الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استرسال الذاكرة

عبدالله رحيل

2022 / 12 / 21
الادب والفن


والشمس في عمق السماء، تبحث عن أنيسٍ في نهار خريفيٍّ، شارف على الغروب، بين أروقة المدينة، التي لفّها صخب مارّة، وضجيج مركبات مغادرة، وأخرى آيبة، بينما الناس منتظرون قدوم قاطرة قديمة، تنفث حمم صفيرها في الفضاء الواسع.
وعلى المقاعد القديمة، وسط موقف انتظار لمسافرين كُثر، تحط أوراق شجر مصفرة بين المداخل وفي الساحات، تدور في الرياح العذبة اللطيفة، وصوت بائع هناك في البعيد، ينادي على سلعه:
-لذيذ أنت يا تفاح، يا مبهج الأرواح، ورفيق الصباح.
يجلس قبالة بوّابة القدوم للمواقف، التي امتلأت بالذاهبين والقادمين، وعيناه تجوس كلّ حقيبة في أيدٍ مثقلة بأحزان المدينة، وقد أتعبها جور السنين، يتغنّى على هديل الحمائم المنتشر في الأزقّة، ملتقطا ما خلّفته يد البشر، فيخرج دفترا قديما ممزقة أوراقه، وقلماً، كان قد خبّأه منذ حين، دوّن شيئًا، ثم أعاده إلى جيبه:
التفت يُمنةً، آنس فتاةً شقراءَ مسترسلة الشعر الفاتح بجانبه، وعيناها ترمقان الرّاحلين، وبيدها حقيبة مملوءة بأشياء، قد اشترتها من أسواق المدينة العديدة، والشكوى والألم باديان في وجهها البريء، الذي شهد تقلّبات مدارك الحياة:
-أأنتِ من هذه المدينة؟
-لا إنني فتاة قادمة من الريف، ابتاع بعض أشياء أحتاجها لبيتي الهادئ.
-لمَ لا يأتي معك شريكك في الحياة؛ تتشاركان مفاتيح الحياة.
-إني عزباء، وقد نشأت في حبِّ رجل شريف، قد آلمته السُّنون.
-مؤكَّد أنّك تنتظرين مثلي القاطرة، التي تقلّك إلى بيتك.
-نعم، وقد تأخّرت قليلاً.
تتفحّص ثنايا وجهه باهتمام بالغ، وقد حسّنت من جلستها، ثمّ قدّمت له شرابًا باردًا.
-شكرّا لقد تاقت نفسي إلى ما يرطب جوفها.
-وأنتِ ألم تشربي شيئا.
-قد انتهيت منه للتوِّ.
-يبدو أنّك فتاةٌ، قد أصقلتها تربيةٌ هادفةٌ في منزل لطيف.
-نعم، قد جَهِدَ والدي في صنعها.
-أهو يعيش معك؟
-نعم لكنّه لا يشعر بي.
-عجبًا، فمثلك لا تعجز العين عن رؤياها. ربما سئمت انتظار مستقبل قد لا يعود،
-نعم ربما كلامك صحيحٌ، لكنّي أدعو لك بظهر الغيب، أن يرجعك الله للحاضر؛ كي تّسعدَ، وتُسعدَ من معك.
-أيُّ حاضر، فأنا أعيش في الماضي، الذي لا أذكر منه إلا القليلَ.
-نعم، لكنّك تتكلّم بلغة الفلاسفة والحكماء، وعندك حنان أبويّ غامر.
-لأنّي رأيت الجمال في عينيك، ولمعان الفجر في شعرك المُنساب، ولبرهة خلت إني على موعد مع القدر والصدفة، التي طالما انتظرتها.
-هذا لأنّ أبي جميلٌ، وقد اهتمّ بي، وروحه دليل غربتي في مدينة لا تصادق الغرباء.
-أين هو، لا أراه معكِ؟
-هو في كل آنٍ معي، وفي كل خطوة أخطوها، وعلى المفارق أدلّه، وأطرب حين أسمع حديثه، وأنيس وحدتي في منزل قد اشتاق لألحان غنائه مع الأطيار.
-هل هو يحبّك كذلك؟
-نعم، لعلّه يدري!
أراح عقله من تزاحم أسئلة عديدة للفتاة، التي ما لبثت تجاوبه بحنان ولطف متعمّدين، ثم راح يرمقها بنظرة تفحّص من قدميها، حتى رأسها، وكأنه على موعد لحياة، قد تغيّر حياته، وقد غيّر مجرى الحديث طائر غرد، أمَّ المكان على صخرة في عرض الطريق، وقد مادت زهور بالقرب منه، معتلّةً بهواء الخريف العذب العليل، قطف وردة فيها بقايا أوراق، وقدمها للفتاة. وطلب منها أن تحتفظ بها.
-رأيتُكَ قبل قليل تكتبُ بدفترٍ قديمٍ، أعدتَه إلى جيبك، لو سمحتَ يا...... أن تقرأَ لي ما كتبت.
-نعم، لكنّي لا أذكر ما كتبتُ، غير أني قد خبأتُه في جيبي.
-لِمَ خبأته؟ أهو كلام خطير؟
-لا أعلم، لكنّي خبّأته حتى تقرأه ابنتي الجميلة، التي تنتظر عودتي.
-أهي جميلة؟
-نعم، كالبدرِ وكزهرة غنَّاء في غابة بعيدة عن الأنس، هي لون الحياة ورائحة المطر، نجمة ليل وحيدة حينما يغيب القمر.
-أتحبُّها؟
-نعم، هي قالت لي يومًا، إن لي والداً يحبنّي.
-صِفّها لي، لعلّني أراها، وإن عرفتها؛ آخذك إليها!
-هي طويلةٌ ممشوقةٌ بيضاءُ، عيناها سوداوان، قد اكتحل جفناها من لون الغروب، تلبس ثيابا ثمينة، وفي أعلى رأسها شريطُ شعرٍ عذبٍ أحمر، قد كتبت اسمها عليه، تحبُّ القهوة، وترسم على الرمل صورة حصان، ووالدها يجرُّه، يداها نحيلتان، حذاؤها أحمر.
-أتشبهني، يا عماه.
لا لا لا تشبه أحدًا من البشر، هي جميلة فقط، مخلوقة وحيدة، لا يشبهها أحدٌ.
لم تتمالك الفتاة الحسناء دموعا، قد اغرورقت عيناها للتو، فمسحتها بأصابع مخفيّة عنه، وشردت في الطريق الواسع العريض، الذي امتلأ من القادمين والذّاهبين، وقد جاشت بكلمات حزينة: " ليت شيئا ما يحدث ويغيّر الأحداث، ويرجع الزمان إلى البداية، حتى ألمّ صفحات حياتي من جديد، بمسرّة، وأعيد ترتيب قصص الماضي الأليم، لعل هذا المساء يحمل لي تغييراً"
-أعطني الدفترَ، الذي كتبت فيه، حتى أقرأ لك ما كتبتَ.
مد يده المرتجفة رويدا إلى جيبه المترهّل، فأخرج القلم والدفتر القديم، وقد ناولهما لها.
-ما مكتوبٌ في الدفتر؟.
نظرت الحسناء للكلمات المتناثرة، وقد ساد المكان سكون وهدوء، وراحت تمرر يديها على خطوط الكتابةُ، وتتلعثم الحروف في شفتيها، وتداخل الواقع بالألم.
-لم لا تقرئين لي ما كتبتُ؟
"كانت عندي روحٌ تحيطني بالأمان، وبالأمل تلاحقني أينما ذهبت، وتسرد لي عملها اليومي من الصباح حتى المساء، وتطعمني كثيرا، وتقوم على راحتي، كم أفتقدها الآن" من هي يا عماه، التي تقصدها؟
-لا أعلم، هي روح أفتقدها كلّ حين.
نزلت دمعة من عيني الفتاة، وغابت كلماتها في عويل المارة، وناحت على نوح الحمائم في المروج القريبة منها، وأسندت ظهرها إلى الكرسي العتيق، وقد أعادت الدفتر إلى جيب الرجل، وهناك من بعيد شقّ الصمت هدير قاطرة قويّ تصفر في شوارع المدينة، التي باتت على موعد مع الغروب، بينما الحمام غادر المكان، بعد أن التقط ما يكفيه، لملمت الفتاة أشياءها، وأعدّت نفسها لركوب القاطرة، التي توقّفت، والناس يصعدون إليها، فوقفت ومدّت يدها الناعمة الحانية إلى يد الرجل، الذي ظلّ جالسا، وقالت له، قم يا أبي فإن موعد ذهابنا قد حان، ويجب عليك تناول دوائك في الموعد المحدد.
ركبت الفتاة مع والدها، وسارت القاطرة تمخر الغروب بصوب حزين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا