الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتباري المحظوظ والمتباري غير المحظوظ

إلياس التاغي

2022 / 12 / 21
الادب والفن


قد مرت سنة كاملة، وكالعادة، تأتي مباراة التوظيف، فتقفز قلوب المترشحين من صدورهم، فيشعرون كشعور المقامرين في قاعة القمار يلعبون النرد منتظرين حظهم؛ فالأقدار فيها تخلط الأوراق، والمتبارين يحملون ورقتهم؛ المتباري المحظوظ بعد طول العناء، وبعد طول الجولات المرطونية: الإنتقاء، الإختبار الكتابي، الإختبار الشفوي. وفي كل مرحلة يعيش فيها قلقا ذهنيا رهيبا كالمشاركين في مسلسل لعبة الحبار. بعد كل هذا يتنفس الصعداء، يتنفس الهواء الإنتصار، فتبدو له الحياة جميلة رشيقة راقصة بهية تستحق أن تعاش بهوائها النقي، وشروق شمسها الذهبية، وبحرها الهادئ.
ينشر المتباري المحظوظ اسمه الموجود على قائمة الناجحين، ويكتب: " الحمد لله بعد عناء طويل" أو شيء من هذا القبيل، فيُرمى بوابِل من التبريكات على نجاحه المُستحق، فتعلوه نَشوة رقيقة منعشة، خصوصاً، حينما يُرمى بالمديح على كفاءاته وإستحقاقه لهذا المنصب.
يبدأ المتباري المحظوظ التكوين، وكله نشاط وحيوية، فتبدأ عيناه تترصد المحظوظات داخل مركز التكوين، ليُوهم واحدة منهن بالزواج، وبناء المستقبل المثمر والمزدهر والسعيد. وعند خروجه مع المحظوظين أمثاله، فيبدو للناظرين كأنه متعاطي لمخدر الكوكايين؛ يبتسم على أبسط الأمور. وهكذا، ومع الشهور القليلة تلاحظ المتباري المحظوظ بدأ في عملية التحول والإنسلاخ من أناه والعلاقات الاجتماعية القديمة. فيبدأ أيضا في التحول على المستوى الإيثوس والباتوس؛ فيبدأ برسم دائرة أناه الجديدة شكلا ومضمونا؛ تصرفاته الحقيرة المكبوتة تبرز كالبراز على سطح الماء، وخطابه يطغى عليه الوقار والرسمية والجدية الفجة، والاختصار والمحدودية، حتى مع من كان تربطه بهم علاقة الصداقة حينما كان في بؤرة المعطلين. بل حتى مع من أحسن له وكان تحت جناحيه في لحظات ضعفه يُظهر له الوجه المخفي المضمر تحت القناع، و ينقلب عليه في اللحظة التي تنقلب الأوضاع لصالحه. قبلما كان ذليل الروح يتحدث من بطنه، صار الآن له رأي وموقف؛ فإن كان طالبا باحثا، فيبدأ برمي وابل من النقد على أساتذته في أقرب فرصة ممكنة، ويصير خطيبا في الأخلاق، ويبدأ بمناداتهم بأسمائهم الباردة كثلج موسكو في شهر دجنبر، قبلما كان يناديهم بصفات كثيرة وجليلة. وإن كان مناضلا أو منتقدا لسياسات العامة، يصير صامتا أصما أعمى في لحظة التي يتشمم فيها رائحة البطاقة البنكية. أما محيطه الأسري يبدأ برسم الخطوط الجديدة في معاملته؛ فترى أمه تقرب له الأكل، وتدفئ له الماء، وإن كان نائما تغطيه، وإن كان خارج البيت تتصل به لتطمئن عليه خشية أن يقع في مكروه أو محظور. أما أبوه يبتسم في وجهه ويفتخر به في أقرب فرصة أو مناسبة. وفي المقابل، المتباري غير المحظوظ في اللحظة التي لا يرى اسمه في لائحة الناجحين يستشعر ببرودة تسري في جسده كبرودة موسكو في فصل الشتاء، ويسيل من تحت إبطيه عرقا باردا كعرق الموتى في لحظة الاحتضار، فإن كان واقفا ينزل على رحاب الأرض بتثاقل كتثاقل الجندي في لحظة تعرضه للرصاص من بندقية عدوه داخل المعركة. عيناه تذرف دموعا، وقلبه يعتصر ألما، ويشتُم حظه العاثر، وتسود في عيناه الحياة، ويصير مخدرا بالأحزان والأسى، وينغلق في ذهنه سقفُ التطلعات والطموحات، ويصير وضعه جحيما لا يطاق، كأنه في حفرة من جحيم، ويغلق عليه غرفته، وينزوي على نفسه كحجرة في قاع البئر، ويجره الحزن كنهر في يوم ماطر في فصل الشتاء الذي يبتلع كل شيء، ويصير المستقبل ماثلا في ذهنه كعجينة بلا ملامح، وتبدو له سنوات الدراسة الطويلة بمخاوفها وإخفاقاتها، بسهرها وتحدياتها، بمطرها وبردها وشتائها كمقطع سينمائي قديم بالأبيض والأسود. وإن رأيته في الشارع يمشي يبدو ككلب ضال متشرد تائه طائش. وفي محيطه الأسري تكون الحروب الكلامية الباردة في كل وجبة، وفي كل مناسبة اجتماعية تسأل عائلته سؤالا تنكريا، يكون على هذا النحو:"شنو كتعمل أفلان، كاين شي خدمة؟" لا يجد إجابة مقنعة حتى لو كان حاصلا على الدكتوراه في سوسيولوجيا الشغل، كل إجاباته تبدو باهتة باردة فارغة. فتعتمل في ذهنه سناريوهات كثيرة، لا يعرف شيئا ليفعله، فطيلة السنوات وهو داخل الحجرات الدراسية كدجاجة مدجنة، لا حرفة في يديه لتستره وتحمي ماء وجهه وكرامته في رحاب المجتمع الذي لا يرحم. فيكون السناريو الذي يتغذى بشراهة في ذهنه، كما تتغذى الأفاعي بلحم العصافير، سناريو الهجرة نحو الفردوس الأوروبي أو نحو الفردوس الإلهي؟ !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه


.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان




.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو


.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف




.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول