الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشكلة الاقتصادية .. قراءة في تقرير قديم

أحمد فاروق عباس

2022 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


فى اهرام يوم الجمعة ٨ أبريل عام ١٩٧٧ تقرير مهم عن الحالة الاقتصادية العامة للبلاد ، وهو عن قصة ١٨ يوم قضاها الدكتور عبد المنعم القيسونى نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية والمالية ، والدكتور صلاح حامد وزير المالية فى جولة لدول الخليج العربية ، وإجراء إتصالات مع المسئولين العرب حول إمكانيات دعمها للموقف الاقتصادى والمالى لمصر مما يساعدها فى الخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تمر بها ..

والقصة بدأت بعد حوادث ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ - رفع أسعار السلع وما تبعها من مظاهرات هائلة - سمتها المعارضة مظاهرات الخبز ، وسماها السادات انتفاضة الحرامية ، عندما زار مصر الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي ومعه وزير المالية السعودى ، ثم جاء إلى مصر وزير المالية فى قطر ، ثم وزير الخارجية الكويتى صباح الأحمد ليعرضوا إمكانات دولهم فى المساعدة في حل المشكلة الاقتصادية فى مصر ..

قابل الرئيس السادات الزوار العرب ، وشرح لهم الموقف بالتفصيل ، وطلب من القيسونى وضع كل الأرقام والبيانات تحت تصرفهم ..

وقام وزير الخارجية السعودي بجولة في الدول العربية أسفرت عن عقد اجتماع لوزراء الخارجية ثم وزراء المالية استمرت جلسته الأولى ٦ ساعات ..

وبناء على ذلك سافر الدكتور القيسونى وباقى الوفد المصري إلى بعض الدول العربية ، وفى السعودية قابلوا الأمير - الملك فيما بعد - فهد بن عبد العزيز ، الذى قال أن الدول العربية وافقت على تقديم مبلغ ١٥٠٠ مليون دولار هذا العام ، لمساعدة مصر فى إزالة الاختناقات التى يمر بها اقتصادها ..

عاد الدكتور عبد المنعم القيسونى - وقد عمل الرجل فى عهد الرئيسين جمال عبد الناصر وانور السادات ، وهو من أكفأ واخلص رجال الاقتصاد فى مصر - إلى مصر ، وشرح للأهرام أبعاد الموقف الاقتصادى فى مصر .. وكان كالآتى :

** إن ديون مصر وصلت إلى مرحلة حرجة مع بداية عام ١٩٧٧ ، وكان أمام مصر أربعة أنواع من الديون :

أ - مطلوب ٨٣٤ مليون جنيه تقريبا لسداد التسهيلات المصرفية التى نحصل عليها بأسعار فائدة ١٥ - ١٨ % ، ونسددها على أجال أقصاها ٦ شهور ، وكذلك لسداد تسهيلات الموردين الأجانب ، التى كان لابد من سدادها في مدة لا تتجاوز سنة ..

ب - مطلوب ٩٩٥ مليون جنيه قيمة الودائع والفوائد الخاصة بالدول العربية ، وهى الاموال التى اودعتها الدول العربية فى البنك المركزي المصري ، وقد حل مواعيد سدادها ، ومن هذه الودائع مبلغ ٤٠٨ مليون جنيه للسعودية ، ومبلغ ٣٨٩ للكويت ..
ج - مطلوب ١٣٤٥ مليون جنيه التزامات عامة ، وهى الديون الخاصة بالهيئات الدولية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولي وصناديق التنمية العربية والدول المختلفة كألمانيا واليابان وانجلترا وأمريكا وإيران وفرنسا ..

د - مطلوب ١٦٥٠ مليون جنيه لتسديد قيمة قروض مدنية وعسكرية - شراء سلاح - من دول الكتلة الشرقية ( الاتحاد السوفيتي والصين ودول شرق أوربا ) ..

ويستمر الدكتور عبد المنعم القيسونى فى الحديث ..

- أنه قد تم حل النوع الأول والثانى من الديون ، فالمبلغ الذى قدمته دول الخليج لمصر - ١٥٠٠ مليون جنيه - سيوجه لسداد الديون قصيرة الأجل وكذلك تسهيلات الموردين ..
وأن ذلك سيرفع عنا ديونا بقيمة هذا المبلغ من الديون الاجمالية لهذا العام ، كما سيوفر الفرق الكبير بين سعر الفائدة التى ندفعها الآن ، وهى من ١٥ - ١٨ % وسعر الفائدة التى سندفعها للدول العربية وهى ٥ % ..

- أما النوع الثاني من الديون الذى أمكن حله فهو الخاص بالودائع العربية فى البنك المركزي المصري ، فقد وافقت السعودية والكويت على تأجيل المطالبة بها ، ولكن ستستمر الحكومة المصرية فى دفع الفائدة المستحقة عليها ..

- اما بالنسبة للديون العامة ، فهى التزامات طويلة الأجل ، ويمكن التعامل معها بأعصاب أهدأ ، فقروض صندوق النقد الدولي يتم سدادها على فترة ٤ أو ٥ سنوات ، وقروض البنك الدولى تسدد على ١٥ عاما ، وقروض هيئة التنمية الدولية التابعة له وكذلك قروض هيئات التنمية العربية تسدد على فترة تمتد أحيانا إلى ٤٠ سنة ..

- اما بالنسبة للديون العسكرية ، وهى قيمة أسلحة ومعدات حربية استخدمتها مصر فى حروبها مع إسرائيل ، فلم يتم التوصل بشأنها - والكلام للقيسونى - إلى اتفاق ..

وهى ديون ستظل مشكلة بالنسبة لمصر ، حتى يتم تصفيتها ووضع ترتيبات خاصة بها مع الاتحاد السوفيتي فى منتصف الثمانينات ، وفى عهد الرئيس حسنى مبارك ..

ويستمر القيسونى أيضا في الكلام ..

اننا بذلك استطعنا حل المشكلة الاقتصادية بالنسبة لهذا العام - عام ١٩٧٧ - ولكن ماذا عن الغد وبعد الغد ؟!
إن الأموال التى أتيحت لمصر - سواء مبلغ ١٥٠٠ مليون جنيه من الدول العربية أو مبلغ ١٠٠٠ مليون جنيه من أمريكا ، أو تأجيل دفع الودائع ، أو المنحة الألمانية ، أو قروض صناديق التنمية - كلها تمثل مساعدات مالية للاقتصاد المصرى ..
ولكن إذا استخدمنا هذه الاموال في الاستهلاك كما يحدث الآن ، ودعم كل سلعة ترتفع أسعارها ، أو إذا استمررنا في شراء الكماليات والجاتوهات ، فإننا سنقضى على فرصة استثمارها في شئ مفيد ، وسنعود في عام ١٩٧٨ نشكو ما كنا نشكو منه في بداية عام ١٩٧٧ ..

ثم يقدم الدكتور القيسونى الوصفة التى يعرفها الجميع ، والتى توصى بها كل الحكومات ، دون أن يتمكن أحد من تطبيقها في الواقع .. وهى :
زيادة الإنتاج ، وزيادة القدرة على الادخار ، وتمويل حجم أكبر من الاستثمارات على تحقيق ارتفاع مطرد في مستوى المعيشة ..

لقد كان معدل النمو السنوى للدخل القومى فى مصر يتراوح بين ٦,٥ - ٧ % فى النصف الأول من الستينات ، ثم أصبح من ٣ - ٤ % فى النصف الثاني من الستينات واوائل السبعينات ، ومعدل السكان يزيد ٢,٥ % سنويا ، اى أن مستوى المعيشة ينحدر باستمرار ، أننا نأمل أن يتحقق معدل نمو ٧ % هذا العام وإذا وصلنا إلى معدل نمو ١٢ % عام ١٩٨٢ فإننا سنرى بداية النور فى نهاية النفق ( لم يتحقق ذلك بالطبع ) ..

وفى الإجابة على سؤال : أين تذهب الاموال التى تحصل عليها مصر ، وهل تذهب فعلا فى غير الاغراض المخصصة لها ؟!

كان رد الدكتور القيسونى :
حصلت مصر فى مناسبات مختلفة على أموال وخصوصا من الأشقاء العرب ، وكان جزءا من هذه الاموال مخصصا للأغراض الحربية ، دفاعا عن مصر وعن الأمة العربية ، وكان جزءا آخر مخصصا للأغراض المدنية .. بنية أساسية أو مشروعات جديدة ..

وذهبت أموال فعلا فى غير الأغراض التى خصصت لها ، فبحكم الظروف والملابسات التى تمر بها مصر اقتصاديا وماليا ، لا يمكن مثلا أن أضع الاموال التى حصلت عليها لإقامة مصنع فى الوقت الذى كانت تحتاج مصر فيه إلى هذه الأموال لاستيراد قوت الشعب الضروري ، أو لاستيراد المعدات والأسلحة اللازمة لتحرير أرضها ، أو لسداد ديون متأخرة يحل موعد سدادها ..

.. وكان باقى حديث القيسونى عن أمور أخرى تخص الاقتصاد المصرى .

ولى على تقرير الأهرام المنشور في ٨ أبريل ١٩٧٧ وحديث الدكتور عبد المنعم القيسونى عدة ملاحظات :

١ - إن مشكلات مصر الاقتصادية تكاد تكون شبه متفق على تشخيصها ، ولكن الإختلاف الأعظم يأتى من الاختلاف على وسائل علاجها ..
فهناك من يرى أن تدخل الدولة القوى فى الاقتصاد هو علاجها ، و هناك من يرى أن ترك الفرصة كاملة أمام القطاع الخاص ، وازالة كافة المعوقات من أمامه هو الحل الوحيد ..

- وهناك من يرى أن الاستثمار الحكومى الكبير والمستمر في الصناعة والزراعة هو وسيلة الحل الوحيدة ، وهناك من يقول بالعكس ، فالاستثمار الأجنبى المباشر وما يجلبه من أموال ومن تكنولوجيا هو الحل الوحيد ..

- وهناك من ينادى بتوجيه أغلب الاستثمارات إلى الصناعة والزراعة أولا ، وهى ما سوف تشد معها باقى القطاعات ، بينما هناك من يرى العكس ، فلنبدأ بالتعليم والصحة ومستوى رفاهية الشعب ، وعندها سوف تتقدم مصر ويتقدم المصريون ، وآخرون يرون بأن القضاء على الفساد هو الحل الشافى ، وعند القضاء عليه سيغرف المصريون من خيرات بلدهم اللانهائية !!

وهناك من يرى الحل في الرأسمالية ، وهناك من يراه فى الاشتراكية ، وهناك من ينادى بأن الإقتصاد الإسلامى هو الحل الناجع لكل المشكلات ..
وفى النهاية لن تجد اثنين من المصريين يتفقان على علاج واحد لمشكلات بلدهم الاقتصادية ..

٢ - أن المشكلات التى عرضها القيسونى ، هى تقريبا التى جعلت الرئيس السادات يذهب فى نهاية ذلك العام - فى ١٩ نوفمبر ١٩٧٧ - إلى إسرائيل طالبا السلام معها ، وإنهاء حالة الحرب ..
لقد جرب السادات طريق الحل الداخلى ، وقرر أن يتحمل المصريون ظروف بلدهم ، وتم رفع الاسعار فى منتصف يناير ١٩٧٧ ، لكن الشعب رفض ذلك وخرج في مظاهرات صاخبة فى يومى ١٨ و ١٩ يناير وتراجع السادات ، ثم جرب بعدها الذهاب إلى الدول العربية للمساعدة ، ورغم ان الدول العربية - للحقيقة والتاريخ - لم تتأخر ، إلا أن ذلك الطريق لم يكن بلا نهاية ، وكان لابد أن يأتى الوقت الذى يتململ فيه العرب ..
ومن ثم كان خيار السادات الذهاب إلى إسرائيل ، وطلب السلام معها لكى يتفرغ لمشاكل مصر الاقتصادية ..

وليس ذلك تبريرا لما فعله السادات ، فأنا واحد من الناس الذين يرفضون تماما ذهابه إلى إسرائيل ، وطلبه السلام عن هذا الطريق الغريب ، فألف وسيلة كان يمكن الوصول إلى السلام عن طريقها غير أن أذهب إلى عدوى في داره واطلب مغفرته وسماحه بالصلح معى !!

لكن ذلك - للأسف - ما جرى ، وأصبح الآن تاريخا لا يمكننا تغييره ..

وكما يقال دائما أن الحرص يذل اعناق الرجال ، فقد أذلت المشكلة الاقتصادية عنق مصر ، وفرضت عليها في أحيان كثيرة ما لا يمكن قبوله ..

إن ادانه الفترات التاريخية المختلفة سهل وميسور أمام الكل ، لكن الفهم والبحث متعب ، وأيسر منه إلقاء الكلام على عواهنه وإصدار الأحكام ، وفى هذه الناحية نحن لا يشق لنا غبار ..

إن المشكلة الاقتصادية فى مصر عابرة للعصور ونظم الحكم ، وحتى أيام حكم الإخوان ، لم انتقدهم من زاوية اقتصادية ابدا ، بل انتقدتهم - ومازلت - من زاويا أخرى كثيرة ، وكنت أعرف أن المشكلة الاقتصادية فى مصر أكبر منهم ، وعموما لم يكن لدى الإخوان - من كلامهم أيامها وافعالهم ومن وثائقهم المنشورة فى الصحافة التابعة لهم أو منشورات حزبهم - ما كان يدل على فهم حقيقي للمشكلة الاقتصادية أو تعامل جدى معها ..

وحتى الاقتصاديين - وهو مجال عملهم - لم يبدى كثيرون منهم فهما عميقا لأسس مشكلة مصر الاقتصادية وطرق حلها ، ولقد كان رأيي دائما انه بمقدار أن الحرب وشئونها أخطر من أن تترك للعسكريين - كما يقال - فإن الإقتصاد وشئونه أخطر من أن يترك للاقتصاديين ..

آن الأوان أن يفهم المصريون مشاكل بلدهم بصورة حقيقية ، وبدون تهوين أو بدون تهويل ، وأن يفهموا الظروف والملابسات ، من غير أن يتلاعب بعقولهم أحد ..

وآن الأوان أن يحزموا امرهم - دولة ورجال اقتصاد ورجال أعمال ومنتجين وشعب - على طريق يتفق الجميع على السير فيه وتحمل تكاليفه مهما كانت ، وأن يقف الجميع كالرجال مع بلدهم .. وبدون لطم أو ولولة كالنساء كما يفعل البعض الآن ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط