الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللا معقول.. عبثيّة الواقع العراقي

مهتدي مهدي
روائي

(Muhtady Mahdi)

2022 / 12 / 21
الادب والفن


بعد الحرب العالمية الثانية, نجحت جماعة من الأدباء في تأسيس مذهباً أدبياً جديداً, أُطلِقَ عليه حينها أدب اللا معقول أو العبث. استطاع رواد هذا المذهب أن يتألقوا في أعمال أدبية بارزة, بقيت حاضرة كشواهد يُعاد ذكرها بالمحافل الأدبيّة رغم انقضاء, تلك المدة الزمنيّة الطويلة عليها.
فمن غير المعقول أن تخلف الحروب هذا الكم الهائل من الدمار, على الصعيدين المادي والمعنوي، لتبقى كل هذه الأحداث معقولة في نظر الناس. وعن هذا التساؤل انبرى رواد هذا المدرسة العبثيّة مفصحين عن فلسفتهم, متحدين الواقع والمألوف, فما يحدث بعد الحرب ليس كما قبلها, لأن الأشياء تتغير عناوينها وتضخم مضامينها, ولولا هذه الطريقة التي من خلالها تواصلوا بأفكارهم. لربما كان الصمت أو العزوف عن الكتابة بديلاً عنها. لأن الرسالة التي أريد لها أن توجه إلى المجتمع، ما ممكن أن تصل بالطرق التقليديّة دون الاستعانة بسبل أخرى تعبر عن مدى سخطهم ونفورهم مما حاق بهم من هول وألم جم, في خضم هذه الظروف غير الطبيعية التي ألمت ببلدانهم, والأرقام المهولة في كل شيء لم تعد طبيعية أيضاً, فكان الاختزال في بعض العبارات والتكرار في عبارات أخرى، أو الصراخ بشكل هستيري, يعكس ذلك الكم من العجز الذي أصبح الإنسان ينطوي عليه, بل إن الصمت واليأس والوجوم كانت من السمات السيمائية التي تنصهر مع بعضها لتكوّن لنا الشخصية الرئيسية التي قد لا تحتاج إلى شخصيات أخرى معها في المشهد الواحد، أو لينتهي العمل الدرامي بها. وكان هذا ضمن ما يقدم في أعمال هذه الجماعة الطليعيّة التي كان في مقدمتها، صمويل بيكيت, وهارولد بنتر, وآرثر أداموف, ويوجين يونسكو وآخرين ممن كانت لهم الريادة في هذا التجريب الأدبي.
وبما إنهم انطلقوا من هذه الفكرة التي انبثقت من الأسئلة التي لم يجدوا لها أجوبة مناسبة ومقنعة، فأنهم وجدوا أنفسهم غير ملزمين بتقديم تفسير منطقيّ، أو تحليل علمي لما كانوا يقدمونه من أفكار.
فهذا النمط لم يأتي من فراغ أو من عوالم أخرى، فقد انبثق من الواقع المر، دون أن يشكل واقعاً افتراضيّاً تكهنياً، مثلما يقتضيه الأمر في الفنتازيا, أو الواقعيّة السحرية والرمزية. واقعاً يسيطر عليه الخواء واللا جدوى, وهو الخلاصة أو هو نتيجة حتميّة، لما يمر به الإنسان من صراع مع الذات في هكذا ظروف غير طبيعية، معها لم تعد الطريقة التقليدية كما أسلفنا وافية أو معبّرة.

أكثر الشخصيات العبثيّة مأزومة نفسياً، أو معاقة جسدياً. وقد تعاني من أمراض مستعصية، أو تكون هذه العوارض مجتمعة فيها. وإضافة لكل هذا هي تعاني من فقدان الأمن، الحب، التشبث بالحياة كما في شخصية بيكمان في مسرحية أمام الباب / في الخارج، المسرحية الوحيدة للكاتب الألماني " فولفجانج بورشرت" بيكمان الذي يعود من الحرب محطماً في العشرين من عمره، ليجد نفسه في الخارج من حيث لا حضن يضمه أو بيت يأويه، فجميع الأبواب التي يطرقها يشخص أمامها. توفي والداه ، ليكتشف أن امرأة غريبة تعيش في منزلهما وزوجته هجرته مع رجل آخر. من أهم شخصيات هذه المسرحية بيكمان, الرب, الموت, الحانوتي, الآخر، ونهر إلبه الذي يجري شمال ألمانيا.
تم عرض هذه المسرحية على خشبة مسرح الرشيد في بغداد عام 1994, ضمن فعاليات مهرجان المسرح العراقي.
وقد تكون مسرحية إمام الباب لبورشرت التي صدرت سنة ١٩٤٧ قد مهدت الطريق لمؤسسي مسرح العبث، أسوة بأسطورة سيزيف لكامو، التي صدرت قبلها ببضع سنوات.
تتضح لنا الشخصيات العبثيّة على خشبة المسرح, كما لو أنها ملتاثة عقليّاً أو هم إلى حد ما كذلك. أشخاص لم تعد لهم القدرة على الاندماج بالمجتمع مجدداً, نتيجة لكارثة ألمت بهم, وفي نفس الوقت لا يمكن أن ينسلخوا عن ماضيهم. وهنا يتضح لنا لماذا سمي هذا المسرح "كرب ما بعد المآسي" وعادة ما تكون تلك الكوارث مفتعلة من قبل الإنسان, الذي لم تعد معه فكرة توجيه أصابع الاتهام له أو اللوم تفيد أو تنفع. وقد كثر استخدام مفردة "عبث" في المسرح كونه أكثر تعبيراً وأكثر قدرة على تجسيد ذلك الاصطلاح من خلال المشاهد العبثية المرئية والمسموعة التي كان تعرض على خشبته. في حين أن العبث لا يقتصر على جنس أدبي دون آخر.

وقد لاقى هذا النوع من الأدب اهتماماً واسعاً بين الأوساط الثقافية عالمياً. كونه وسيلة للتعبير عن الهموم والمخاوف التي تعتري المجتمع أفراداً وجماعات.
ومحلياً للتورية عن عيون السلطة الحاكمة زمن النظام السابق، بما وراء الإدانة وما يتناسب وحجم الدمار الذي نجم عنها، ذلك قبل أن تتضاعف الفوضى بعد الاحتلال وهذا ما ضاعف اليأس وانعدام الأمل لدى عامة الناس.
ولو عدنا إلى ما قبل الاحتلال فالتغيير السياسي الأخير 2003، للاحظنا الأعمال الأدبيّة التي انتهجت طابعاً توروياً، فإضافة إلى اليأس والعوز، القنوط الذي خيم على المجتمع. هناك سلطة غاشمة وعين تراقب ممكن أن تأول العمل الفني الرمزي ضدها، ما تطلب أن تنتهج الأعمال الفنية بعداً غرائبياً آخراً. لم يعد ذا أهمية بعد التغيير إلا أنه بقي محافظاً على قيمته الفنية بنمطيّة شاهدناها مراراً وتكراراً تؤدى على خشبة المسرح بنفس مواصفات الأعمال العبثية عالميّاً.
وكنا قد تنفسنا الصعداء بعد زوال كابوس السلطة الغاشمة، وكان في ظننا بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الاستقرار, الذي لا بد من أن يعود بنوع من الرخاء الفكري. معه يستطيع كل أديب أن يعالج جراحات الماضي بالطريقة التي يجدها تلائمه, أسوة بما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا هو الفارق بيننا. إذ لم ينعم العراق بعد حروبه بالهدوء ولا الاستقرار وما لبث الوضع أن ازداد سوءاً، فقد انتقلت الحرب إلى الداخل ومعها نشأت مسميات أخرى وجزئيّات أخرى، إرهاب, ميليشيات, سنة, شيعة. ليتعملق في أذهاننا كل ما له علاقة بالفساد والإرهاب الذي صار بمقدرته أن يحتل المناطق والمدن من داخل المدن, في وقت أصبحت مدن ومناطق أخرى مسرحاً للميليشيّات.
فالفوضى التي شملت جميع الأمكنة، كانت كافية لخلق جو من الاضطراب العام والتعمية كذلك. فالبريء مدان حتى تثبت إدانته والمجرم بريء حتى تثبت براءته. متظاهرون عزل يطالبون بوطن يتم قتلهم بدم بارد، وتهشيم جماجمهم بقنابل الغاز المسيّل للدموع!! وإزاء هذا كله, وحين لا تخف وتيرة الغليان, يتم قمعها بالقوة, لتكمم الأفوه وليحل اليأس فرضاً ملزماً على الجميع.
كل هذه المصائب من بالها أن تحفز أدباً رديفاً, له القدرة على لفت الأنظار, حين تنأى الأقلام, وتناور اللا جدوى كعلامة استفهام كبيرة في قريحة متقدة, وعين تشاهد كل هذه الأحداث التي تشرئب عبثاً. ومثلما وجد أولئك المجددون ضرورة في هذا التغيير بعد حربين كونيتين طاحنتين. ابتدأوا وهم ينفضون غبار الحرب العالمية الثانية عنهم. لم تنتهي حروبنا بعد، وقد أصبح كل شيء لدينا لا معقول، فقد نكون بحاجة إلى مدرسة أدبية جديدة أكثر قدرة على المعالجة, فإذا كان الفرد الأوروبي قد عانى لخمس أو ست سنوات من الحرب فنحن ما زلنا نعاني منذُ أكثر من أربعين عاماً, من الحروب العبثيّة في الخارج والداخل وهي فترة زمنيّة طويلة, تركت آثارها السلبيّة في ذاكرة أكثر من جيل, ومن الصعب إزالة رواسبها خصوصاً إن القادم من السنوات قد يضاف إلى هذه السنون التي تجاوزت الأربعين. فالأطراف المتحاربة لم ينفضوا أيديهم بعد. وقد أنشأت عقائدهم على اختلاف مشاربها, وراحت تبتكر مسميات جديدة أخرى, والفاسدون ما زالوا يتبوؤون مناصبهم ولا ثمة بارقة أمل تلوح بالأفق حتى الغد القريب.

فنحن الآن لسنا بصدد البحث عن شخص, نستطيع أن نوجه له أصابع الاتهام دون وجل, أو خشية من ملاحقة باختلاف مسمياتها. نحن بحاجة لوضع حد لكل هذا الخراب الذي لا حد له, ليتسنى لنا أن نحتفي بخيباتنا وويلاتنا مثلما عمل أولئك المجددون, أن نضمّن حروبنا بطريقة أخرى أكثر عبثاً. أما ونحن مستمرون بالهدم ولا توجد خطة حقيقيّة لإعمار الإنسان/ البلاد, لا شك من أننا سنكون بحاجة لأدب ستُعَد به أسماء الأشخاص غير مجدية أبداً ــ لتبرز وتتعملق أسماء أخرى.. موت, فساد, إرهاب, ميليشيات ــ سنكتفي بذكرهم كأرقام بما إن العنصر البشري هو الأقل ثمناً من كل شيء لدينا, لنضيفهم إلى الرقم المليوني من المسحوقين, والمهمشين الذي يتضخم باستمرار, منذُ فجر السلالات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح