإنفجار الثاني للقنبلة الهيدروجينيّة؛ أي الإنفجار النُّووي الإندماجي.

بالعودةِ إلى إعلان وزارة الطّاقة الأميركيّة و«مُختبر لورانس ليفرمور الوطني»؛ لم يقُم العلماءُ طبعًا بتفجير إنشطاري لتأمين الكمّ المطلوب من الحرارة، وإنّما استخدموا أشعّة الليزر لهذا الغرض. وتمكّنوا، عبر الإندماج النُّووي، من خلقِ طاقةٍ أكبر من التي استخدموها لإحداث هذا الإندماج، وهذا سرُّ نجاح الإختبار الذي أُجراه علماء «لورانس ليفرمور».

هذا كان الإندماج النُّووي بصورةٍ موجزة، لكن ما الذي يجعلُه أكثر أهميّة من الإنشطار النُّووي؟ في الواقعِ إنّ عدّة عوامل أساسيّة تقفُ خلفَ هذه الأهميّة، وأبرزُها؛ أنّ الإندماج النُّووي لا يحتاج إلى عناصر مُشعّة كما هي الحالة في الإنشطار النُّووي، وبالتّالي فهو لا يحملُ خطرًا إشعاعيًّا على الإنسان والبيئة وهذا ما يجعلُه «طاقةً نظيفة كُليًّا». والعاملُ الثّاني هو أنّ العناصر المُستعملة في الإندماج، وهي الهيدروجين أو نظائرُه، مُتوفّرةٌ في الطّبيعة بشكلٍ كبير، فيمكن استعمال الماء لهذا الغرض، على عكس اليورانيوم الذي يُستخدم في الإنشطار النُّووي، فهو قليلٌ نسبيًا في الطبيعة. والعاملُ الثالث، ولعلّه الأهم، هو كميّة الطاقةِ المتولّدة عن الإندماج النُّووي وهي طاقةٌ هائلة أكبر بحوالي 161 مرّة من تلك المتولّدة من الإنشطار النُّووي. ويُمكنُ فيما بعد استخدامُ هذه الطّاقة للسّفر عبر النجوم، وربّما عبر المجرّات، حيثُ ستغدو الرحلةُ إلى القمر نُزهةً في حديقة منزلنا الأرض، ويغدو الكونُ كوكبًا ذاتَ يوم. أمّا "سلبيّات" الإندماج النُّووي فأبرزُها أنّ المُفاعلات النُّوويّة الواجب إنشاؤها لتوليد الطّاقة النُّووية الإندماجيّة معقّدةٌ جدًا ومُكلفةٌ جدًا، وهذا ما يُفسّرُ، بصورةٍ ما، التكاليف العالية المصروفة لهذا المشروع.

على سبيل الخِتام؛ لم يُشكّلْ هذا الإعلان ثورةً في عالم العلوم والتكنولوجية وحسب، بل هو ثورةٌ في عالم الشِّعر والعشق أيضًا، حيثُ أنّه، بعد اليوم، لن يكون من المآثِر أنْ يَعِدَ الشّاعرُ حبيبتَه بأنّه سيُحضرُ الشّمسَ إلى غُرفتِها إن طلبَتْ منه، لأنّها ستقول له؛ لقدْ فعلَتْها الوِلايات المُتّحدة أيُّها المُتخلّف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يمكن رؤية أحدها من السعودية ومصر.. 4 ظواهر فلكية ينتظرها الع


.. دون ألم الـ-كيماوي-.. طبيبة سورية تبتكر علاجا ضد سرطان الرحم




.. جريمة نزع أعضاء -طفل شبرا- تكشف حقائق مفزعة عن مواقع بالإنتر


.. زيارة مركز لعلاج السرطان.. أول نشاط الملك تشارلز بعد عودته ل




.. دخان المولدات القاتل يلف بيروت.. والسرطان يرتفع 50%