الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين.

شكيب كاظم

2022 / 12 / 21
الادب والفن


تطلق دور النشر والمطابع يوميا عشرات العنوانات من الكتب، إلا أن ما يبقى في الذاكرة منها هو القليل، إذ أن خط البدء والشروع- غالباً- واحد لدى الجميع، لكن المفاضلة تأتي، لعمق الموهبة ورصانة الكاتب واتساع ثقافته، فليس كل الكتاب على وتيرة واحدة، موهبة ورصانة وسعة إطلاع، وهذا من طبائع الحياة والأشياء، فالناس متفاوتون في كل شيىء تقريباً، وإذا كانت ثمة كتب تولد ميتة لأسباب عدة منها، مواهب المنشىء وثقافته وحيوية الموضوع المبحوث، وبعده عن أذواق الناس، فإن هناك كتبا تبقى تصارع الزمن وغرباله النقدي الدقيق ألذي يسقط الكثير من الأعمال في لجة النسيان، في حين يحتفظ بالمتألق والرصين، وإذا كانت بعض المؤسسات الثقافية، قد اهتمت بإبداعات المنشئين، ومحاولة جعلها تبقى في أذهان المتلقين، من خلال إعادة نشر بعض الموضوعات الرصينة، من ما سبق نشره، وهو ما فعلته مجلة(العربي) الكويتية، بإعادة نشر بعض الدراسات، التي سبق نشرها ومنذ ربع قرن، إذ استحدثت زاوية عنوانها (العربي من ربع قرن)، فضلاً عن استحداثها سلسلة (كتاب العربي) لنشر ما سبق نشره فيها، وأمامي كتاب(القصة العربية: أجيال وآفاق) حيث أعادت نشر قصص لمحمود تيمور، وعباس محمود العقاد، والطبيب السوري عبد السلام العجيلي، وجمال الغيطاني وغيرهم، كما دأبت مجلة (الهلال) المصرية على إعادة نشر بعض المنتقيات، ففي العدد الماسي منها، الصادر لمناسبة مرور خمس وسبعين سنة على بدء صدورها (عدد شهر كانون الأول سنة ١٩٦٧) أعادت المجلة نشر قصائد ومقالات لعدد من المنشئين منهم: جبران خليل جبران، وخليل مطران، وإسماعيل مظهر، وأحمد لطفي السيد، والدكتور محمد حسين هيكل، وأمين الخولي، وعبد العزيز البِشْري، وجميل صدقي الزهاوي، وغيرهم كثير.
من الكتب التي بقيت متألقة في غربال الزمن النقدي؛ كتاب(في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين؛ أستاذ الآداب العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وقد صدرت الطبعة الأولى منه عام ١٣٤٤هج=١٩٢٦م، وطبع في مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، ويقع في مئة وثلاث وثمانين صفحة في القطع المتوسط، وأهداه بعبارة رقيقة شفيفة إلى حضرة صاحب الدولة، عبد الخالق ثروة باشا هذا نصها:" كنت قبل اليوم أكتب في السياسة، وكنت أجد في ذكرك والإشادة بفضلك، راحة نفس تحب الحق، ورضا ضمير يحب الوفاء، وقد انصرفت عن السياسة وفرغت للجامعة، وإذا أنا أراك في مجلسها كما كنت أراك من قبل، قوي الروح، ذكي القلب، بعيد النظر، موفقاً في تأييد المصالح العلمية، توفيقك في تأييد المصالح السياسية.
فهل تأذن لي أن أقدم إليك هذا الكتاب، مع التحية الخالصة والإجلال العظيم؟
والإهداء مؤرخ في ٢٢ من مارس ١٩٢٦م.
وإذ أثيرت بشأن الكتاب ضجة واسعة من الأوساط الثقافية والدينية، فقد أضطر طه حسين إلى حذف بعض الفصول، حيث ذكر في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب، المؤرخة في ١١مايو (مايس)١٩٢٧م ما يأتي:" هذا كتاب السنة الماضية، حذف منه فصل، وأُثْبِت مكانه فصل، وأضيفت إليه فصول، وغيّر عنوانه بعض التغيير. وأنا أرجو أن أكون قد وفقت في هذه الطبعة الثانية إلى حاجة الذين يريدون أن يدرسوا الأدب العربي عامة، والجاهلي خاصة من مناهج البحث وسبل التحقيق في الأدب وتاريخه".
فلقد أصدر الدكتور طه حسين، في بداية سنة ١٩٢٦م كتابا سماه (في الأدب الجاهلي)، تعرض فيه لبعض الموضوعات الحساسة جداً، مما أثار حفيظة الكثير من الناس، وذهب الأمر ببعضهم إلى رفع شكوى، بل رفعت شكاوى إلى النيابة العامة لغرض تقديم مؤلف الكتاب إلى المحاكمة، كما اثار ثائرة العديد من الكتاب ورجال الدين، فألفوا كتبا بعينها للرد عليه.
موضوع هذا الكتاب يذكرني بكتاب (الإسلام وأصول الحكم. بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام) للأستاذ الشيخ علي عبد الرازق، الصادر سنة ١٩٢٥م، الذي أثار هو الآخر صخباً وضجيجاً، ذاكراً أن نظام الخلافة، جاءت به ظروف الحياة العامة، التي استجدت عُقيْب وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أصلا من أصول الحكم.
إن كتاب (في الشعر الجاهلي) قد أثار ثائرة الناس، فتصدى للرد عليه عدد من الكتاب منهم: محمد فريد وجدي في كتابه (نقد كتاب في الشعر الجاهلي)، ولقد ذكر لنا أحد أساتذتنا، أيام الطلب في كلية الآداب بالجامعة المستنصرية؛ قسمها المسائي، في النصف الأول من عقد السبعين من القرن العشرين، أن المرحوم محمد فريد وجدي، رتب كتابه ذاك، بأن يورد صفحة من كتاب (في الشعر الجاهلي) وفي الصفحة المقابلة رد وجدي عليه! فضلا عن كتاب (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) للمرحوم محمد الخضر حسين، وكتاب (الشهاب الراصد) لمحمد لطفي جمعة وغيرها كثير.
وإذا كانت هيئة من علماء الأزهر قد تولت النظر في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق، وأصدرت جملة من القرارات بشأنه منها تجريد عبد الرازق من شهادة العالمية التي يمنحها الأزهر للمتخرجين فيه، وقد تولى الدكتور محمد عمارة تحقيق نصوص المحاكمة ومجرياتها ،ودفاع المتهم، ونشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، بطبعتها الأولى سنة ١٩٧٢، فإن قضية الدكتور طه حسين، رفعت إلى النيابة العامة بمصر، ولقد قرأت حيثيات القرار الصادر عن النيابة العامة ممثلة بالقاضي المثقف المتنوّر محمد نور؛ رئيس نيابة مصر، ألذي تولى تحقيق القرار والتعليق عليه الروائي المصري خيري شلبي، ونشره في كتاب عنوانه(محاكمة طه حسين) تولت نشره المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة ١٩٧١.
لقد دل القرار، على ما يمتاز به محمد نور من فكر نير ورأي حصيف، وابان أنه قارئ جيد، إطلع على الكثير من المعارف والعلوم، لذلك ناقش طه حسين في آرائه التي أوردها في كتابه، فأفحمه في مواضع متعددة، لا بل في المواضع كلها المُتجادَل فيها، وإنه رجع في مناقشاته إلى المصادر العديدة، منها كتاب (طبقات الشعراء) لأبي عبد الله محمد بن سلام الجُمَحي(ت٢٣١هج) إذ أورد الدكتور طه حسين، أورد قولا مشهورا لأبي عمرو بن العلاء مفاده:" ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". في محاولة منه للدلالة على أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية لعرب الجاهلية، وإن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، إلا أن الأستاذ محمد نور يصحح الذي ذكره طه حسين، من خلال رجوعه - كما قلت- إلى كتاب (طبقات الشعراء) فينص على أن ما قاله أبو عمرو بن العلاء هو:" ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا". ولا يخفى على الباحثين أن أبا عمرو بن العلاء(ت،١٥٤هج) هو أحد القراء السبعة للقرآن الكريم، إلى جانب عبد الله بن عامر الشامي(ت،١١٨هج) وعبد الله بن كثير المكي(١٢٠هج) وعاصم بن أبي النجود الكوفي(١٢٧هج) وحمزة بن حبيب الزيات الكوفي (١٥٦ هج) ونافع المدني(١٦٩هج) وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي(ت.١٨٧هج).
ولم يقف رئيس النيابة عند هذا الحد، وهو القارىء المدقق لما في بطون الكتب، وصولا إلى الحقيقة التي هي رائده، فيقول " وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير النص، على أن ألذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلام، ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي واخبرني يونس [ويبدو أنه يعني يونس بن حبيب النحوي، ألذي يعد من أوائل من درس نحو العرب] قال: العرب كلهم ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم "وللدقة فإنه يحيل من يهمه الأمر إلى الصفحة الثامنة من كتاب( طبقات الشعراء). مطبعة السعادة.
وتبلغ المحاجة ذروتها ليقول: "فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الأولى، أن يسلم بصحة العبارة الثانية، لأن الراوي واحد، والمروي عنه واحد، وتكون نتيجة ذلك، إنه فسر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده، بل فسره بعكس ما أراده ويتعين إسقاط الدليل".
ويتألق القاضي المصري محمد نور، لدى مناقشته لطه حسين في موضوع القراءات السبع الواردة في الكتاب، الأمر الذي يدل على علو كعبه في هذا العلم الدقيق، ألذي لا يتأتى إلا للمتخصصين، فيرجع إلى أمات المظان والمصادر والمراجع، يورد ما جاء فيها، وآراء القراء؛ قراء القرآن الكريم، وأهل العلم في ذلك، إذ أن طه حسين يرى أن هذه القراءات، إنما قرأت بها العرب، موافقة لألسنتهم، لا كما أوحى الله إلى نبيه، مع أن المسلمين يرون أنها هكذا وردت من الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولولا الإطالة لعرجت على الموضوعين الثالث والرابع وهما؛ الدين وانتحال الشعر، والرابع عدم أولية الإسلام في بلاد العرب، وإنه دين إبراهيم، وهي الموضوعات التي ناقش فيها الأستاذ محمد نور، ناقش طه حسين فأفحمه وأسكته في مواضع كثيرة، هو المتأثر بآراء أستاذه المستشرق( ديفيد صموئيل مركليوث-١٨٥٨١٩٤٠) ،غير أن محمد نور لشدة احترامه الرأي الآخر، وعدم تشدده وتزمته، فإنه يصل إلى أن المؤلف:" وإن كان قد أخطأ فيما كتب، إلا إن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيىء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيىء آخر(..) لذا تحفظ الأوراق إداريا".
ومنذ أكثر من عشر مئات من الأعوام قال العرب: للمجتهد أجر إن أخطأ، وأجران إن أصاب ....
نشرت في جريدة (الزمان)
الخميس ٢٤من شباط ٢٠٠٥
رقم العدد ٢٠٤٤








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة خاصة مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي وأسرار وكواليس لأ


.. بعد أربع سنوات.. عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي بمشاركة 7




.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح


.. عرض يضم الفنون الأدائية في قطر من الرقص بالسيف إلى المسرح ال




.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل