الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزء السابع من رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الروائية الاخيرة 2020م غير المنشورة

أمين أحمد ثابت

2022 / 12 / 24
الادب والفن


قد تغير من طرقك للتكيف
، لكنك لا تمتلك قدرة تغيير حقيقتك . . في محيط
يبقيك محاصرا . . مطارد .





حين ادركت ابتلاع الآمك بعد محاولات شاقة لتبقى دون انهزام روحك ، وقلت في نفسك هي الضرورة لتخفيف المشقة والعناء اعلى من طاقتك ، لم يرد الى عقلك من قبل ، الغارق في مساحات واسعة من تكوينه في المثل والتصورات الذهنية التي غرست فيك منذ الصغر ، ونمت فيك حتى اللحظة – لم يكن لديك أبا يكبح اوهام تخيلاتك الحالمة ، يشدك للنظر اسفل قدميك الف مرة قبل أن تحلق برأسك عاليا ، اب يعيد اصلاح ما غرسه في ذهنك من الفضائل بأنها لا اقدام لها في واقعك المحسوس . . حين تكبر – حين خلقت معادلة التكيف إرضاء للشروط المحيطة بك . . حتى يتم تقبلك – تدرك من حين لآخر ، أن ضعفك لم يتغير شعرة واحدة في العالم الذي أتيت إليه ، لن يتغير . . هو ما ستكتشفه ، طالما بيئة حضورك تفتقد خصائص المساعدة لتحريرك من المأساة . . الجاثمة على نفسك ، وقطع حبالها المنسوجة عليك – هو ما خلصت اليه . . تكرارا خلال تنقل اقامتك الثلاث ، أن من ينتشلك و . . إن تغيرت الوجوه وطباع اشخاصها ، تقف حدود انقاذه لك في رحمة التعاطف ، ما يجنبك الموت جوعا او بردا ، انقاذك من الضياع لا يتعدى . . التقاطك من التشرد في الشوارع – عيب على أي واحد منهم . . أن يوجد يمني يرقد في العراء مسكنا ، ويلتقط بقايا الملفوظات من القمامات ليشبع جوعه الى جانب ما يمكن أن يحصل عليه من قروش خلال التسول في الشوارع ومعاض البيع والمطاعم او حتى من طوابير السيارات الواقفة في ازدحام عند الانتظار الطويل لانفتاح الاشارة الخضراء لمواصلة سيرها – روحك لا تدخل في حياتهم واهتماماتهم ، روحك تخصك وحدك ، احلامك . . امالك و . . جروحك النازفة . . تخصك وحدك . . .

تجلس اللحظة مرتشف كأس الشاي على الشرفة الواسعة في الطابق الثالث من شقة اقامة فاهم والراجحي في الدقي – لم يكن المبنى يزيد عن خمسة طوابق – كانت الاشجار المعمرة الطويلة تحيط بالمباني من نفس الارتفاع او تزيد قليلا وامتدادات الشوارع الفرعية المسفلتة – وقت مضى بعد فتح جامعة القاهرة ابوابها للعام الدراسي الجديد . . منذ انتقلت من شقة المنيا ، تظل متشكرا عونهم عند وصولك وابت اخلاقهم أن يحتملوا بقائك لبضع شهور دون انتظار حتى كلمة شكر او احسان يعود عليهم . . مهما كان حدوث انتقالك محمولا بأي الم يجرح حسن ما فعلوه معك ، فلم يكن هناك غير سهيل وعامر من إنتشل ارتماءك كغريب في عالم مجهول لك ولا يعرفك احد – لم تتفوه بكلمة عن اسباب تغيير اقامتك ، تذرعت بشعورك بالإحراج الشديد وما تشعر به من ثقل على نفسك لطول اقامتك عندهما – لم يبدر عنهما شيئا ضايقني ، على العكس . . وقفا رافضين على انتقالي ، اعتذرا إذا بدر شيئا منهما غير مقصود قد ازعجني – ماذا تخسرنا . . لا شيء – كل ما في الامر اني اريد اغير من المكان لا اكثر – على كل البيت بيتك – هذا ما كنت اقوله ، فقد اخذت على نفسي في ضعفي أن ابتلع اوجاعي في داخلي ، اعرف أن شكاء الضيف . . يرجع سلبا عليه دائما .

قدم النعماني بيده كأس شاي وجلس على المقعد الاخر مقابلا لي بعد أن القى التحية – كيف حالك اليوم . هل راحا فاهم والراجحي الجامعة – من ساعة ماضية – اجبت . . وقد اخذتنا نسائم الرياح الباردة المشبعة بالأكسجين لبرهة من الصمت ومعايشة الحياة التي تدب في الخارج – البنات حلوات . . واضح عندك معجبات – والله ما احد سائل في احد – ابتسم وبكلام تلغزي مشاكس . . كلنا لا حظنا لا يظهرن إلا حين تجلس انت على الشرفة . . ويكونن بشوشات ويطلن في بقاءهن ، حتى أن فكري شاكسني مرة – مكانك دون جوان . . كما عرفناك في الجامعة ، كل البنات حولك و . . البعيدات من مكان وجودك . . كنا نلاحظ انهن يتابعنك بنظراتهن ويتهامسن عليك – فكري . . انا في هم ثاني . . والله ما اشوف احد – تمدد الحديث المداعب يومها حتى دخولنا من الشرفة واكمل الراجحي قوله . . والله حرام ، من يوم سكنا . . حين نراهن نخرج الى البلكون فيغادرن مباشرة – في يوم اخر قال فكري المعروف في تعليقاته المشاكسة الضاحكة ونحن في مجلس الصالة المفتوح عليه باب الشرفة ، المطلة عليه بوضوح الشرفة الاخرى والبنات واقفات عليها – هيا شوفوا . . اخرج ياعبدالواحد واجلس اشرب الشاي لربع ساعة ، ادخل وانا سأخرج و . . بعدين سأدخل ويخرج عبدالسلام او الراجحي - خلال قعدتي ظللن يضحكن ويتمازحن ، دخلت وخرج فكري غادرن مكانهم ، ثم دخل وخرج الراجحي ثم خرج الى جانبه عبدالسلام . . ولم تبدو أية واحدة – قهقه فكري ويشدني من يدي بعد مرور عشرين دقيقة للانضمام اليهما للجلوس على الشرفة ، الغريب . . ما أن جلسنا جوارهما لبضعة دقائق خرجن مجددا الى شرفتهن ، ضحكوا ثلاثتهم و . . بجرأة لوح فكري لهن بالإشارة علي إذا كن يرغبن بالتعارف ، خجلت وفوجئت تلويح ايديهن ورؤوسهن بالإيجاب – فالمسافة ليست ببعيدة – دخلت مسرعا الى الصالة كشعور بالحرج ظاهرا ، والحقيقة اني كنت اجدني لتسري حياتي في المكان الذي اقيم فيه – بين اساتذة مبعوثين للدراسة العليا كأناس جادين ومحتاطين على سمعتهم - أن اكون غير ميال للهو أو النساء ، خاصة في وضعي الذي انا فيه ، وأن وجودي في القاهرة كان هروبا في قضية جادة لا يقع فيها أي شخص عادي – اعتقادي هذا . . يمثل الوسيلة الوحيدة والصحيحة لامتلاك ثقة الاخرين من سأقيم معهم ، كبرنامجي اليومي الذي سلكت فيه قضاء غالبية اليوم خارج شقة المنيا ، كان قد نزع عبء ثقل وجودي و . . جعل اقامتي تستمر لوقت على قليل هناك .

لا أنكر ارتياحي في مكان اقامتي الجديد ، وبعد تخلصي من عذاب قضاء اليوم كاملا من الصباح الباكر وحتى العودة بعد منتصف الليل ، فالقاطنين هنا جميعهم ليست بغريب على أي منهم ، حتى النعماني كان اكثر ترحيبا لوجود صفة قرابة بيننا ، كما ويحب وجود مثقف ويتناقش معه ، خاصة وان فكري والراجحي رغم جديتهم في الدراسة لم يكونا يستهويهما النقاش إلا نادرا ولزمن قصير جدا .











***

ذهبت سائلا عن الدكتور تليمة ثلاث مرات خلال شهر سبتمبر بعد العشرة ايام الاولى منه ولم التقي به ، كانت زيارتي الاخيرة منها حصولي على رد جاف – لم نعد نراه إلا نادرا يمر على القسم ويغادر سريعا . يبدو انه قدم تفرغا علميا هذا العام ، إذا جاء فقط للقاء طلبة الدراسات العليا الذين يشرف عليهم – لمست تثاقلا في الحديث معي لم اعهده قبلا من السكرتيرة ، رغم اني أسأل واقفا واغادر مباشرة إذا لم يكن موجودا ، لم اعد ألتمس العذر لانتظره – عند مغادرتي الغرفة تواجهت مع احد الموظفين الذين رأيتهما قبلا خلال زياراتي الاخيرة للقسم قبل بدء اجازة الصيف و . . لم اشعر بارتياح آنذاك لتساؤلاتهم الفضولية والتعمد في جر احاديث معي – اهلا . . استاذ ، مش موجود الدكتور ! ، لقيته من ذلك الوقت ؟! ، تفضل استريح . . اكيد سيجي اليوم – يجر ذراعي كما لو كانت بيننا معرفة طويلة للعودة الى القسم للانتظار – شكرا لك . . سآتي مرة اخرى . . عندي مشاغل لازم انهيها – خرج معي مرافقا سيري في الممر وعند نزولي السلم . . وذراعي لم يتركها كصديق حميم . . حتى وصلنا فناء الكلية – سأجيء معك لتسهيل معاملاتك في الادارة – شكرا ما تقصر ، لكني سأذهب للوزارة و . . عندي مشاوير اخرى ، إ . . إذا حضر الدكتور اليوم . . بلغه اني اتيت وسألت عنه و . . سأمر غدا بعد العاشرة – بصعوبة تخلصت منه بسيري المستعجل لأستغل الوقت لقضاء اشغالي – رأيته بتلصص بعد اجتيازي الكلية ، عند زاوية مبنى اخر يقطع المسار المستقيم حاجبا الرؤية لمبنى كلية الآداب . . واقفا في الفناء الذي تركته فيه . . يلاحقني بنظراته . . اين سأسير – عرجت قليلا خلال فناء المبنى – فكرت سريعا . . بأن افضل طريقة أن اعدل سيري الى نحو المساحات المفتوحة من الجامعة . . لأكون مرئيا . . خلال مغادرتي نحو بوابة الخروج من الجامعة – إني اثق جدا بإحساساتي وحدسي تجاه امور غير مرئية . . اشعر بها – ليس علي شيء ، لأكون ظاهر في حركتي و . . عند الكثير من الاعذار لتبرير مجيئي للجامعة ، حتى منها اني اريد تغيير تخصصي في الدراسة العليا الى الادب العربي والنقد بدلا عن مجال العلوم الطبيعية الذي درسته في الجامعة سابقا – غرست ذلك في عقلي وما تلحقه من تبريرات مدعمة . . غير أني ازور العديد من زملائي في الدراسات العليا . . ليعينوني على تغيير تخصصي – لا اعرف كيف ولماذا عاودني الشعور بوجود يترصد حركتي بتخفي لا يمكن رؤيته ، ذات الشعور القوي الذي اختبرته طويلا في اليمن – كنت قد اخبرت سهيل اكثر من مرة في الفترة الاخيرة من اقامتي عنده في المنيا ، أني اشعر احيانا في الفترة الاخيرة بأن هناك من يراقب تحركاتي ، كان يضحك بسخرية . . بأني أبالغ في تضخيم نفسي – من أنت و . . ما الخطر الذي تمثله . . ليتابعك امن الدولة – لاتوهم نفسك – هنا كل الاتجاهات السياسية موجودة وعلنية ، يعيش هنا من كبار الرموز السياسية اليسارية واليمينية من كل البلدان العربية . . المعارضين لأنظمة حكمها ، حتى قيادات انقلاب منهم محكوم عليهم في بلدانهم - حتى من جماعة التحرير الذين هربوا من الجنوب من زمان ومطلوب القبض عليهم أو الشيوعيين المطلوبين تسليمهم من الانظمة العربية الاخرى – بطل وهم وتخوف . . ما احد عارف اين انت – ذات الكلام جوبهت به مرارا . . حين كنت اخبر من الاصدقاء الذين اثق بهم ، أكان عند جلسة نتحادث فيها او احيانا خلال تمشية أو تسوق نمر فيه على معارض البيع . . اشعر فيها بالمراقبة – يتلفتون في كل مكان . . لأكثر من مرة اثناء السير أو الوقوف داخل محل من محلات الشراء – ما في شيء . اطرد الوهم الذي برأسك . . انت في القاهرة الان وليس في اليمن ، كل واحد في همه و . . لا يهتم احد بالآخر – قال فكري في يوم ونحن نشرب الشاي في شرفة المنزل عصرا – شيل هذا الوهم والتخوف من رأسك ، هنا كل انسان . . حتى المحسوب على المعارضة يقول ما يعتقده علانية وينتقد امام الملأ وفي أي مكان ، لا تسائله جهة او يمنعه احد ، وإن افترضنا حقيقة تجري مراقبة لك من مخبري الشمال . . فلن يعملوا لك شيئا هنا ، اكثر ما يستطيعون عمله . . كتابة التقارير عنك لحين عودتك الى الداخل – لا تكلم احدا ، سيجعلونك مسخرة في احاديثهم . . يتندرون عليك . . امامك ومن وراءك .

تعود مجددا لحقيقتك الخانقة لأنفاسك . . أنك وحيد ، كل من يحيط بك مهما كان قريبا منك ويكن لك المشاعر . . لن يقبل حتى افتراضا ما تقوله – وإن مرر لك الامر مرة بتجاهل وتعاطف معك لطرد الخوف الذي ما زال يعلق بك من اليمن – مع كل فترة تمر . . حاملة خبرات وتجارب مؤلمة لأوضاع غرست فيها قسرا لا تناسب وعمرك ، كان الالم والعذابات التي تقهرك لأمر مخفي فيك . . غير مدرك منك أو غيرك ، انك ما زلت مسكونا بطفل لا يعي حقيقة الناس الواقعية . . في ممارستهم العيش وروابط العلاقات فيما بينهم ، اللتين طبيعيا لا تكونا مثالية كما يتصورها الطفل والمفاهيم الاخلاقية المجردة المطلقة ، بل تكونا مفرزة للكثير من الالام والمعاناة . . لكونهما تحكمان بظرفيات ونزعات وحسابات تختلف من انسان لآخر . . تكون بعيدة جدا عن الافتراضات المثالية ، ولا يحضر فيهما من الاخلاق واقعيا في الممارسة إلا حدا ضئيلا اوليا من المثل الاخلاقية ، بينما تكون مشبعة بإملاءات الوجود الزمني للناس فيما هو سائد . . يحدد البقاء والاستمرار وليس المثل التي نربى عليها – هو ما تجده في قول العامة من كبار السن عفويا : التراحم . . التعاون . . الإيثار وغيرها الكثير كانت موجودة قديما تحكم العيش والترابط بين الناس ، لكنها اختفت راهنا في حياة اليوم – سر عذاباتك روح الطفل الساكن عقلك العاطفي الذي يناقض عقلك المعرفي ، فما تدركه حسيا يجعلك أن تتقبل العيش كأمر طبيعي فيما يوجه به ذلك الادراك ، ولكنك تنحشر في دوائر من مشاعر الغضب والحسرة واحاسيس القهر ووحشية العالم الذي تعيش فيه . . تحت املاءات عقلك العاطفي الرافض لما انت واقع فيه . . لخلوه من المثل الاخلاقية – هذا ما تكتشفه سرا دائما مع نفسك طوال فترات مسار حياتك ، حتى وإن اختلفت الظروف والتجارب التي تسقط فيها – ذاته الامر فيما وجدته في التقافك من الاصدقاء واحاطتك بعنايتهم . . تظل انت وكل ما يتعلق فيك . . خارج دوائر اهتماماتهم وحياتهم ، يفكرون إلا بما يخصهم ويرتبط بأنفسهم خلال عيشهم – حتى ما اسعدك بتلاشي الغربة الممتطية روحك خلال الحفاوة والحميمية التي استقبلت بها من المثقفين المصريين ، وما جرى من توسع علاقاتك ، التي نقلتك الى احاسيس جديدة أشعرتك بأنك في بلد واناس لم تعد غريبا عنهما . . بل كأنك من تكوينهما ، وجدت نفسك حين وصلت الى قناعة تسيدها على عقلك بشعور الرضا والطمأنينة والامل الذي لم يعد منسدا طريقه كما حدث لك في اليمن – لكنك مع كل فترة تمر من عمرك ، وجدت أن كل من احتفى بك وتعاطف و . . عظم من احترامك . . بعد مرور الوقت . . يتعامل معك ببرود كشخص يعرفه ويألف رؤيته يوميا ، لا يبقى من ما اسرك سابقا أي شيء ، السلام والسؤال عن الحال فقط – كعادة كل عربي يقلها عفويا دون اهتمام للإجابة – وإن ازاد تعبير الود . . يسألك ما أخبارك و . . كيف تقضي اوقاتك . . ثم سلام الوداع وتمني اللقاء في اقرب فرصة – ادركت الان متأخرا . . كما يحدث معك دائما ، انك إن اعتقدت أنك تعرف كل شيء . . يجعلك حكيما في فهم الواقع والناس الذين يحيطون بك ، وأن تجيد التعامل معهما بما يحقق لك العيش بينهم وتبقى الحياة مفتوحة امامك ، تكتشف أن ما تعرفه سوى الظاهر الملموس لك ، بينما لا تدرك الكثير من الخافي عنك مما يجري من الملموس . . الذي لا تصل اليه حواسك المحدودة إلا بادراك ما هو قريب ، وإن اجتهد دماغك بعمله المجرد في تلمس ما يجري في الخفاء وغير ظاهر مباشرة لك او من هم حولك ، ينظرون اليك بعين الريبة او السخرية او الهوس المرضي لتضخيم الذات او اختلاق توهمات للبطولة واشباع للذات بما تعانيه من النرجسية او حالة التفوق والتميز الاستثنائي عن الاخرين واشعارهم بذلك – لن تجد من يفهمك ، من يعرفك . . دون اتهام أو ظن ، من يعايشك فيما تحتاجه في معايشتك . . لا فيما يمكن أن يتفضل به لك – كاحتضان قطة او كلب او طائر نعينه على وجود مكان لإقامته ومده بالأكل والشراب لكي لا يموت – غير ذلك فهو امر لا يعنيه – لن تجد معنى انسانية كاملة ترتبط بك كإنسان . . من انسان اخر ، يحس بك ويشعر كل ما لا تفصح عنه . . دون أن تقول كلمة ، يعين بما يقدر عليه مما يعذب روحك ويخفف الالم عنك ، ليس تعاطفا او مجاملة او تظاهرا ، يتعاملا لا يختلف مسلكه بعد مرور الزمن عما كان قائما في البدء – من جديد يعود دماغك يسبح في التفكير تارة واخرى في الشرود خلال خلوتك وحيدا دون وجود احد ، تقضي معظم ايامك في الجلوس تمطر اوراقك بحبر الكتابة الذي لا ينتهي ، بين المنتزهات المفتوحة تحت ظلال الاشجار او ضفاف النيل و شرفة منزل الدقي من بعد العاشرة صباحا . . وحتى عودة أي من الاخرين من بعد الخامسة مساء ، تظل تهيم وتكتب وترتشف الشاي و . . تكتب ، تجمع الاوراق رزما فوق بعضها . . منذ وطأتا قدماك ارض الكنانة . . .

- سمعنا من اخر القصائد . . التي كتبتها مؤخرا .
- انا اكتب قصيدة النثر – من زمن بعيد لم اعد اكتب الشعر المنظوم .

كان مزاج الاصدقاء الثلاثة جيدا بعد عودتهم من الجامعة عند الخامسة ، كل واحد منهم اخذ راحته من اخذ دش سريع وتغيير الملبس واعداد الشاي – نعمل لك شاي معنا – ممكن . شكرا . قدموا ثلاثتهم للجلوس في الشرفة والنعماني يحمل كأس الشاي المسكوب لي – ما قطعنا حبل افكارك – لا . . انتهيت قبل مجيئكم بقليل – كان اخباري بكتابتي للشعر المنثور للفت انتباه النعماني ، الذي من طوال معرفتي به عند تحدثه في المنزل بين اربعتنا أو . . حتى مع واحد منا بصوت مسموع أو في الخارج مع الاخرين من الاصدقاء الذين نصادفهم او نلتقي معهم عند نزهة التمشي الليلية أو مع العامة في المقهى او محلات البيع . . كل كلامه باللغة العربية الفصحى ، منتقاة بألفاظ جزلة تخرج من فاهه بتأن عفوي تلقائي ، ويتخلل أي حديث له ابياتا من الشعر العربي الجاهلي والحديث بالوزن القافية – في حديث جرى بيننا اكد موقفه بأن القصيدة إن لم تكن مقفاه ومكتوبة وفق بحور الشعر الستة عشرة المعروفة وبنظم محكوم بالأساليب التي تطورت في كتابة القصيدة من شعراء الجاهلية وصولا الى صدر الاسلام . . لا يعتبره شعرا ، لا يعترف من شعراء الزمن الحديث إلا بأحمد شوقي ومن اتبع نهج قدماء الشعر ، حتى شعر المهجر وشعراء الحداثة للقصيدة الموزونة كالبياتي والسياب . . يرى في كتاباتهم تغريب لجماليات روح الشعر ، قادت لضياع الشعر كاملا بإيصاله الى ما يسمى بقصيدة النثر ، التي وإن حملت الايقاعات الموسيقية داخلها فهي نثرا سردي وليس شعر – عادي سمعنا ، المهم كلام جميل – كان قد سمعت من الاخرين عنك ، وقرأت من مقالاتك الفكرية والسياسية من الصحف اليمنية التي تصل إلينا هنا – أقلب الصفحات لآخر قصيدة ارقتني لفترة ، تخيلت نفسي في ارتحال حتى من عمري المستقبلي – لا تشرح – يقاطعني النعماني . . فأبدأ في قراءة نص مما كتبته

أقدر . . ممكن له أن يكون
لأرض حلمت بها
أسلمت أشرعتك بيسـر
. . لمسار رياح مبعثرة
تأتي من الاتجاهات الأربعة
ومن الزوايا المتضاربة في المكان
بين أزقة مثقلة بالهموم . . لم تزل باقية
ومدن - كانت هنا – لم تزل تبحث سر الغياب
ريـاح . . تعيدك مرة لذاكرة عن أبيك
حين قضى عمـره – طافرا – بحثا عن السوسنة
تعيدك . . إلى جلسته الحالمة
- اخر العـمـــر -
يكتب أشعارا في المقاتل
، الظالم . . حين يمنطق الحياة
. . قوة ذاته . . الماحقة للعباد
، يحلف بعنقه لم يؤذ هرة
ويتوسل كل ضرير
. . أن لا يكون سبب ضره
، أو طفل . . طالته أوهام تعاليه
يكتب تاريخ مسلمات ناقصة
- لم يكن يعرف للتاريخ أوجها
، لكنه خلق وجها له
أن يرسم بحبر سلطان المكان
يمحو تارة أثر العابرين في التضحية
ويرهن البلاد لعـسس يجوبون الأزقة
وثلة عابثين – كانوا بالأمس فاقدين الرجولة -
اليوم يحلف الأعلام باسمهم
. . ولم يتركوا بقعة للمسير
- تاريخا . . لم تكن تراه يا أبي
مدادا صرفته ثلاثة أرباع قرن
تلاشى في زحمة التوارث
بين جوع .. وخوف
وانكسارات في الفراغ

- رياح تشي سرا إلى الذاكرة
ذات خريف . . حين كنا صبية
نطارد السنونو . . تارة
وأخرى تعصف في أذنيك . . قهقهات
. . اللعب الصادح في المكان
وروح هيفا تلهمك الذكورة
. . في عمر الطفولة
- كانا نهداها يبزغان كأعلى تلال . . رأيتها
براكين كانت تؤجج دماءك في العروق
- شهقات . . أهات . . إنذواء
- لم يصدقك أحد الرواية
. . لم تصادق المعرفة صحة الرواية
. . لعمر في الطفولة
- زوايا تترنح بك مسار العمر
تغرس فيك عـنــد أبيك القديم
وتنزع عنك هدأت العيش
- زوايا تبكيك دما . . لشعب غاف على أسماله
لشواهد قبور . . يقولون عنها بلد
لأرض تباع
. . لمــاء يباع
لهــواء لم يعد ملكنا
لا ترى في المكان سوى بق يتلون في المكان
يمتص رحيق ما تبقى
ومنتظر . . لزمن قادم
. . لا تلوح راياته في الأفق
لا نحس شبرا مما كنت تحلم به
زمن . . كل ما كتبته يظل غائبا
- كأبيك . . البطولة لا تغادر معطفك العمري
. . لا يغادرك الحلم
. . وانكسار شعب ينيبك عنه للوقوف على المقصلة
فتصرخ عند كل وقفة
عند كل ألم يعصر أحشاءك عنوة
. . مع تكاثر المتسولين في الشوارع
ورضع لم يغادرون حلمة الحليب
. . يرشفونها ساعات طوال
ولم يحصدون سوى القطرات
واحتراق الجلد عند الظهيرة
وأعين تتلاشى وراء بيض الذباب

- تصرخ عن قصور شيدت بدم الصامتين
. . الجائعين . . في أرض كذبوا علينا
. . حين لقنا اسم السعيدة
ومع علب الغذاء والحليب
تعطى لأولادنا . . عبر لصوص يديرون الزمن بصمت
فنعلق بقدر- صنعوه – طواعية . . نؤمن به
ونرمي عليه امالنا

- أصرخ على تلفاز يلوك المديح لستين عاما
ولقرون ماضية يصفق الشعب علنا
وينتشي عند صور الأمير – سرا – يقول :
الحياة فانية
و لا حياة . . سوى الاخرة

أسلمت شراعك بيسر
- تظل تقاوم -
لقدر محكوم فيه أنت
أن تكون فعلا غائبا
، أو تكون راوية زمن أخر
. . وقد لا تكون
تكتب خفايا ضائعة
. . عن الأخرين
. . و لا يظهـر منها شيئا
. . كأبيـــك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظروا حلقة خاصة من #ON_Set عن فيلم عصابة الماكس ولقاءات حص


.. الموسيقار العراقي نصير شمة يتحدث عن تاريخ آلة العود




.. تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على آلة العود.. الموسيقا


.. الموسيقار نصير شمة: كل إنسان قادر على أن يدافع عن إنسانيته ب




.. فيلم ولاد رزق 3 يحصد 202 مليون جنيه خلال 3 أسابيع