الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرحيل الافتراضي!

سليمان جبران

2022 / 12 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


:

قبل سنوات كتب إليّ باحث شابّ، من البلاد العربيّة، يعدّ رسالة للماجستير في الأدب العربي الحديث، بعنوان: "شعر المقاومة في فلسطين المحتلّة". قال الطالب المذكور في رسالته الإلكترونيّة ما معناه أنّ أهل البقيعة جميعهم لم يغادروا بيوتهم، كما وجد في المراجع التاريخيّة، فما معنى قصيدة "1948" لأخي سالم؟ هل القصيدة متخيّلة أم كان الرحيل فعلا؟
كتبتُ للباحث الشابّ الكثير، معظم ما أذكر، وأنا أكبر من أخي سالم بسنتين. بل إنّ بعض ما أورده أخي سالم في القصيدة المذكورة، كتبتُ للطالب السائل، كان "تسجيليّا" إلى حدّ بعيد. ربينا في بيت عربي تقليدي، لا يرى في الدمع إلا الضعف، صفة المرأة، لا صفة الرجل الرجل. لذا فإنّ أكثر ما أذكره غيبا من القصيدة تلك:
دمعتْ عين أبي، أوّلَ مرّة
كان كالفولاذِ، طول العمر
والدمع بعين الحرّ جمرة!
إي والله، تلك الدمعة لا ننساها. وكيف لنا ذلك ولم نرها في حياتنا، لا قبل ولا بعد؟!
أسمح لنفسي أيضا بذكر "وقعة الرمّان" المبكّرة يومها. كانتِ الوالدة تخزن لنا بعض أكواز الرمّان من الحاكورة في الموسم، وتعلّقها في السقف، نتسلّى بها حول الموقد في ليالي الشتاء الطويلة. وإذ وصلنا خبر الأوامر بالرحيل، كانت سلّة الرمّان المعلّقة في السقف ضحيّتنا الطبيعيّة. لمن نترك الرمّان معلّقا في السقف؟ قلنا للوالدة. نأكله نحن اليوم ولا نتركه لليهود. نحن أصحابه أولى به. كان ردّ الوالدة الصمت المذعن طبعا. نحن أصحاب الرمّان ، أولى بالرمّان من غيرنا.هكذا مرّة واحدة اختلفتِ المعايير كلّها إذ بلغتنا الأوامر بالرحيل عنْ قريتنا وبيتنا!
أذكر أيضا، وكيف لي أن أنسى: كنّا جالسين في البيت ذات مساء، بعد أشهر من الاحتلال، والرحيل الافتراضي، وإذا بصديقين من "الحارة الشرقيّة" يدخلان علينا فجأة. لم يكد الصديقان يجلسان حتّى أخرج كلّ منهما ورقة من جيبه، وقال أكبرهما، إذ رأى السؤال على وجه الوالد ووجوهنا جميعا: الحجّة ما عاد لها لزوم أبو داود، انقضتْ على خير. أقسم والدي لصديقيه الأقربين من الحارة الشرقيّة أنّ المسألة غابتْ عنْ فكره. نسيتُ المسألة والله، أجابهما الوالد. النسيان في هذي الحالة أحسن. ألله لا يعيد هذيك الأيّام! على كلّ حال، داري أمان. لا أهتمّ حتى لو ظلّت الحجّة على طول، بأرضي وأرض موسى، مع الناس الأوادم!
إذا كان والدي نسي مسألة "الحجّة" في ذلك اليوم الأسود، فنحن لم نعرف، ولم نسمع من قبل حتّى، عن "حجّة" تشهد ببيع أرضنا وأرض عمّي موسىى للصديقين الأقربين من الحارة الشرقيّة. أخذ الوالد الورقتين، مزّقهما معا، ألقى بهما في النار، وأخذ يشرح لنا حكاية "الحجّة" تلك: لمّا وصلنا خبر الأوامر بترحيل المسيحيّين عن قريتهم وبيوتهم إلى لبنان، كما حدث لجيرانّا في الرامة، كانت الأرض أوّل ما خطر ببالي. طيّب، نرحل بحسب أوامر الجيش، لكن الأرض؟ فشروا! كتبت وكتّبت موسى حجّة بيع مشترى بأرضنا الاثنين أحسن ما تروح الأرض لليهود. أنا نسيت القصّة، والله، وراحت من بالي تماما! لكن لا أبو محمّد نسي ولا أبو سلمان!
"الحجّة" نسيها أبي، لكن الأيّام السوداء تلك، كيف ننساها؟! أنا أيضا ما زالتْ محفورة في رأسي، مثل الكتابات القديمة على الفخّار في طبقات الأرض العميقة. وهل يمكن لطفل نسيان الرحيل الداهم عن القرية والبيت والعين والحواكير . . وكلّ ما عرفناه في قريتنا أيّام الطفولة؟
رحيلنا ذاك كان في الواقع رحيلا افتراضيّا. ذقنا الرحيل في مخيّلتنا فقط. كان مؤلما، لكنّه في ظنّي لا يمكن أن يداني الرحيل الفعلي، عن البيت والحارة والقرية، حسرة وإيلاما. فرق كبير بين مغادرة القرية، وكلّ ما لك فيها بجسدك،ورحيلك عنها في الخيال فقط.
على كلّ حال، لم يكنْ صعبا علينا، نحن في البقيعة، تخيّل الرحيل بمعانيه المادّية والعاطفيّة أيضا. كانت قريتنا، في تلك الأيام الهجينة، أشبه بممرّ للّاجئين من لوبية وصفّورية، وقرى أخرى كثيرة ضربتْ أسماؤها أسماعنا أوّل مرّة في حياتنا. بعضهم كان يمرّ مواصلا طريقه إلى الشمال، وكثيرون كانوا يحطّون ليقضوا ليلتهم تحت الزيتون، ثمّ يواصلون طريق الخروج مع طلوع النهار. كلّ المعايير والأعراف تتغيّر، وقد فارقت بلدك وبيتك. "علول" مثل العروس يعرضونه لمقايضته بطعام وأرغفة للعائلة الجوعى تحت الزيتون!
إذا كان رحيلنا نحن في البقيعة رحيلا افتراضيّا، فرحيل نصارى الرامة المجاورة كان رحيلا واقعيا، أو نصف واقعي على الأقلّ! في الرامة المجاورة كان للوالد بيتان، أكثر من أقارب. البيت الأوّل صداقة "تليدة" موغلة في القدم، قبل أن نولد وقبل أن يتزوّج الوالد طبعا، قد أعرض لها ذات يوم. أمّا الصداقة الأخرى فهي صداقة "مطرفة"، وليدة أحدات ال 48 بالذات.
المسيحيّون في الرامة تلقّوا مثلنا الأوامر بالرحيل. الفرق أننا نحن لم نفارق قريتنا وبيوتنا.أمّا أهل الرامة من المسيحيّين ففارقوا بيوتهم، تاركينها كما هي، ليصل بعضهم إلى بيت جن، وآخرون إلى قريتنا البقيعة، منهم .الصداقة المطرفة المذكورة أعلاه. بل إنّ بعضهم واصلوا طريق الخروج إلى لبنان، ليبقوا هناك على طول، بعيدين عن وطنهم، عن قريتهم وبيوتهم. لاجئون يحلمون بالعودة ذات يوم، مثل كثيرين غيرهم في بلاد الله الواسعة.
عاد نصارى الرامة إلى بيوتهم، إلى قريتهم بعد إلغاء أوامر الترحيل، فوجدوا البيوت وقد نُهبتْ تماما. إلا مَنْ كان جارهم شهما، مثل صداقة الوالد التليدة بالذات. حكى لنا الأصدقاء هؤلاء أنّ جارهم شهر بندقيّته مقسما أنّه سيفرّغها في رأس كلّ منْ يتخطّى عتبة الباب.
عاد أصدقاؤنا هؤلاء إلى بيتهم فوجدوه في انتظارهم ، كما تركوه تنفيذا للأوامر بالرحيل، بابه مقفل وداخله لم يُمسّ بسوء!
هذا هو الرحيل الذي ذقناه. رحيل افتراضي. أمّا جيراننا في الرامة فما كان رحيلهم افتراضيّا، ولا رحيلا كاملا أيضا!
[من كتاب" ملفات الذات"، ص. 15 – 17]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل