الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/ سليمان النجاب2

محمود شقير

2022 / 12 / 16
الادب والفن


3

قبل أسبوعين من رحيله، هاتفته. جاءني صوته واضحاً على الهاتف. إنه الصوت نفسه الذي استمعت إليه طوال السنوات الثلاثين الماضية، الصوت الذي تتخلله بين الحين والآخر، ضحكة طالعة من أعماق القلب.
قال لي إنه سيعود إلى الوطن عما قريب.
تلك كانت رغبته، أحسست بها من رنة صوته الذي أعرفه. حاولتُ جاهداً ألا أتوقف عند جملة الشرط التي رماها، عَرَضَاً، في سياق حديثه: إذا سارت أمور العلاج على النحو المطلوب. لم أرغب في التوقف عند مضمون جملة الشرط هذه. كنتُ راغباً في تجاهلها، لرغبتي في أن تسير أمور العلاج على النحو المطلوب، فيعود إلى بيته في جيبيا، ليواصل حياته بالبساطة نفسها التي اعتادها.
وكنت أنتظر أن يعود إلى مكتبه في رام الله.
وها أنذا أقدم وصفاً لما يفعله في يومه مناضل غيبه المنفى سنوات، ثم عاد إلى الوطن ليواصل النضال في ظروف جديدة:
يطرح السلام، وهو في طريقه إلى المكتب، على الناس البسطاء فوق الرصيف، على أصحاب الحوانيت المجاورة، معلناً حضوره، بطلعته التي يزينها شعر أبيض، بابتسامته التي لا تغادر شفتيه، بمزاحه الذي يجعله قريباً من قلوب معارفه وأصدقائه ومحبيه.
ويجلس في مكتبه، حينما لا يكون ثمة اجتماع أو مهرجان للدفاع عن الأرض، أو حينما لا تكون في إحدى قاعات المدينة، ندوة ثقافية تستحق أن يذهب إليها. يجلس لكي يقرأ الصحف، قبل أن يبدأ الناس في القدوم إلى مكتبه.
وحينما تعجبه مقالة كتبها أحد كتابنا، فإنه يبتهج بذلك بطريقته الخاصة. يهاتف عدداً من أصدقائه، يلفت انتباههم إلى تلك المقالة، يشير إلى ما فيها من أفكار جديرة بالتقدير، ثم يهاتف كاتب المقالة، لكي يثني عليه، وليبلغه إعجابه بفكرته. كان يفعل ذلك باستمرار، مكرساً تميزه في هذا المضمار. قليلون هم الذين يفعلون مثلما يفعل، فكما كان يتعهد الورود في حديقة بيته، كان معنياً بتعهد الأفكار الصائبة التي تجود بها قرائح الكتاب، فتجعله متحمساً لهم ولأفكارهم، خصوصاً حينما تصب هذه الأفكار في اتجاه الدفاع عن قضيتنا الوطنية على نحو عقلاني، أو حينما يتعلق الأمر بتعزيز المجتمع المدني والدفاع عن كرامة الإنسان.
هذا الفعل البسيط الذي كان يمارسه وسط مشاغله السياسية، لا يعرف أثره الطيب إلا الكتاب أنفسهم. فالكاتب معني بأن يسمع رأياً في ما يكتب، وهو معني بأن تثير أفكاره حالة من الحوار. وكان سليمان محاوراً، كان مهتماً بالاعتراف لأصحاب الفضل من الكتاب بفضلهم، ولهذا أحبته جمهرة من الكتاب، لأنه كان يقرأ ما يكتبونه باهتمام، وتكون له وجهات نظر في ما يقرأ جديرة بالاحترام.
ويأتي إلى مكتبه الناس، فيجدون الترحاب وحسن الاستقبال.
يأتي إليه السياسيون من مختلف التيارات السياسية. ويكون هاجسه الرئيس في الحديث معهم، توحيد الصفوف على قواسم مشتركة لمواجهة الاحتلال.
يأتي إليه رفاق النضال القدامى والجدد، من أيام سجن الجفر الصحراوي إبان الخمسينات من القرن الماضي، إلى أيام سجني رام الله والرملة في زمن الاحتلال. وتكون له ولهم ذكريات عديدة عن تلك الأيام (وأنا أقرأ كتاب أنطوني سامبسون الموسوم ب" مانديلا.. السيرة الموثقة" استوقفتني مبادرة مانديلا ورفاقه في سجن جزيرة روبن، إلى زراعة قطعة صغيرة من الأرض في زاوية باحة السجن. وبحسب ما جاء في الكتاب، ففي "أواخر 1975 كانوا قد زرعوا ألفي شتلة فليفلة وحوالي ألف شتلة بندورة، وقليلاً من الفجل والبصل والبطيخ الحلو وشتلتين من البطيخ الأحمر" ص355. ذكرتني هذه المبادرة بما فعله سليمان ورفاقه في سجن الجفر الصحراوي في النصف الأول من ستينات القرن الماضي، من استثمار للتربة هناك، وزراعتها بمختلف أنواع الشجر والخضروات).
يأتي إليه أبناء القرى، يحملون معهم بساطتهم ونقاءهم، ويحملون معهم خبثهم أحياناً، فيقابلهم ببساطة القروي، يسألهم عن آبائهم وأمهاتهم وعن أدق التفاصيل في حياة قراهم التي كان وما زال له فيها معارف وأصدقاء.
يأتي إليه الطلبة والعمال والفلاحون وأصحاب الحاجات، يسألونه مساعدتهم على قضاء حاجاتهم، فيقدم لهم المساعدة قدر استطاعته، دون أن يمنيهم بوعود لا تتحقق أو بأوهام. كان يعتذر للناس حينما يعرف أن ما يطلبونه من مساعدة، لا يقع في دائرة قدرته على تقديم المساعدة.
ويأتي إليه المثقفون والكتاب.
يدير معهم حوارات تدلل على عمق ثقافته واتساعها. يتحدث في تاريخ الأديان، وفي التاريخ العربي وفي قضايا العالم المعاصر، يتحدث في الأدب العربي القديم والحديث. يقرأ "حرافيش" نجيب محفوظ ويستخرج ما فيها من دلالات، يقرأ "الجدارية" و "سرير الغريبة" لمحمود درويش، ويحاوره في تفاصيل إلهامه الشعري، يقرأ "أوراق العمر" للدكتور لويس عوض، ويثني على ما تضمنته سيرته الذاتية من جرأة، وما تضمنته من قضايا وأفكار، ومن شهادة على العصر الذي عاشه.
يقرأ ديوان المتنبي وهو مطارد تبحث عنه سلطات الاحتلال.
يحفظ أشعاره التي تدلل على عظمة الإنسان وعزة نفسه، وحينما كنا نلتقي في أحد الاجتماعات، لم يكن يبخل علينا بقراءة بعض ما يحفظه من شعر المتنبي، بعد انتهاء الاجتماع.
كنا، بعد نكسة حزيران التي كسرت أحلامنا الكبيرة، نلتهم كل ما يقع بين أيدينا من روايات سوفياتية مترجمة إلى العربية، خصوصاً تلك التي تتحدث عن المقاومة وحرب الأنصار (من طراز: كان هذا في ضواحي روفينو، وأبطال قلعة بريست)، ونبدي إعجابنا بها. ثم اكتشفنا أن ثمة روايات جديدة وكتاباً في الاتحاد السوفياتي لا نعرف عنهم شيئاً، أخبرنا بذلك رئيس الوفد السوفياتي إلى اجتماع لجنة السلم والتضامن في هلسنكي، حينما كنا، سليمان وأنا، نركب القطار من هلسنكي إلى موسكو، في شهر أيار من العام 1975، فأبدينا رغبة في قراءة بعض هذه الروايات، وبعض نتاجات هؤلاء الكتاب.
ولم يفتر اهتمامه بالثقافة الفلسطينية وبأنشطتها المختلفة (ذات مرة، أقامت وزارة الثقافة ضمن سلسلة الندوات الثقافية على هامش معرض فلسطين الدولي للكتاب، ندوة سياسية، كان من المفترض أن يشارك فيها سليمان وعدد آخر من القادة السياسيين. تغيب القادة كلهم عن الندوة وجاء سليمان. كنت أنا المسؤول عن إدارة الندوة. قدمته للجمهور، وأثنيت على التزامه بالحضور في الوقت المحدد. تحدث عن الوضع السياسي، وعن الإشكالات التي تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية على صعيد العلاقة مع الاحتلال ومع جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل. بدا تحليله للأوضاع متسماً بالمرونة وبالرغبة في رؤية ما هو إيجابي في مسيرة السلطة، لتطويره ودفعه إلى الأمام. وأنا علقت يومها على بعض السلبيات التي تشوب عمل السلطة، في حقل الحريات العامة وفي العلاقة مع الجماهير. علق بهذه الروح نفسها عدد من أفراد الجمهور. كان ذلك في مقر سرية رام الله للفنون الشعبية، في مساء أحد الأيام، العام 1999).
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق