الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التجربة الإدراكية الذاتية، واستشراف أخيلة الآخر وأطياف الأشياء في خطاب هدى توفيق القصصي

محمد سمير عبد السلام

2022 / 12 / 16
الادب والفن


يتسم مشروع الروائية المصرية المبدعة هدى توفيق الروائي والقصصي بالتجريب، والتنوع، والتعددية، والاختلاف؛ فهي دائما ما تمزج بين رؤى البطلة لكينونتها، وتاريخها، وواقعها اليومي، ومنظورها الإدراكي لتحولات السياق الثقافي، والاجتماعي في فضاءات، أو أزمنة بعينها، أو تضع المروي عليه في مواجهة بعض أسئلة السياق الخاصة بروح البطلة الفردية، أو منظورها للآخر والأشياء والمراجع التجريبية بصورة إشكالية تستلزم وجود صيرورة من الاستجابات المحتملة التي يمكن لمستقبل الخطاب / المروي عليه أن يقوم بها معرفيا أو أدائيا في لحظات مشابهة لما قدمه إدراك ساردة هدى توفيق لعلامات الوجود، أو مصائر الشخصيات في تشابكها مع تحولات السياق الثقافي، وما فيه من مذاهب، وأفكار فلسفية؛ فساردة هدى توفيق قدمت خصوصية تجربة البطلة حين عملت في عمان؛ وما تولد عن هذه التجربة من تجارب إدراكية تجريبية جديدة في علاقة الذات بالأخريات، والآخرين والمرجع المكاني في رواية بيوت بيضاء، بينما مزجت صيرورة البطلة المعرفية الخاصة بفضاء التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وعلاقته بتحولات السياق الثقافي في المريض العربي؛ وقدمت تجربة داخلية فريدة لعالم البطلة الداخلي ونشوئها ودلالاته النفسية، وتطور تجربتها المعرفية حتى معاينتها لتحولات المجتمع مؤخرا، وعلاقتها بالسياق العالمي وتطوره في رواية رقصة الحرية.
وأود – في هذه المقدمة – أن أتناول خطاب ساردة هدى توفيق من خلال نماذج من المجموعات القصصية الثلاث الأحدث في مشروعها وفق بعض آليات المقاربة التداولية الإدراكية؛ مثل نظرية الصلة عند سبيربر وويلسون، وتحليل المحادثة عند بول غرايس، وتصنيف سيرل للأفعال الكلامية، ودراسة مؤشرات السياق في الخطاب؛ للكشف عن طبيعة عمليات التواصل ودلالاتها في وحدة الخطاب، وتسلسل المحادثة.

سيكون – إذا – للمؤشرات السياقية وطرائق إدراكها في فعل التواصل دورا أساسيا في فهم خطاب المتكلم؛ وبهذا الصدد يرى كل من دان سبيربر وديردري ويلسون في دراستهما المعنونة ب التداولية أن مبدأ الصلة يقوم على معالجة المعلومات المفاهيمية وفق عملية معقدة تقوم على انتخاب آثار سياقية ذات أهمية في موقف التواصل، ووفق دينامية التوقعات عن الآخر من قبل المتكلم والمستمع ومن ثم التوسع القصدي في إنتاج التفاسير والرؤى الإدراكية (1)
وسنعاين تلك الشبكة المعقدة من الآثار السياقية، وطرائق تفسيرها المفاهيمية بين الساردة والمروي عليه وبين الشخصيات الفنية في مشروع هدى توفيق القصصي؛ ومن ثم تتشكل الرؤى النسبية والاستدلالات، والتضمينات وفق شبكة إدراك السياق النسبية في كل نص قصصي.
تؤسس ساردة هدى توفيق خطابها للمروي عليه في قصة حذاء الصغيرة التي لم تأت ضمن مجموعة حذاء سيلفانا (1) على الصلة بين خصوصية عالم البطلة الذاتي في اتصالها بالعوالم الخيالية والافتراضية والطبيعية والكونية التي لا يمكن أن تنفصل عن صيرورة الشخصية، وتأويلها للكينونة، وحضورها التاريخي؛ وهي تنتخب – وفق مبدأ الصلة لدى سبيربر وويلسون – مجموعة من المؤثرات السياقية ضمن إدراكها لسياق الموقف الفعلي من جهة؛ وإدراكها للسياق الثقافي الذي يجمعها بالمروي عليه أو مستقبل الخطاب من جهة أخرى؛ وتحوي هذه المؤثرات السياقية الأشياء الخاصة بالذات / البطلة، وحذاء سيلفانة الصغيرة المتخيلة الحاضرة الغائبة في موقف التواصل، وعالم القطط الطبيعي والكوني والافتراضي في وعي البطلة؛ وكأنها تشير – في حجاج الخطاب الاستدلالية - إلى صحة فرضية انفتاح عالمها الذاتي على أخيلة سيلفانا، وحياة القطط الافتراضية المولدة عن صورتها الفيزيقية في المنزل؛ ومن ثم تصير النتيجة هي تفكيك حالة الوحدة، وتعزيز التواصل بين العوالم الذاتية الأنثوية الخاصة والعوالم الخيالية المحتملة والمولدة من إدراك البطلة لمؤثرات السياق الفعلي في غرفتها أو منزلها؛ كما يشير الخطاب إلى أهمية قراءة الذات وفق منظور حداثي متجدد ولا ينفصل عن الآخر، ويؤكد شعرية العلامات الأنثوية وخصوصيتها الخيالية والبنائية في بنية الخطاب القصصي.
ويتضمن الخطاب مجموعة من الأفعال الكلامية التمثيلية والإخبارية التي ترسم عالم البطلة وعلامات سياق موقف التواصل، والمراجع الخاصة بالأشياء الذاتية؛ لتولد منها مجموعة أفعال تمثيلية أخرى مضمرة توحي بأن تلك العوالم الفيزيقية تتضمن الإحالة إلى عوالم خيالية مناظرة ضمن منظور البطلة الإدراكي النسبي للعالم، كما يضمر الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا آخر يتعلق بانحياز الساردة لاتصال أشياء البطلة الخاصة بالافتراضي، والكوني، ومن ثم تجاوز الغرفة لبنيتها الخاصة، وانفتاحها على الآخر / الغائب / المؤجل في حضوره الأدبي الخاص في موقف التواصل.
وتومئ الساردة – في خطابها - إلى العلاقة الاستعارية المفاهيمية بين الحقيقي، والافتراضي في قصة فلورا الافتراضية ضمن مجموعة فاكهة بشرية؛ ومن ثم ينسج خطاب الساردة استعارة إدراكية تقوم على التشابه والمزج الإدراكي بين فلورا الحقيقية؛ أي حضورها التاريخي الاجتماعي، وشخصيات ألعاب الكمبيوتر الافتراضية؛ ويحقق هذا المزج الإدراكي نوعا من الخصوصية لحالة البطلة، وصيرورتها المعرفية من جهة، ويضعنا ضمن شبكة علاقات إدراكية معقدة في النص من جهة أخرى؛ فإذا قرأنا النص وفق المؤشرات السياقية الخاصة بالذات، والآخر سنجد أن موقع الذات الساردة النسبي يجمع بين الانتماء للحقيقي، والافتراضي، ويضمر الإعجاب بفلورا، ويتضمن خطابه السخرية منها أيضا؛ أما موقع الأم فيعيد قراءة فلورا وفق تاريخ وفاة إخوتها في الماضي؛ أي يضمر ندرة فلورا، وانتماء جزء كبير من تاريخها للماضي اللامرئي المتوافق نسبيا مع حالتها الافتراضية؛ أما فلورا نفسها فهي تعيد تشكيل كينونتها وفق فضاء رقمي ثلاثي الأبعاد بينما تعاني حضورا إشكاليا مربكا ضمن الحقيقي.
وإذا قرأنا القصة وفق سياق موقف التواصل، والسياق الثقافي الواسع بين الساردة والمروي عليه سنجد أن الساردة قد انتخبت ثلاث مؤشرات سياقية توحي بأهمية تكوين فلورا الملتبس بالافتراضي، وبإشكالية مصيرها الواقعي ضمن عيادة الطبيب؛ ومن ثم فالإحالة إلى العيادة توحي بالبعد الدرامي الكامن في الشخصية / اختلافها عن أقرانها، ومفردات واقعها اليومي؛ أما تكوينها الجمالي الملتبس، وممارستها للعب في غرفة الكمبيوتر فهما مؤشران سياقيان يطرحان فعلا كلاميا تمثيليا يوحي بأصالة الالتباس بين الحقيقي، والافتراضي، بينما تضمر الساردة فعلا كلاميا توجيهيا آخر يوحي بطرح السؤال أو الإشكالية المتعلقة بالتشابه والتناقض في علاقة الحقيقي بالافتراضي على المروي عليه في سياق ثقافي واسع تنتشر فيه أطياف شخصيات الألعاب، ومواقع التواصل ضمن اليومي والمتكرر نفسه.
ويحيلنا خطاب ساردة هدى توفيق – في قصة الأباجورة القطة ضمن مجموعة المختارات القصصية المعنونة ب نعناعة الفراق (3) إلى وحدة البطلة واتصالها الافتراضي بكل من مرجع القطة / الشيء الذي يبدو مثل مرآة لتشكيل الكينونة الأنثوية للبطلة، واستدعائها لمحادثة قديمة مع صديقتها؛ وسنجد أن الهارموني أو توافقية المحادثة كانت واضحة في حالة القطة / الأباجورة بينما اتسعت مساحات الصمت والسؤال في المحادثة مع صديقتها؛ ومن ثم ينسج الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا يوحي بانحياز الساردة لعالمها الافتراضي الخيالي الأنثوي، وتفضيله على مجمل العلاقات التاريخية والاجتماعية الكامنة في الذاكرة فيما عدا الحبيب الواحد الذي هجرها دون سبب؛ وكأن صورة ذلك الغائب الحاضر ملتبسة بمساحات فراغ تصويرية متخيلة في بنية الخطاب، واستعاراته الإدراكية.
وإذا أعدنا قراءة الخطاب القصصي وفق إدراك البطلة / الساردة لسياق الموقف الفعلي، والسياق الثقافي الأوسع في اتصال خطابها بالمروي عليه؛ سنجد أن الساردة قد اختارت – وفق مبدأ الصلة الإدراكي – مؤشرا سياقيا يتعلق بحياة الأشياء الافتراضية ضمن عالمها الذاتي، ولا يمكن فهم إدراكها النسبي للأباجورة القطة إلا وفق كون الأباجورة القطة مرجعا تجريبيا قادرا على الاستجابة والتواصل ولو ضمن سلسلة استعارات إدراكية يضمرها الخطاب؛ فيمكننا تخيل الأباجورة القطة ممثلة على خشبة مسرح، أو شبحا افتراضيا مواجها لشخصية تقوم بأداء مونولوج، أو أنها تمثل مرآة لبنية حضور البطلة وكينونتها الأنثوية التي تحتفي بخصوصية الفردي، والحلمي أي تعزز من تجدد القيم الحداثية والروح الأنثوية الخاصة ضمن العلامات المجازية التمثيلية والأشياء والدمى، والتكوينات الملتبسة بين الفيزيقي والحلمي.
وسنجد أنه وفقا لمبدأ بول غرايس التعاوني في تحليل المحادثة وفق الكم، والجودة، والصلة، والأسلوب أن المحادثة الأولى بين البطلة والأباجورة قد ازدادت فيها مساحة الاستطراد الكمي من قبل البطلة ولكن في إطار الهارموني، وجاء صمت القطة موحيا بتخييل استجابتها المتوافقة مع منح القيمة الأعلى لروح البطلة الفردية أما المحادثة مع الصديقة فكثرت فيها الصفات السلبية الممنوحة للبطلة والقطط؛ ومن ثم جاء الاستطراد هنا بصورة تعمق الانفصال بين الذات والآخر؛ أما صمت البطلة فيوحي بانقطاع التواصل والهارموني في بنية المحادثة بخلاف صمت القطة المؤسس لاستجابة شبحية افتراضية متخيلة؛ وتقدم البطلة حجة استدلالية في حديثها مع القطة توحي بصدق فرضية الراحة مع عالمها الخيالية مقارنة بعلاقات الماضي الانفصالية؛ ومن ثم صدق بنية المحادثة المحتملة مع القطة كنتيجة للفرضية السابقة بينما قدمت صديقتها أوصافا سلبية بدون صدق أو دليل لأن عالم البطلة الذاتي كان قائما بينما لم تلتفت الصديقة إليه في سلسلة حجاجها الاستدلالية وإنما استندت لتجارب الآخر مع البطلة؛ أم مبدأ الصلة فقد تحقق وفق اتساع إدراك البطلة لمؤشر القطة الافتراضي بينما ارتكز في خطاب الصديقة على انطباعات الآخرين عن البطلة لا كينونتها الفعلية، وقد غلبت اللغة التمثيلية الإخبارية على أسلوب البطلة في حكاياتها للقطة بينما جاءت جمل النفي أكثر على لسان الصديقة؛ ومن ثم تنسج الساردة فعلا كلاميا تعبيريا متضمنا يؤكد انحيازها لتجربتها الفردية الأنثوية الخاصة وفق علاقتها بالمرجع الاستعاري التجريبي.
*الهوامش /
(1) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Pragmatics, Cognition, 10, 1981, p-p 284, 285
At:
http://www.dan.sperber.fr/wp-content/uploads/1981_wilson_pragmatics.pdf
(2) راجع، هدى توفيق، حذاء سيلفانا، دار الكتبي للنشر بالقاهرة، ط1، 2017 من ص 127: 130.
(3) راجع، هدى توفيق، فاكهة بشرية، دار النخبة للطباعة والنشر بالقاهرة، 2021 من ص 47 : 49.
(4) راجع، هدى توفيق، نعناعة الفراق، مختارات قصصية، مؤسسة يسطرون للطبع والنشر بالقاهرة، 2022، ص-ص 287 ، 288








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟