الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/ سليمان النجاب3

محمود شقير

2022 / 12 / 21
الادب والفن


كان صديق الثقافة والمثقفين. امتاز على أقرانه من القادة السياسيين بعمق اهتمامه بالشأن الثقافي، (هل كان سليمان منظّراً في الفكر والسياسة؟ لا أعتقد أنه كان يسعى إلى امتلاك هذه الصفة، رغم المقالات الكثيرة التي كتبها لصحافة الحزب السرية. هل كان صاحب معارف واسعة تعينه على فهم حركة المجتمع والحياة؟ أعتقد أنه كان كذلك).
بعد أن واريناه التراب بيومين، كنت أسير في أحد شوارع رام الله. وأينما ذهبت تطالعني صورته، وأتأمل ابتسامته ونظرته الثاقبة. أمضي في الشارع المحاذي لمبنى وزارة الثقافة، أقترب من البيت الذي أقام فيه هو وفائق وراد، زوج أخته، رقية. أقاما معاً في ذلك البيت، لكن سلطات الاحتلال لم تلبث أن أبعدت فائق وراد من وطنه. تزوج سليمان من رفيقة دربه، ليلى، وواصلا الإقامة في البيت.
أتوقف على الرصيف، أتأمل البيت الذي أقام فيه فائق وسليمان، أحدق في الشرفة التي لطالما جلس فيها الإثنان، أحدق في نوافذ البيت، ولم أطل التحديق. كان ثمة رجل في الشرفة، ويبدو أنه استغرب وقفتي، فمضيت في طريقي وأنا أتذكر تلك الأيام.
بعد هزيمة حزيران بأشهر قليلة، جئت للاجتماع به في هذا البيت الذي يجلس الآن في شرفته رجل لا أعرفه ولا يعرفني. جئت لتسليمه تقريراً حزبياً عن نشاطات لجنة الناحية الشمالية التي تضم قرى شمال غربي القدس. كان ذلك اليوم ماطراً وبارداً، وبعد ساعة راح الثلج يغطي وجه الأرض بردائه الأبيض، فلم أتمكن من العودة إلى بيتي في جبل المكبر، بسبب تراكم الثلج في الطرقات (لن أنقطع عن رام الله، وسأعتاد طقسها البارد في أيام الشتاء، سأمشي تحت مطرها وأنا ذاهب إلى اجتماع أو وأنا خارج من اجتماع، وسأكون راضياً عن نفسي بشكل مؤقت، وستكون تفاصيل رواية ما من الروايات السوفياتية التي دأبت على قراءتها تلعب برأسي، فأمشي في شوارع المدينة وأنا مسكون بهواجس ثورية وأفكار). أمضيت تلك الليلة في هذا البيت الجاثم أمامي في صمت. كانت لنا سهرة ممتعة صحبة والد سليمان، الذي ظل يروي الحكايات والطرائف. لاحظت منذ تلك الليلة أن روح الدعابة وطيب المعشر وكل الصفات النبيلة التي يتصف بها الأب، انتقلت إلى ابنه سليمان.
أتجه إلى قاعة البلدية، أجلس بين أهل سليمان ورفاقه وأصدقائه، وأحدق بين الحين والآخر في صورته التي على الجدار، وأتذكر تاريخاً مديداً ووقائع جمة ومكابدات.
سأروي المفارقة التالية: مساء ذلك السبت، هاتفت نعيم الأشهب. قال لي إن صحة سليمان ليست على ما يرام، وثمة متاعب جدية لديه. هممت بالاتصال به، لكنني وجدت الوقت غير مناسب، وقررت مهاتفته عصر اليوم التالي، الأحد، كما اعتدت أن أفعل في كل مرة. سيكون قد نهض من نومه في غرفة مستشفى في مدينة أمريكية بعيدة.
بعد منتصف الليل بقليل، رن جرس الهاتف في منزلي، وأنا أقرأ في كتاب. قلت: إنها ابنتي أمينة.
لا يمكن لأحد أن يهاتفنا في هذا الوقت من الليل، سوى أمينة. إنها تعيش في الغرفة المجاورة لغرفتنا، أنا وأمها، وحينما تحتاج إلى النهوض من السرير، تستخدم هاتفها النقال، تضرب أرقام هاتفنا، تسمع أمها رنين جرس الهاتف، فتسارع إليها لتساعدها على النهوض.
أمينة التي عرفها سليمان طفلة في المنفى، ترحل معي حيثما رحلت، وتقيم معي حيثما أقمت، لم تعد قادرة على النهوض أو المشي دون مساعدة، فتك بشبابها مرض ضمور العضلات. لذلك، نهضت أمها مسرعة لكي تساعدها، دخلتْ غرفتها، وظل الرنين مستمراً.
ولم تكن أمينة هي التي تهاتفنا في هذا الوقت المتأخر.
كان عبد الرحمن عوض الله يهاتفني من غزة، ليقول لي إن سليمان مات.

4

كتبت في دفتر اليوميات:
البيت على كتف الجبل. بيت هادئ في الحد الفاصل بين المدينتين الجارتين. يمضي مبتعداً وهو واثق من أنه سيعود. يبتعد عن البيت مسافة مائة كيلومتر، يغيب أياماً ويعود. يبتعد عن البيت آلاف الكيلومترات، يغيب بضعة أشهر ويقول إنه سيعود.
البيت على كتف الجبل، وهو لا يعود إلا في كفن. كدّس تجربة حافلة في الحياة، ترك التجربة لمن هم حوله ولمن يجيئون من بعده، ورحل.

5

أقمنا حفلاً بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيله، ومرور سنة على رحيل بشير. الطقس خريفي يبعث على الأسى، والناس ينتشرون في شوارع رام الله، تتوزعهم هموم شتى، والمدينة ترزح تحت الحصار، والمدينة تتشكل من عائدين من المنافي ومن مقيمين، والمدينة تلتبس فيها القيم وتتصارع الاتجاهات، ولا يبدو ثمة ضوء في الأفق يشير إلى نهاية المعاناة. وهو هناك، مسجى تحت الثرى في قرية جيبيا، وهو هنا أيضاً، في قلوب رفاقه وأصدقائه، الذين توافدوا على قاعة مسرح القصبة. المسرح في قلب رام الله، وعلى مدخله يتجمع عدد غير قليل من الناس، والمدينة مشغولة بصخبها المعتاد، وهي تعي مثل هذه المناسبة التي تتكرر باستمرار.
ذهبتُ إلى القاعة. جلست صامتاً أتأمل وجوه الناس، وأنا حزين غير راغب في الكلام، حزين على رفيقي وحزين لأننا ما زلنا نتخبط في سيرنا، كما لو أن الأفكار الصائبة تمر بنا ولا تترك أي أثر، ورفيقي قضى عمره كله وهو يهدهد الأفكار. لم تكن صورته بعيدة عن متناول العيون. الصورة تتصدر القاعة بالابتسامة التي لا تنسى، وإلى جوارها، صورة صديقه الذي واظب على زيارته، أيام مرضه الذي أقعده وشل قدرته على الكلام، ما يقارب السنوات الثلاث.
كان يذهب إليه بانتظام، يحدثه عن أخبار السياسة ومنعطفاتها، يصغي إليه بانتباه، توحي عيناه المتيقظتان بأنه يتابع كل كلمة، وكل حرف. يستشيره سليمان في بعض المواقف، يعرض عليه رؤيته للأمور، ويسأله رأيه، فيجيبه بشير بحركة نازلة من عينيه بما يعني: نعم، أو بحركة صاعدة من عينيه بما يعني: لا. ثم يغادره على أمل العودة إليه بعد يوم أو يومين، ولا ينقطع عنه إلى أن يدركه الموت. يفرق بينهما الموت، ولا يلبث أن يجمعهما من جديد.
وحينما كان يصارع المرض، في رحلته التي امتدت من رام الله إلى عمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، خطرت ببالي الفكرة، وكدت أنقلها إليه أثناء مكالماتي الهاتفية معه، كدت أقترح عليه أن يدون شيئاً من سيرة حياته (اكتشفت لاحقاً أنه بدأ الكتابة ثم داهمه المرض ولم يكمل ما بدأ به). وكنت أحجم في اللحظة الأخيرة عن المجاهرة بذلك، لأنني لم أشأ أن أشعره بأن هاجس التحسب من غلبة الموت عليه، يكمن خلف فكرتي.
كنتُ أتوقع أنه سيعود إلى الوطن، وسنتبادل الحديث عن مرضه، كأنه غمامة سوداء ما لبثت أن انقشعت. وآنذاك سيكون للفكرة جدواها، وسيكون للإعلان عنها وقت مناسب، سأقترح عليه دون حرج أن يكتب عن تجربته.
ولم يمهله الموت لكي يفعل ذلك، لم يترك له وقتاً لكي يعود إلى الوطن. عاد في تابوت مشحون بالصمت وبالشجن.
أغوص في مقعدي وأواصل تأمل الوجوه المحتشدة، وأرى اكتمال المشهد الذي يرتسم أمامي الآن: الرئيس ياسر عرفات يجلس في مواجهة الجمهور الذي يملأ القاعة، ويملأ أدراجها وكل فسحة ممكنة فيها (حينما أصبح سليمان عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وقعت خلافات في الرأي بينه وبين ياسر عرفات، وتعرضت علاقتهما الشخصية للاهتزاز غير مرة. بعد ذلك، راح سليمان يستخدم أسلوباً مختلفاً في التعاطي مع عرفات، وهو أسلوب تقوية العلاقة الشخصية وبناء صداقة مع الرئيس، ومحاولة التأثير عليه عبر النصح الهادئ وتبادل الرأي على انفراد. وبدا واضحاً أن عرفات ارتاح لهذه العلاقة، فأمعن في تقويتها لاستثمارها في التأثير على سليمان ولكسبه إلى جانبه. ولربما كان سليمان محقاً في جانب من علاقته مع الرئيس، غير محق في جانب آخر منها، ما جعل هذا الأمر مثار خلاف مع بعض أعضاء الحزب، ومثار انتقادات جعلت سليمان حاداً في بعض الأحيان في الدفاع عن مواقفه واجتهاداته)، وعلى يمينه تجلس زوجة سليمان صامتة متألمة لغيابه. وعلى يساره، تجلس زوجة بشير، يسربلها الحزن ومرارة الفراق.
يتحدث الخطباء عنهما، يتحدثون عنهما معاً: بشير صاحب الفكرة المتألقة، وسليمان صاحب أسطورة الصمود في زنازين الجلادين. ويشرد ذهني إلى ذلك اليوم، حينما كنا نتجه في سيارات الجيش اللبناني من صور إلى بيروت العام 1975، يوم أبعدتنا سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى لبنان. السيارة العسكرية التي كانت تقلّ سليمان خرجت عن إسفلت الشارع، وكادت تهوي إلى الوادي، لكنه نجا في اللحظة الأخيرة، من الموت على الطريق الجبلي الذاهب إلى بيروت. ونجا من الموت غيلة وغدراً في زنازين سجن رام الله، ولما انكشف أمر اعتقاله، جاء به الجلادون لساعة أو ساعتين إلى الغرفة رقم 1، ثم غيروا رأيهم بعد ذلك، أتوا وانتزعوه منا وعادوا به إلى الزنزانة، واستمرت رحلة تعذيبه، أشهراً عديدة في سجون وزنازين أخرى، امتدت من زنازين سجن رام الله، إلى زنازين سجن الجلمة، إلى زنزانة انفرادية في سجن الرملة، بقي فيها عشرة أشهر، تمّت بعدها عملية إبعاده إلى لبنان.
تتوالى الكلمات، ويعلن الخطباء أننا بحاجة إليه وإلى بشير في هذا الظرف العصيب، نحتاج إلى ما كانا يتسمان به من عقلانية وواقعية (لدينا الآن تيارات سياسية متباينة، لدينا قوى معتدلة وأخرى متطرفة، لدينا سلفيون متزمتون. وثمة تفكك في نسيجنا الاجتماعي، والفكر العلماني ما عاد يجد آذاناً صاغية إلا لدى قلة من الناس)، وأبي أيضاً يفتقده ويحتاج إليه (مات أبي بعد سليمان بسنتين). حينما كانت إذاعة صوت فلسطين تسأله رأيه في هذه القضية السياسية أو تلك، كان أبي يجد متعته في الاستماع إليه، يدني المذياع من أذنه السليمة، ويستمع إليه، يقول لي: كلام سليمان مرتب ومقنع. وحينما كنت أزوره أو أهاتفه، أنقل إليه رأي الوالد في كلامه، فيبدي ارتياحه لذلك.
والخطباء يواصلون الحديث عنهما. ويبقى الرئيس في القاعة حتى اللحظة الأخيرة، (للرئيس قدرة فائقة على بناء علاقات شخصية مع الناس بغض النظر عن مواقعهم في السلّم الاجتماعي، وهي تعود عليه بشعبية ومكانة وتقدير).
يغادر الرئيس القاعة، والناس يغادرون القاعة بعده، والأسى يملأ المكان. إنه الأسى الذي يجعل الناس أقرب إلى بعضهم بعضاً، ويجعلهم أقدر على التفاهم والانسجام. والناس يخرجون إلى الرصيف فرادى وجماعات، يخرجون إلى الرصيف وسليمان مسجى تحت الثرى هناك، والمدينة المحاصرة تتهيأ لاستقبال الغروب. إنه غروب يملأ القلب وحشة، رغم حركة الناس وصخب السيارات وضجيج الأمكنة. رام الله في المساء تثير البهجة حيناً، وتملأ القلب حزناً في بعض الأحيان.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل