الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-محكومون بالأمل-/نصّ قصصيّ

ريتا عودة

2022 / 12 / 21
الادب والفن


"محكومون بالأمل"

كلمة "ألم" مكوّنة من ثلاثة حروف (أفقي)، يقابلها كلمة "أمل" من خمسة حروف (عمودي). أكدحُ ذهني. اللعنة على هذي الكلمات المتقاطعة! إنّها تستحوذ على أفكاري، وتستنفذ كلّ طاقاتي. تتزاحم الكلمات في رأسي، وتتضافر لتتقاطع صورًا على صفحة الذاكرة. أحبسُ أنفاسي. أتنهّد. أنتقلُ إلى صفحة الإعلانات عن وظائف شاغرة، ربما يحالفني السعدُ اليوم فأعثر على لقمة تكفيني سدّ عوز عائلة تتعلّق بعنقي كحبل المشنقة. تطاردني رائحة عفونة. ألقي بالصحيفة على الأرض. أعود فأتنهدّ وأبحثُ عن نافذة.
* * *
يستهويني منظر الثلج وهو يتساقط بخفّة، كأنّ أسرابًا من الطيور خلعتْ عنها ريشها ونثرته في الفضاء. يستهويني صخب الأطفال وهم يركضون حُفاةً تحت الثلج دونما شكوى، ويتنافسون على بناء رجال من الثلج.
هؤلاء هم المحكومون بالأمل!
نحن المحكومون بالألم!
*
تحرّكَ الحنينُ داخلي إلى مرتع الطفولة، إلى أيدٍ صغيرة تتسابق لتصطاد العصافير من أعشاشها، فتزجّ بها بفرح داخل الأقفاص الصغيرة وتروح ترقبها بفضول، وشيئًا فشيئًا تذبل اللهفة حين تدرك أن العصافير لا تغرّد إلا على شجر.
ألقيتُ حقيبتي المدرسيّة فوق عتبة المنزل. الباب موصد. لمحتُ والدتي وأنا في طريق العودة من المدرسة تدخل الجامع بخطوات مُتثاقلة. لا بُدّ أن أنتهز بضع دقائق لأستردَّ الشمس في عروقي. خلعتُ حذائي وواريتُ جواربي المثقوبة في أقصى نقطة منه. طفقتُ أنبشُ حفرة على طول جسدي النحيل داخل تلال الرمل.
ببرود هبطتُ داخلها. طمرتُ جسدي حتى عنقي. الشمس في منتصف الحلم وأنا بحاجة للدفء.أغمضتُ عينيّ ورحتُ أرتفع. هكذا سأبقى في ارتفاع دومًا. لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب من الحقائق برشاقة. تمطّى ظلٌّ قربي، وارتفع صوت ينخر ضميري:
- (هشام)، عدتَ لنبش الحفر؟!
امتدّت ذراعاها نحوي لتنتشلني من مرتع أحلامي. ارتعدتُ. سقط منديلها المبرقش فوق يدي. بانت ضفيرتها الشائبة. تلوّى فستانها الأسود المطرّز بقطب فلاحيّة بالية وهي تنحني لتنتشلني من الحفرة. انحسر فمها عن أسنان متهالكة.
- يا قلبي لمَ تهوى المشاكسة؟!
كالمعتاد، جاء حرف القاف رخيمًا مضمخًا بالنبرة الفلسطينيّة التي تطرب قلبي. جحظت عيناي. تراها تعفو عنّي هذه المرّة أم ستعاقبني؟! قالت بحنوّ وأنا انتصب كشجرة نخل في جنتها:
- يا صغيري، هيّا إلى طشت الماء.
طفقتُ أتهادى بفرح أمامها كجندي مشاةٍ في يومه الأوّل.
* * *
نظرتُ عبر زجاج النافذة. الشمس محتجبة منذ سنوات. سأنتهز بضع دقائق لأستردّها في عروقي. فتحتُ الباب برويّة وخرجتُ. في السماء غيوم متلبدة. في القلب ثلاث ورقات؛ ورقة للأمل، وأخرى للألم، أمّا الثالثة فما زالت تحمل بياضها.
رحتُ أتناول الثلج وأكدّسه كومة فوق كومة. سأبني رجلاً من ثلج، هذا الذي طالما راودني في صحوي ومنامي ووهبني قصفة حبق تُعطّرُ عفونة شتاتي، فتجعل للمنفى طعمَ وطن. أشرقتِ الشّمسُ في عروقي. سأضع له عينين من خرز، وأذنين من خشب، وفمًا من صوّان. سآتيه كلما اشتدّت وطأة الغُربة على قلبي. ها هو كما دومًا تخيلته؛ رجل من ثلج!
* **
- (هشاااااااااااام).
حاصرني صوتها وكأنّه الماضي المستمر. وقفتْ قربي مذهولةً؛ تارةً تتأمل رجل الثلج، وأخرى تتملّى ملامح وجهي. تراها تراني مشاكسًا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على أعراض الطفولة؟!
انتصبَ الرعبُ ككوز من الصبّار في جوف حنجرتي. ابتسمتْ برقّة.
حاصرني حنانها من شرقي إلى شوقي:
- يا ابني ألم تكبر على اللعب بأعصابي؟!
تحرر قلبي من قبضة الرّهبة. قهقهتْ بصخب. أصابتني نوبة ضحك.
قهقهتُ:
ههه... على جرح وطن سليب.
هههه... على ضياع هُوية.
ههههه... على رجال من ثلج على امتداد خريطة الأوطان العربيّة. ههههههههههههههههه.




(2004)
من المجموعة القصصيّة: "أنا جنونك" ريتا عودة، بيت الشعر الفلسطينيّ 2019
==========================================



آراء في النَّصّ:

نص سردي ابداعي تتناسق فيه الكلمات عبر رؤى سردية فاعلة تحاول ان ترصد واقعا متحولا عبر تأطيره في لوحة جمالية ابداعية يتناغم فيه الوصف مع السرد المشهدي الحواري الذي ينقل بإختزال تفاصيل الاحداث الصغيرة ليضعها تحت مجهر الفن ليعاينها المتلقي ويتفاعل ايجابيا معها لانها توهمه وتمتعه في الوقت ذاته .

د. حامد السامر/ تدريسي في كليّة الآداب، جامعة البصرة.

*
*
*

النّص صلصال يشكّله القارئ بوعيه، فشكرا لهذه السّردية المشهدية،والتي ماتنفك وعند كل قراءة تبدل أثوابها الجمالية في غرف التأويل.
لغة غنية بدالها ومدلولها الانزياحي، حتى تجعلنا نصدق المنلوج الداخلي هو لغة حوار شخصين وليس هو فلاش باك الحلم.

رزاق العيساوي / مدرّس لغة عربيّة

*
*
*

سرد جميل لواقع أليم واقتلاع الامل من بين جذور الأشواك .وصورة شاعرية ومعبرة رسمت بريشة فنان مبدع .ابعد الله عنك الحزن وملأ قلبك بالفرح.

دولت جنيدي/ فلسطين

*
*
*

لا فض فوك....أقرأ النص الرائع والمميز مرة أخرى و بإحترام ..وصفت واقع أليم..... لامس القلب والروح معا ... أبدعت وبإمتياز.

Mohammed Harb

*
*
*

بالرغم من عنصريتك ضد رجل الثلج ..! الا انه نصا جميلا وعميق الأحاسيس والمشاهد ..فيه شيء من الغموض ..لكنه رائع .بالتوفيق ريتا .

اياد خلايلة/جنين

*
*
*

تشكلين
لوحة من أوجاعنا بإمتياز ؛
دام
حبرك الذي يتدفق من دمي ..

خالد الساحوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان